في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم مدنية وآياتها اثنتا عشرة

عندما جرى قدر الله أن يجعل الإسلام هو الرسالة الأخيرة ؛ وأن يجعل منهجه هو المنهاج الباقي إلى آخر الخليقة ؛ وأن تجري حياة المؤمنين به وفق الناموس الكوني العام ؛ وأن يكون هذا الدين هو الذي يقود حياة البشرية ويهيمن على نشاطها في كل ميدان . .

عندما جرى قدر الله بهذا كله جعل الله هذا المنهج في هذه الصورة ، شاملا كاملا متكاملا ، يلبي كل طاقات البشر واستعداداتهم ، في الوقت الذي يرفع هذه الطاقات وهذه الاستعدادات إلى الأفق اللائق بخليفة الله في الأرض ، وبالكائن الذي كرمه الله على كثير من عباده ، ونفخ فيه من روحه .

وجعل طبيعة هذا الدين الانطلاق بالحياة إلى الأمام : نموا وتكاثرا ، ورفعة وتطهرا ، في آن واحد . فلم يعطل طاقة بانية ، ولم يكبت استعدادا نافعا . بل نشط الطاقات وأيقظ الاستعدادات وفي الوقت ذاته حافظ على توازن حركة الاندفاع إلى الأمام مع حركة الارتفاع إلى الأفق الكريم ، الذي يهيئ الأرواح في الدنيا لمستوى نعيم الآخرة ، ويعد المخلوق الفاني في الأرض للحياة الباقية في دار الخلود .

وعندما جرى قدر الله أن يجعل طبيعة هذه العقيدة هكذا جرى كذلك باختيار رسولها [ صلى الله عليه وسلم ] إنسانا تتمثل فيه هذه العقيدة بكل خصائصها ، وتتجسم فيه بكل حقيقتها ، ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها . إنسانا قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلها . ضليع التكوين الجسدي ، قوي البنية ، سليم البناء ؛ صحيح الحواس ، يقظ الحس ، يتذوق المحسوسات تذوقا كاملا سليما . وهو في ذات الوقت ضخم العاطفة ، حي الطبع ، سليم الحساسية ، يتذوق الجمال ، متفتح للتلقي والاستجابة . وهو في الوقت ذاته كبير العقل ، واسع الفكر ، فسيح الأفق ، قوي الإرادة ، يملك نفسه ولا تملكه . . ثم هو بعد ذلك كله . . النبي . . الذي تشرق روحه بالنور الكلي ، والذي تطيق روحه الإسراء والمعراج ، والذي ينادى من السماء ، والذي يرى نور ربه ، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كل شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر ، فيسلم عليه الحصى والحجر ، ويحن له الجذع ، ويرتجف به أحد - الجبل . . ! . . ثم تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلها . فإذا هو التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها . .

ثم يجعل الله حياته الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمته وللبشرية كلها ، تقرأ فيه صور هذه العقيدة ، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية . ومن ثم لا يجعل فيها سرا مخبوءا ، ولا سترا مطويا . بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن ، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي . حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر . بل إن الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] للناس !

إنه ليس له في نفسه شيء خاص . فهو لهذه الدعوة كله . فعلام يختبئ جانب من حياته [ صلى الله عليه وسلم ] أو يخبأ ? إن حياته هي المشهد المنظور القريب الممكن التطبيق من هذه العقيدة ؛ وقد جاء [ صلى الله عليه وسلم ] ليعرضها للناس في شخصه ، وفي حياته ، كما يعرضها بلسانه وتوجيهه . ولهذا خلق . ولهذا جاء .

ولقد حفظ عنه أصحابه [ صلى الله عليه وسلم ] ونقلوا للناس بعدهم - جزاهم الله خيرا - أدق تفصيلات هذه الحياة . فلم تبق صغيرة ولا كبيرة حتى في حياته اليومية العادية ، لم تسجل ولم تنقل . . وكان هذا طرفا من قدر الله في تسجيل حياة هذا الرسول ، أو تسجيل دقائق هذه العقيدة مطبقة في حياة الرسول . فكان هذا إلى جانب ما سجله القرآن الكريم من هذه الحياة السجل الباقي للبشرية إلى نهاية الحياة .

