( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين . واعلموا أن فيكم رسول الله ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ؛ ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ، أولئك هم الراشدون ، فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم ) . .
كان النداء الأول لتقرير جهة القيادة ومصدر التلقي . وكان النداء الثاني لتقرير ما ينبغي من أدب للقيادة وتوقير . وكان هذا وذلك هو الأساس لكافة التوجيهات والتشريعات في السورة . فلا بد من وضوح المصدر الذي يتلقى عنه المؤمنون ، ومن تقرير مكان القيادة وتوقيرها ، لتصبح للتوجيهات بعد ذلك قيمتها ووزنها وطاعتها . ومن ثم جاء هذا النداء الثالث يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء وكيف يتصرفون بها ، ويقرر ضرورة التثبت من مصدرها :
( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ، أن تصيبوا قوما بجهالة ، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) . .
ويخصص الفاسق لأنه مظنة الكذب . وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء ، فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتها . فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها ، وأن تكون أنباؤهم مصدقة مأخوذا بها . فأما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خبره . وبذلك يستقيم أمر الجماعة وسطا بين الأخذ والرفض لما يصل إليها من أنباء . ولا تعجل الجماعة في تصرف بناء على خبر فاسق . فتصيب قوما بظلم عن جهالة وتسرع . فتندم على ارتكابها ما يغضب الله ، ويجانب الحق والعدل في اندفاع .
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على صدقات بني المصطلق . وقال ابن كثير . قال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم فتلقوه بالصدقة ، فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك - زاد قتادة وأنهم قد ارتدوا عن الإسلام - فبعث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إليهم ، وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالدا - رضي الله عنه - أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد - رضي الله عنه - فرأى الذي يعجبه ؛ فرجع إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة . قال قتادة : فكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " التثبت من الله والعجلة من الشيطان " . . وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل بن حبان . وغيرهم في هذه الآية أنها نزلت في الوليد بن عقبة . والله أعلم . . [ انتهى كلام ابن كثير في التفسير ] " . .
ومدلول الآية عام ، وهو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق ؛ فأما الصالح فيؤخذ بخبره ، لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة ، وخبر الفاسق استثناء . والأخذ بخبر الصالح جزء من منهج التثبت لأنه أحد مصادره . أما الشك المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار ، فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة ، ومعطل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة . والإسلام يدع الحياة تسير في مجراها الطبيعي ، ويضع الضمانات والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها ابتداء . وهذا نموذج من الإطلاق والاستثناء في مصادر الأخبار .
الفاسق : الخارج عن حدود الدين .
بنبأ : بخبر . قال الراغب في مفرداته : لا يقال للخبر نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة .
فتبينوا : فتثبتوا ، وفي قراءة فتثبتوا .
تقرر هذه الآية الكريمة مبدأً عظيماً للمؤمنين : كيف يتلقَّون الأنباء وكيف يتصرفون بها ، وأن عليهم أن يتثبَّتوا من مصدرها . وقد خُصَّ الفاسقُ لأنه مظنّةُ الكذب ، أما إذا كان مصدر الخبر من المأمون في دينه وخلقه فإنه يؤخذ بأخباره ، ولا يجوز أن يُشك فيه ، وإلا تعطّلت المصالح ، وتزعزعت الثقة بين المؤمنين ، وتعطل سير الحياة وتنظيمها في الجماعة . والإسلام يدعُ الحياة تسير في مجراها الطبيعي ، ويضع الضماناتِ والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها . وقد روي في سبب نزول هذه الآيات روايات قَبِلها كثير من المفسرين وضعّفها بعضهم ، ومنهم الرازي . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
قرأ حمزة والكسائي : فتثبتوا ، من التثبت والتريث في الأمور ، وقرأ الباقون : فتبينوا ، من التبين والتريث ، والفعلان قريبان من بعض .