وهذه السورة تعرض في صدرها صفحة من الحياة البيتية لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وصورة من الانفعالات والاستجابات الإنسانية بين بعض نسائه وبعض ، وبينهن وبينه ! وانعكاس هذه الانفعالات والاستجابات في حياته [ صلى الله عليه وسلم ] وفي حياة الجماعة المسلمة كذلك . . ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ما وقع في بيوت رسول الله وبين أزواجه .

والوقت الذي وقعت فيه الأحداث التي تشير إليها السورة ليس محددا . ولكن بالرجوع إلى الروايات التي جاءت عنه يتأكد أنه بعد زواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب بنت جحش قطعا .

ولعله يحسن أن نذكر هنا ملخصا عن قصة أزواج النبي ، وعن حياته البيتية يعين على تصور الحوادث والنصوص التي جاءت بصددها في هذه السورة . ونعتمد في هذا الملخص على ما أثبته الإمام ابن حزم في كتابه : " جوامع السيرة " . . وعلى السيرة لابن هشام مع بعض التعليقات السريعة :

أول أزواجه [ صلى الله عليه وسلم ] خديجة بنت خويلد . تزوجها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل ثلاث وعشرون ، وسنها - رضي الله عنها - أربعون أو فوق الأربعين ، وماتت - رضي الله عنها - قبل الهجرة بثلاث سنوات ، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت . وقد تجاوزت سنه الخمسين .

فلما ماتت خديجة تزوج عليه السلام سودة بنت زمعة - رضي الله عنها - ولم يرو أنها ذات جمال ولا شباب . إنما كانت أرملة للسكران بن عمرو بن عبد شمس . كان زوجها من السابقين إلى الإسلام من مهاجري الحبشة . فلما توفي عنها ، تزوجها رسول الله - [ صلى الله عليه وسلم ] .

ثم تزوج عائشة - رضي الله عنها - بنت الصديق أبي بكر - رضي الله عنه وأرضاه - وكانت صغيرة فلم يدخل بها إلا بعد الهجرة . ولم يتزوج بكرا غيرها . وكانت أحب نسائه إليه ، وقيل كانت سنها تسع سنوات وبقيت معه تسع سنوات وخمسة أشهر . وتوفي عنها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .

ثم تزوج حفصة بنت عمر - رضي الله عنه وعنها - بعد الهجرة بسنتين وأشهر . تزوجها ثيبا . بعدما عرضها أبوها على أبي بكر وعلى عثمان فلم يستجيبا . فوعده النبي خيرا منهما وتزوجها !

ثم تزوج زينب بنت خزيمة . وكان زوجها الأول عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب قد قتل يوم بدر . وتوفيت زينب هذه في حياته [ صلى الله عليه وسلم ] . وقيل كان زوجها قبل النبي هو عبد الله بن جحش الأسدي المستشهد يوم أحد . ولعل هذا هو الأقرب .

وتزوج أم سلمة . وكانت قبله زوجا لأبي سلمة ، الذي جرح في أحد ، وظل جرحه يعاوده حتى مات به . فتزوج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أرملته . وضم إليه عيالها من أبي سلمة .

وتزوج زينب بنت جحش . بعد أن زوجها لمولاه ومتبناه زيد بن حارثة فلم تستقم حياتهما فطلقها . وقد عرضنا قصتها في سورة الأحزاب في الجزء الثاني والعشرين ، وكانت جميلة وضيئة . وهي التي كانت عائشة - رضي الله عنها - تحس أنها تساميها ، لنسبها من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهي بنت عمته ، ولوضاءتها !

ثم تزوج جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد غزوة بني المصطلق في أواسط السنة السادسة الهجرية . قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها . قالت : " لما قسم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في أسهم الثابت ابن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها ، وكانت امرأة حلوة مليحة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه ، فأتت رسول لله [ صلى الله عليه وسلم ] تستعينه في كتابتها . قالت عائشة : فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها ! وعرفت أنه سيرى منها [ صلى الله عليه وسلم ] ما رأيت ، فدخلت عليه فقالت : يا رسول الله . أنا جويرية بنت الحارث بن أبي صرار سيد قومه . وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس - أو لابن عم له - فكاتبته على نفسي ، فجئت أستعينك على كتابتي . قال : " فهل لك في خير من ذلك ? " قالت : وما هو يا رسول الله ? قال : " أقضي عنك كتابتك وأتزوجك ? " قالت : نعم يا رسول الله . قال : " قد فعلت " " . .

ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بعد الحديبية . وكانت مهاجرة مسلمة في بلاد الحبشة ، فارتد زوجها عبد الله بن جحش إلى النصرانية وتركها . فخطبها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأمهرها عنه نجاشي الحبشة . وجاءت من هناك إلى المدينة .

وتزوج إثر فتح خيبر بعد الحديبية صفية بنت حيي بن أخطب زعيم بني النضير . وكانت زوجة لكنانة ابن أبي الحقيق وهو من زعماء اليهود أيضا . ويذكر ابن إسحاق في قصة زواجه [ صلى الله عليه وسلم ] منها : أنه أتي بها وبأخرى معها من السبي ، فمر بهما بلال - رضي الله عنه - على قتلى من قتلى اليهود فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " اعزبوا عني هذه الشيطانة " وأمر بصفية فحيزت خلفه ، وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد اصطفاها لنفسه . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لبلال - فيما بلغني - حين رأى بتلك اليهودية ما رأى : " أنزعت منك الرحمة يا بلال ? حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما ? " .

ثم تزوج ميمونة بنت الحارث بن حزن . وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس . وكانت قبل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عند أبي رهم بن عبد العزى . وقيل حويطب بن عبد العزى . وهي آخر من تزوج [ صلى الله عليه وسلم ] .

وهكذا ترى أن لكل زوجة من أزواجه [ صلى الله عليه وسلم ] قصة وسببا في زواجه منها . وهن فيمن عدا زينب بنت جحش ، وجويرية بنت الحارث ، لم يكن شواب ولا ممن يرغب فيهن الرجال لجمال . وكانت عائشة - رضي الله عنها - هي أحب نسائه إليه . وحتى هاتان اللتان عرف عنهما الجمال والشباب كان هناك عامل نفسي وإنساني آخر - إلى جانب جاذبيتهن - ولست أحاول أن أنفي عنصر الجاذبية الذي لحظته عائشة في جويرية مثلا ، ولا عنصر الجمال الذي عرفت به زينب . فلا حاجة أبدا إلى نفي مثل هذه العناصر الإنسانية من حياة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وليست هذه العناصر موضع اتهام يدفعه الأنصار عن نبيهم . إذا حلا لأعدائه أن يتهموه ! فقد اختير ليكون إنسانا . ولكن إنسانا رفيعا . وهكذا كان . وهكذا كانت دوافعه في حياته وفي أزواجه [ صلى الله عليه وسلم ] على اختلاف الدوافع والأسباب .

ولقد عاش في بيته مع أزواجه بشرا رسولا كما خلقه الله ، وكما أمره أن يقول : ( قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ? ) . .

استمتع بأزواجه وأمتعهن ، كما قالت عائشة - رضي الله عنها - عنه : " كان إذا خلا بنسائه ألين الناس . وأكرم الناس ضحاكا بساما " . . ولكنه إنما كان يستمتع بهن ويمتعهن من ذات نفسه ، ومن فيض قلبه ، ومن حسن أدبه ، ومن كريم معاملته . فأما حياتهن المادية فكانت في غالبها كفافا حتى بعد أن فتحت له الفتوح وتبحبح المسلمون بالغنائم والفيء . وقد سبق في سورة الأحزاب قصة طلبهن الوسعة في النفقة ، وما أعقب هذا الطلب من أزمة ، انتهت بتخييرهن بين الله ورسوله والدار الآخرة ، أو المتاع والتسريح من عصمته [ صلى الله عليه وسلم ] فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة .