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } الآية ، نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقاً ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلناه من حق الله عز وجل ، فبدا له الرجوع ، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاتهمهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدوم قومه ، وقال له : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم ، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار ، ففعل ذلك خالد ، ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء ، فأخذ منهم صدقاتهم ، ولم ير منهم إلا الطاعة والخير ، فانصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق } يعني الوليد بن عقبة ، { بنبأ } بخبر ، { فتبينوا أن تصيبوا } أي لا تصيبوا بالقتل والقتال ، { قوماً } برآء ، { بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } من إصابتكم بالخطأ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي إلى بني المصطلق، وهم حي من خزاعة، ليقبض صدقة أموالهم، فلما بلغهم ذلك فرحوا واجتمعوا ليتلقوه، فبلغ الوليد ذلك فخافهم على نفسه، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية من أجل شيء كانوا أصابوه، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: طردوني ومنعوني الصدقة، وكفروا بعد إسلامهم، فلما قال ذلك انتدب المسلمون لقتالهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا، حتى أعلم العلم"، فلما بلغهم أن الوليد رجع من عندهم، بعثوا وفدا من وجوههم فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فقالوا: يا رسول الله، إنك أرسلت إلينا من يأخذ صدقاتنا فسررنا بذلك، وأردنا أن نتلقاه، فذكر لنا أنه رجع من بعض الطريق فخفنا أنه إنما رده غضب علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، والله ما رأيناه ولا أتانا، ولكن حمله على ذلك شيء كان بيننا وبينه في الجاهلية، فهو يطلب يدخل الجاهلية، فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى في الوليد ثلاث آيات متواليات بفسقه وكذبه {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ} يقول: إن جاءكم كاذب بحديث كذب {فتبينوا أن تصيبوا} قتل {قوما بجهالة} وأنتم جهال بأمرهم، يعني بني المصطلق {فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} يعني الذين انتدبوا لقتال بني المصطلق...
فأمر الله من يمضي أمره على أحد من عباده أن يكون مستبينا قبل أن يمضيه، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم خاصة أن لا يحكم الحاكم وهو غضبان، لأن الغضبان مخوف على أمرين: أحدهما، قلة التثبت. والآخر، أن الغضب قد يتغير معه العقل ويتقدم به صاحبه على ما لم يكن يتقدم به لو لم يكن غضب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله" إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ "عن قوم "فَتَبَيّنُوا".
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: "فَتَبَيّنُوا" فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة «فَتَثَبّتُوا» بالثاء، وذُكر أنها في مصحف عبد الله منقوطة بالثاء. وقرأ ذلك بعض القرّاء فتبيّنوا بالباء، بمعنى: أمهلوا حتى تعرفوا صحته، لا تعجلوا بقبوله، وكذلك معنى «فَتَثَبّتُوا».
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذُكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط...
وقوله: "أنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهالَةٍ" يقول تعالى ذكره: فتبيّنوا لئلا تصيبوا قوما برآء مما قُذفوا به بجناية بجهالة منكم "فَتُصْبِحُوا على ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ" يقول: فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها.
قال أبو بكر: مقتضى الآية إيجابُ التثبّت في خبر الفاسق والنهي عن الإقدام على قبوله والعمل به إلاّ بعد التبيُّن والعلم بصحة مخبره، وذلك لأن قراءة هذه الآية على وجهين: "فتثبَّتوا " من التثبت، و {فَتَبَيَّنُوا}، كلتاهما يقتضي النهي عن قبول خبره إلا بعد العلم بصحته؛ لأن قوله: " فتثبتوا " فيه أمر بالتثبت لئلا يصيب قوماً بجهالة، فاقتضى ذلك النهي عن الإقدام إلا بعد العلم لئلا يصيب قوماً بجهالة، وأما قوله: {فَتَبَيَّنُوا} فإن التبيُّنَ هو العلم، فاقتضى أن لا يقدم بخبره إلا بعد العلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(يا ايها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) خطاب من الله – عز وجل -للمؤمنين بأنه (إن جاءكم فاسق) وهو الخارج من طاعة الله إلى معصيته (بنبأ) أي بخبر عظيم الشأن (فتبينوا) صدقه من كذبه ولا تبادروا إلى العمل بمتضمنه (أن تصيبوا قوما بجهالة) لأنه ربما كان كاذبا وخبره كذبا، فيعمل به فلا يؤمن بذلك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
دلَّت الآية على تَرْكِ السكون إلى خَبَرِ الفاسق إلى أن يظهر صِدْقُه. وفي الآية إشارة إلى تَركِ الاستماعِ إلى كلام الساعي والنَّمامِ والمغتابِ للناس. والآيةُ تَدُلُّ على قبول خبرِ والواحدِ إذا كان عَدْلاً. والفاسقُ هو الخارجُ عن الطاعة. ويقال هو الخارج عن حدِّ المروءة. ويقال: هو الذي ألقى جِلبابَ الحياء...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(إن جاءكم فاسق) قالوا: الفاسق هاهنا هو الكذاب... وقوله: (فتبينوا) وقرئ: "فتثبتوا " ومعناهما متقارب، وهو ترك العجلة، والتدبر والتأني في الأمر...
وقوله: (أن تصيبوا قوما بجهالة) معناه: لئلا تصيبوا قوما بجهالة، ومعنى الإصابة هاهنا: هو الإصابة من الدم والمال بالقتل والأسر والاغتنام.