ولكن الحياة في جو النبوة في بيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لم تكن لتقضي على المشاعر البشرية ، والهواتف البشرية في نفوس أزواجه - رضي الله عنهن - فقد كان يبدر أو يشجر بينهن ، ما لابد أن يشجر في قلوب النساء في مثل هذه الحال . وقد سلف في رواية ابن إسحاق عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كرهت جويرية بمجرد رؤيتها لما توقعته من استملاح رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لها إذا رآها . وصح ما توقعته فعلا ! وكذلك روت هي نفسها حادثا لها مع صفية . قالت . " قلت للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] : حسبك من صفية كذا وكذا " . قال الراوي : تعني قصيرة ! فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " . . كذلك روت عن نفسها أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين نزلت آية التخيير التي في الأحزاب ، فاختارت هي الله ورسوله والدار الآخرة ، طلبت إليه ألا يخبر زوجاته عن اختيارها ! - وظاهر لماذا طلبت هذا ! - فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن الله تعالى لم يبعثني معنفا ، ولكن بعثني معلما ميسرا . لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها . . " .

وهذه الوقائع التي روتها عائشة - رضي الله عنها - عن نفسها - بدافع من صدقها ولتربيتها الإسلامية الناصعة - ليست إلا أمثلة لغيرها تصور هذا الجو الإنساني الذي لابد منه في مثل هذه الحياة . كما تصور كيف كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يؤدي رسالته بالتربية والتعلية في بيته كما يؤديها في أمته سواء .

وهذا الحادث الذي نزل بشأنه صدر هذه السورة هو واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وفي حياة أزواجه . وقد وردت بشأنه روايات متعددة ومختلفة سنعرض لها عند استعراض النصوص القرآنية في السورة .

وبمناسبة هذا الحادث وما ورد فيه من توجيهات . وبخاصة دعوة الزوجتين المتآمرتين فيه إلى التوبة . أعقبه في السورة دعوة إلى التوبة وإلى قيام أصحاب البيوت على بيوتهم بالتربية ، ووقاية أنفسهم وأهليهم من النار . كما ورد مشهد للكافرين في هذه النار . واختتمت السورة بالحديث عن امرأة نوح وامرأة لوط كمثل للكفر في بيت مؤمن . وعن امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر ، وكذلك عن مريم ابنة عمران التي تطهرت فتلقت النفخة من روح الله وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين . .

يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ، تبتغي مرضاة أزواجك ، والله غفور رحيم . قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم .

وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض ، فلما نبأها به قالت : من أنبأك هذا ? قال : نبأني العليم الخبير .

( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ، وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ، والملائكة بعد ذلك ظهير . عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا ) . .

وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة منها ما رواه البخاري عند هذه الآية قال : حدثنا إبراهيم ابن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة ، قالت : كان النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، ويمكث عندها . فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير . إني أجد منك ريح مغافير . قال : " لا . ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له . وقد حلفت . لا تخبري بذلك أحدا " . . فهذا هو ما حرمه على نفسه وهو حلال له : ( لم تحرم ما أحل الله لك ? ) .

ويبدو أن التي حدثها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هذا الحديث وأمرها بستره قالت لزميلتها المتآمرة معها . فأطلع الله رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] على الأمر . فعاد عليها في هذا وذكر لها بعض ما دار بينها وبين زميلتها دون استقصاء لجميعه . تمشيا مع أدبه الكريم . فقد لمس الموضوع لمسا مختصرا لتعرف أنه يعرف وكفى . فدهشت هي وسألته : ( من أنبأك هذا ? ) . . ولعله دار في خلدها أن الأخرى هي التي نبأته ! ولكنه أجابها : ( نبأني العليم الخبير ) . . فالخبر من المصدر الذي يعلمه كله . ومضمون هذا أن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يعلم كل ما دار ، لا الطرف الذي حدثها به وحده !

وقد كان من جراء هذا الحادث وما كشف عنه من تآمر ومكايدات في بيت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن غضب . فآلى من نسائه لا يقربهن شهرا ، وهم بتطليقهن - على ما تسامع المسلمون - ثم نزلت هذه الآيات . وقد هدأ غضبه [ صلى الله عليه وسلم ] فعاد إلى نسائه بعد تفصيل سنذكره بعد عرض رواية أخرى للحادث .

وهذه الرواية الأخرى أخرجها النسائي من حديث أنس ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها . فأنزل الله عز وجل : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ؛ تبتغي مرضات أزواجك . . .

وفي رواية لابن جرير ولابن أسحاق أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وطئ مارية أم ولده إبراهيم في بيت حفصة . فغضبت وعدتها إهانة لها . فوعدها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بتحريم مارية وحلف بهذا . وكلفها كتمان الأمر . فأخبرت به عائشة . . فهذا هو الحديث الذي جاء ذكره في السورة .

وكلا الروايتين يمكن أن يكون هو الذي وقع . وربما كانت هذه الثانية أقرب إلى جو النصوص وإلى ما أعقب الحادث من غضب كاد يؤدي إلى طلاق زوجات الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] نظرا لدقة الموضوع وشدة حساسيته . ولكن الرواية الأولى أقوى إسنادا . وهي في الوقت ذاته ممكنة الوقوع ، ويمكن أن تحدث الآثار التي ترتبت عليها . إذا نظرنا إلى المستوى الذي يسود بيوت النبي ، مما يمكن أن تعد فيه الحادثة بهذا الوصف شيئا كبيرا . . والله أعلم أي ذلك كان .

أما وقع هذا الحادث - حادث إيلاء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من أزواجه ، فيصوره الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو يرسم كذلك جانبا من صورة المجتمع الإسلامي يومذاك . . قال : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن ابن عباس قال : " لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] اللتين قال الله تعالى : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما )حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة ، فتبرز ، ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] اللتان قال الله تعالى : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما )? فقال عمر : واعجبا لك يا ابن عباس ! [ قال الزهري : كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه ] قال : هي عائشة وحفصة . قال : ثم أخذ يسوق الحديث ، قال : كنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم . قال : وكان منزلي في دار أمية بن زيد بالعوالي . قال : فغضبت يوما على امرأتي ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني . فقالت : ما تنكر أن أراجعك ? فوالله إن أزواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ! قال : فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت : أتراجعين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قالت : نعم ! قلت : وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل ? قالت : نعم ! قلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت ? لا تراجعي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولا تسأليه شيئا وسليني من مالي ما بدا لك ، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم - أي أجمل - وأحب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] منك - يريد عائشة - قال : وكان لي جار من الأنصار وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ينزل يوما وأنزل يوما ، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك . قال : وكنا نتحدث أن غسان تنحل الخيل لتغزونا . فنزل صاحبي يوما ثم أتى عشاء فضرب بابي ثم نادى ، فخرجت إليه ، فقال : حدث أمر عظيم . فقلت : وما ذاك ? أجاءت غسان ? قال : لا . بل أعظم من ذلك وأطول ! طلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نساءه ! فقلت : قد خابت حفصة وخسرت ! قد كنت أظن هذا كائنا . حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي . فقلت : أطلقكن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم ? - فقالت : لا أدري . هو هذا معتزل في هذه المشربة . فأتيت غلاما أسودا فقلت : استأذن لعمر . فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال : ذكرتك له فصمت ! فانطلقت حتى أتيت المنبر ، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم . فجلست عنده قليلا ، ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر . فدخل ثم خرج إلي فقال : ذكرتك له فصمت ! فخرجت فجلست إلى المنبر ، ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر . فدخل ثم خرج إلي فقال : ذكرتك له فصمت ! فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني . فقال : ادخل قد أذن لك . فدخلت فسلمت على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه . فقلت : أطلقت يا رسول الله نساءك ? فرفع رأسه إلي وقال : " لا " . فقلت : الله أكبر ! ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك ? فوالله إن أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل . فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ؛ فإذا هي قد هلكت ? فتبسم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] منك ! فتبسم أخرى . فقلت : أستأنس يا رسول الله ! قال : " نعم " فجلست ، فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا هيبة مقامه فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله . فاستوى جالسا وقال : " أفي شك أنت يا بن الخطاب ? أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " . فقلت : استغفر لي يا رسول الله . . وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل " . . [ وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري بهذا النص ] . .