وقوله: (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) أي: تصيروا نادمين على فعلكم، وليس المراد منه الإصباح للذي هو ضد الإمساء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وفي تنكير الفاسق والنبأ: شياع في الفساق والأنباء، كأنه قال: أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ. فتوقفوا فيه وتطلبوا الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق «لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه. والفسوق: الخروج من الشيء والانسلاخ منه... قيل: إن جاءكم بحرف الشك وفيه أنّ على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة، لئلا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور {ءانٍ} مفعول له، أي: كراهة إصابتكم {تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} حال... يعني جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة. والإصباح: بمعنى الصيرورة. والندم: ضرب من الغم، وهو: أن تغتمّ على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزام، لأنه كلما تذكر المتندّم عليه راجعه من الندام: وهو لزام الشريب ودوام صحبته...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
مَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ بَطَلَ قَوْلُهُ فِي الْأَخْبَارِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ أَمَانَةٌ، وَالْفِسْقَ قَرِينَةٌ تُبْطِلُهَا، فَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَبْطُلُ إجْمَاعًا. وَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لَا يَكُونُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: يَكُونُ وَلِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَلِي مَالَهَا فَيَلِي بُضْعَهَا، كَالْعَدْلِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ إلَّا أَنَّ غِيرَتَهُ مُوَفَّرَةٌ، وَبِهَا يَحْمِي الْحَرِيمَ، وَقَدْ يَبْذُلُ الْمَالَ وَيَصُونُ الْحُرْمَةَ، فَإِذَا وُلِّيَ الْمَالَ فَالْبُضْعُ أَوْلَى...
قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ} إشارة إلى لطيفة، وهي أن المؤمن كان موصوفا بأنه شديد على الكافر غليظ عليه، فلا يتمكن الفاسق من أن يخبره بنبأ، فإن تمكن منه يكون نادرا، فقال: {إن جاءكم} بحرف الشرط الذي لا يذكر إلا مع التوقع،... أي فاسق جاءكم بأي نبأ، فالتثبت فيه واجب...
{أن تصيببوا قوما بجهالة} والجهل فوق الخطأ، لأن المجتهد إذ أخطأ لا يسمى جاهلا، والذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصب جهل فلا يكون البناء على قوله جائزا...
{فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} بيانا لأن الجاهل لا بد من أن يكون على فعله نادما...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
وهاهنا فائدة لطيفة: وهي أنه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق وتكذيبه وشهادته جملة، وإنما أمر بالتبيُّن، فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق، ولو أخبر به من أخبر. فهكذا ينبغي الاعتماد في رواية الفاسق وشهادته. وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم، بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري، وفسقه من جهات أخرى. فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته، ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق، وبطل كثير من الأخبار الصحيحة، ولاسيما مَنْ فسقه من جهة الكذب: فإن كثر منه وتكرر، بحيث يغلب كذبه على صدقه، فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا} وعبر بالفعل الماضي الذي هو لأدنى أسنان القلوب، وعبر بأداة الشك إيذاناً بقلة الفاسق فيهم وقلة مجيئه إليهم بخبر له وقع، فقال: {إن جاءكم} أي في وقت من الأوقات {فاسق} أي خارج من ربقة الديانة أيّ فاسق كان {بنبأ} أي خبر يعظم خطبه فيؤثر شراً، أيّ خير كان مما يكون كذلك؟ {فتبينوا} أي عالجوا البيان وهو فصل الخطأ من الصواب، استعمالاً لغريزة العقل المنفي عن المنادين واتصافاً بالغفران والرحمة ليرحمكم الله ويغفر لكم...
ولما أمر بالتبين، ذكر علته فقال: {أن} أي- لأجل كراهة أن {تصيبوا} أي بأذى {قوماً} أي هم مع قوتهم النافعة لأهل الإسلام براء مما نسب إليهم {بجهالة} أي مع الجهل بحال استحاقهم ذلك...
{فتصبحوا} أي فتصيروا، ولكنه عبر بذلك لأن أشنع الندم ما استقبل الإنسان صباحاً وقت انتباهه وفراغه وإقباله على لذاته {على ما فعلتم} أي- من إصابتهم {نادمين} أي عريقين في الأسف على ما فات...
.والفاسق المذكور في الآية المراد به الجنس.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} أي: فاستظهروا صدقه من كذبه، بطريق آخر كراهة {أن تصيبوا قوما بجهالة} أي قوما برآء مما قذفوا به بغية أذيتهم بجهالة لاستحقاقهم إياها، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم {فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} أي فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا، أن تصيبوا قوما بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).. ويخصص الفاسق لأنه مظنة الكذب. وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء، فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتها. فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها، وأن تكون أنباؤهم مصدقة مأخوذا بها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى {فتبينوا} تبينوا الحق، أي من غير جهة ذلك الفاسق. فخبر الفاسق يكون داعياً إلى التتبع والتثبت يصلح لأن يكون مستنداً للحكم بحال من الأحوال... وتنكير {فاسق}، و {نَبأ}، في سياق الشرط يفيد العموم في الفساق بأي فسق اتصفوا، وفي الأنباء كيف كانت، كأنه قيل: أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبَأ فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشافه...
{فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} أنه تحذير من الوقوع فيما يوجب الندم شرعاً، أي ما يوجب التوبة من تلك الإصابة، فكان هذا كناية عن الإثم في تلك الإصابة فحُذر ولاة الأمور من أن يصيبوا أحداً بضر أو عقاب أو حد أو غرم دون تبيّن وتحقق توجه ما يوجب تسليط تلك الإصابة عليه بوجه يوجب اليقين أو غلبة الظن وما دون ذلك فهو تقصير يؤاخذ عليه...
{على ما فعلتم نادمين} للاهتمام بذلك الفعل، وهو الإصابة بدون تثبت والتنبيه على خطر أمره...
{ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } نزلت في الوليد بن عقبة بعثه
7 9 رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا إلى قوم كانت بينه وبينهم ترة في الجاهلية فخاف أن يأتيهم وانصرف من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إنهم منعوا الصدقة وقصدوا قتلي فذلك قوله { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } أي فاعلموا صدقه من كذبه { أن تصيبوا } لئلا تصيبوا { قوما بجهالة } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أن يغزوهم حتى يتبين له طاعتهم
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " قيل : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط . وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم - في رواية : لإحنة كانت بينه وبينهم - ، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام . فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه ، فعاد إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فنزلت هذه الآية ، فكان يقول نبي الله صلى الله عليه وسلم : [ التأني من الله والعجلة من الشيطان ] . وفي رواية : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد إسلامهم ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم خافهم ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن القوم قد هموا بقتله ، ومنعوا صدقاتهم . فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم ، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فاستمر راجعا ، وبلغنا أنه يزعم لرسول الله أنا خرجنا لنقاتله ، والله ما خرجنا لذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وسمي الوليد فاسقا أي كاذبا . قال ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله : الفاسق الكذاب . وقال أبو الحسن{[14068]} الوراق : هو المعلن بالذنب . وقال ابن طاهر : الذي لا يستحي من الله . وقرأ حمزة والكسائي " فتثبتوا " من التثبت . الباقون " فتبينوا " من التبيين " أن تصيبوا قوما " أي لئلا تصيبوا ، ف " أن " في محل نصب بإسقاط الخافض . " بجهالة " أي بخطأ . " فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " على العجلة وترك التأني .
الثانية- في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا ، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق . ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا ، لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها . وقد استثنى الإجماع من جملة ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود ، وإثبات حق مقصود على الغير ، مثل أن يقول : هذا عبدي ، فإنه يقبل قوله . وإذا قال : قد أنفذ فلان هذا لك هدية ، فإنه يقبل ذلك . وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر . وكذلك إذا أقر لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعا . وأما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره : لا يكون وليا في النكاح . وقال أبو حنيفة ومالك : يكون وليا ، لأنه يلي مالها فيلي بضعها . كالعدل ، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفرة وبها يحمي الحريم ، وقد يبذل المال ويصون الحرمة ، وإذا ولي المال فالنكاح أولى .
الثالثة- قال ابن العربي : ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق . ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف{[14069]} يصح أن يؤتمن على قنطار دين . وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم ، ولا استُطيعت إزالتهم صلي معهم ووراءهم ، كما قال عثمان : الصلاة أحسن ما يفعل الناس ، فإذا أحسنوا فأحسن ، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم . ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة لله ، ومنهم من كان يجعلها صلاته . وبوجوب الإعادة أقول ، فلا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة من لا يرضى من الأئمة ، ولكن يعيد سرا في نفسه ، ولا يؤثر ذلك عند غيره .
الرابعة- وأما أحكامه إن كان واليا فينفذ منها ما وافق الحق ويرد ما خالفه ، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال ، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تؤثر{[14070]} أو قول يحكى ، فإن الكلام كثير والحق ظاهر .
الخامسة-لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله ، أو إذن يعلمه ، إذا لم يخرج عن حق المرسل ، والمبلغ ، فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله . وهذا جائز للضرورة الداعية اليه ، فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منها{[14071]} شيء لعدمهم في ذلك . والله أعلم .
السادسة- وفي الآية دليل على فساد قول من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول ، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم ، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة .
فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة ، كالقضاء بالشاهدين العدليين ، وقبول قول العالم المجتهد . وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله . ذكر هذه المسألة القشيري ، والذي قبلها المهدوي .