هذه رواية الحادث في السير . فلننظر في السياق القرآني الجميل :

تبدأ السورة بهذا العتاب من الله سبحانه لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] :

يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ، تبتغي مرضاة أزواجك ، والله غفور رحيم ? قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، والله مولاكم ، وهو العليم الحكيم . .

وهو عتاب مؤثر موح . فما يجوز أن يحرم المؤمن على نفسه ما أحله الله له من متاع . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يكن حرم العسل أو مارية بمعنى التحريم الشرعي ؛ إنما كان قد قرر حرمان نفسه . فجاء هذا العتاب يوحي بأن ما جعله الله حلالا فلا يجوز حرمان النفس منه عمدا وقصدا إرضاء لأحد . . والتعقيب : ( والله غفور رحيم ) . . يوحي بأن هذا الحرمان من شأنه أن يستوجب المؤاخذة ، وأن تتداركه مغفرة الله ورحمته . وهو إيحاء لطيف .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم مدنية وآياتها اثنتا عشرة ، نزلت بعد سورة الحجرات . وهي تسمى سورة النبي ، لأنها تعرض في أولها صفحة من الحياة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصورة من الانفعالات الإنسانية بين بعض نسائه ، وبينهن وبينه ، وانعكاس هذه الانفعالات وما يترتب عليها في حياته صلى الله عليه وسلم ، وفي المجتمع الإسلامي آنذاك ، ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ذلك .

وقد مر معنا في سورة الحجرات وصف حجرات النبي ، وأنها كانت بسيطة جدا ، فهي من لبن وسقفها من الجريد ، وأبوابها ستائر من الخيش والشَعر .

وكانت حياته صلى الله عليه وسلم في بيته بسيطة غاية البساطة . وكما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : كان إذا خلا بنسائه ألينَ الناس ، وأكرم الناس ، ضحّاكا بسّاما . وكان يستمتع بنسائه ويمتعهن من ذات نفسه ، ومن فيض قلبه ، ومن حسن أدبه ، ومن كريم معاملته ، وكما تقول عائشة : كان في بيته في خدمة أهله .

فأما حياته المادية وحياة أزواجه فكانت في غالبها كفافا بعد أن افتُتحت له الفتوح وتبحبح المسلمون بالغنائم والفيء ، تقول السيدة عائشة : يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيت رسول الله نار .

وكان يقع بين نسائه بعض الشجار ، يغار بعضهن من بعض ، شأن بقية الناس . وكانت بعضهن تتآمر على غيرها من ضرائرها وهكذا . . .

والحادث الذي نزل بشأنه أول هذه السورة الكريمة واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول الكريم ، وفي حياة أزواجه . وقد وردت في ذلك عدة روايات لا مجال لذكرها ، لكنا سنذكر بعضها عند تفسير الآيات .

أشارت السورة الكريمة إلى أمر من هذه الأمور أغضب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض زوجاته ، فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفوس مما أحله الله له ، وحذَّرَت زوجاته مغبّة ما أقدمن عليه . ثم انتقلت السورة إلى أمر المؤمنين أن يقوا أنفسهم وأهليهم نارا وقودها الناس والحجارة ، وبينت أنه لا يُقبل من الكافرين اعتذار يوم القيامة ، ودعت المؤمنين إلى التوبة ، كما دعت الرسول الكريم إلى جهاد الكفار والمنافقين والشدة معهم . ثم خُتمت سورة التحريم بضرب بعض الأمثلة : إن صلاح الأزواج لا يرد عذاب الله عن زوجاتهم المنحرفات ، وأن فساد الأزواج لا يضر الزوجات إن كن صالحات مستقيمات ، { كل نفس بما كسبت رهينة } . . .

تحرّم : تمتنع عن .

تبتغي : تطلب .

الحديث في هذه الآيات الكريمة عما كان يجري في بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالرسول الكريم بشَرٌ يجري في بيته ما يكونُ في بيوت الناس ، من شِجارٍ بين أزواجه وغيرةٍ وما شابه ذلك .

وقد وردتْ رواياتٌ متعدّدة في سبب نزول الآيات ، من أصحُّها أنه شربَ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش ، فغارت عائشةُ وحفصةُ من ذلك . واتّفقتا أنّ أيّ واحدةٍ منهما دخلَ عليها النبي الكريم تقول له : إنّي أجِدُ منك ريحَ مغافير . ( والمغافيرُ صَمغٌ حلو له رائحةٌ كريهة ) .

وأولَ ما دخل على حفصةَ قالت له ذلك ، فقال لها : بل شربتُ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش ، ولن أعودَ له . وأُقسِم على ذلك ، فلا تُخبري بذلك أحدا .

فأخبرت حفصةُ بذلك عائشةَ وكانتا ، كما تقدّم ، متصافيتَين متفقتين . . . . فعاتبَ الله تعالى نبيَّه على تحريمِه ما أحلَّه الله له كي يُرضيَ بعضَ زوجاته .

وبعدَ عتابِه الرقيق وندائه : يا أيّها النبيّ . . . . قال تعالى { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية في قول الجميع ، وهي اثنتا عشرة آية . وتسمى سورة " النبي " .

فيه خمس مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " يا أيها النبي لم تحرِّمُ ما أحل الله لك " ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي لله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا ، قالت : فتواطأت أنا وحفصة أن أَيَّتَنَا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير{[15119]} ! أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك . فقال : ( بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له ) . فنزل : " لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله - إن تتوبا : ( لعائشة وحفصة ) ، " وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا " [ التحريم 30 ] لقوله : ( بل شربت عسلا ) . وعنها أيضا قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ، فكان إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنو منهن ، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عن ذلك فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل ، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة . فقلت : أما والله لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسودة وقلت : إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول لك لا . فقولي له : ما هذه الريح ؟ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح - فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل . فقولي له : جَرَسَتْ نَحْلُه العُرْفُط . وسأقول ذلك له ، وقوليه أنت يا صفية . فلما دخل على سودة - قالت : تقول سودة : والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي ، وإنه لعلى الباب ، فَرَقاً{[15120]} منك . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ قال : ( لا ) قالت : فما هذه الريح ؟ قال : ( سقتني حفصة شربة عسل ) قال : جَرَسَتْ نحلُه العُرْفُط . فلما دخل علي قلت له مثل ذلك . ثم دخل على صفية فقالت بمثل ذلك . فلما دخل على حفصة قالت : يا رسول الله ، ألا أسقك منه . قال ( لا حاجة لي به ) قالت : تقول سودة سبحان الله ! والله لقد حرمناه{[15121]} . قالت : قلت لها اسكتي . ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة . وفي الأولى زينب . وروي ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة . وقد قيل : إنما هي أم سلمة ، رواه أسباط عن السدي . وقاله عطاء بن أبي مسلم . ابن العربي : وهذا كله جهل أو تصور بغير علم . فقال باقي نسائه حسدا وغيرة لمن شرب ذلك عندها : إنا لنجد منك ريح المغافير . والمغافير : بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة ، فيها حلاوة . واحدها مغفور ، وجرست : أكلت . والعُرْفُط : نبت له ريح كريح الخمر . وكان عليه السلام يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها ، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك . فهذا قول .

وقول آخر - أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها لأجل أزواجه ، قاله ابن عباس وعكرمة . والمرأة أم شريك . وقول ثالث - إن التي حرم مارية القبطية ، وكان قد أهداها له المقوقس ملك الإسكندرية . قال ابن إسحاق : هي من كُورة أنْصِنا{[15122]} من بلد يقال له حفن فواقعها في بيت حفصة . روي الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها - فقالت له : تدخلها بيتي ! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك . فقال لها : ( لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها ) قالت حفصة : وكيف تحرم عليك وهي جاريتك ؟ فحلف لها ألا يقربها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تذكريه لأحد ) . فذكرته لعائشة ، فآلى لا يدخل على نسائه شهرا ، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة ، فأنزل الله عز وجل " لم تحرم ما أحل الله لك " الآية .

الثانية- أصح هذه الأقوال أولها . وأضعفها أوسطها . قال ابن العربي : " أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته ، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها ؛ لأن من رد ما وهب له لم يحرم عليه ، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل . وأما من روي أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى ، لكنه لم يدون في الصحيح . وروي مرسلا . وقد روي ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم فقال : ( أنت علي حرام والله لا آتينك ) . فأنزل الله عز وجل في ذلك : " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " وروي مثله ابن القاسم عنه . وروي أشهب عن مالك قال : راجعت عمر امرأة من الأنصار في شيء فاقشعر من ذلك وقال : ما كان النساء هكذا ! قال : بلى ، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه . فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت . فلما بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر نساءه قال : رغم أنف حفصة . وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه ، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك . ونزلت الآية في الجميع .

الثالثة- قوله تعالى : " لم تحرم " إن كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا . ولا يحرم قول الرجل : " هذا علي حرام " شيئا حاشا الزوجة . وقال أبو حنيفة : إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس ، وكانت يمينا توجب الكفارة . وقال زفر : هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون . وعول المخالف على أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل فلزمته الكفارة . وقد قال الله تعالى : " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " [ التحريم : 2 ] فسماه يمينا . ودليلنا قول الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا{[15123]} " [ المائدة : 87 ] ، وقوله تعالى : " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون{[15124]} " [ يونس : 59 ] . فذم الله المحرم للحلال ولم يوجب عليه كفارة . قال الزجاج : ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله . ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه . فمن قال لزوجته أو أمته : أنت علي حرام ، ولم ينو طلاقا ولا ظهارا ، فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين . ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة . ولو حرم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك . وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة .

الرابعة- واختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته : " أنت علي حرام " على ثمانية عشر قولا : أحدها : لا شيء عليه . وبه قال الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ . وهو عندهم كتحريم الماء والطعام ، قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " [ المائدة : 87 ] والزوجة من الطيبات ومما أحل الله . وقال تعالى : " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام{[15125]} " [ النحل : 116 ] . وما لم يحرمه الله فليس لأحد أن يحرمه ، ولا أن يصير بتحريمه حراما . ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله هو علي حرام . وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله : ( والله لا أقربها بعد اليوم ) فقيل له : لم تحرم ما أحل الله لك ، أي لم تمتنع منه بسبب اليمين . يعني أقدم عليه وكفر .

ثانيها : أنها يمين يكفرها ، قاله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم – والأوزاعي ، وهو مقتضى الآية . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : إذا حرم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها . وقال ابن عباس : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته فقال الله تعالى : " لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله تعالى - قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " فكفر عن يمينه وصير الحرام يمينا . خرجه الدارقطني .

ثالثها : أنها تجب فيها كفارة وليست بيمين ، قاله ابن مسعود وابن عباس أيضا في إحدى روايتيه ، والشافعي في أحد قوليه ، وفي هذا القول نظر . والآية ترده على ما يأتي .

رابعها : هي ظهار ، ففيها كفارة الظهار ، قال عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق .

خامسها : أنه إن نوى الظهار وهو ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه كان ظهارا . وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين . وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين ، قاله الشافعي .

سادسها : أنها طلقة رجعية ، قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبدالعزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون . وسابعها : أنها طلقة بائنة ، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت . ورواه ابن خويز منداد عن مالك .

ثامنها : أنها ثلات تطليقات ، قال علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضا وأبو هريرة .

تاسعها : هي في المدخول بها ثلاث ، وينوي في غير المدخول بها ، قاله الحسن وعلي بن زيد والحكم . وهو مشهور مذهب مالك .

عاشرها : هي ثلاث ، ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل{[15126]} ، قاله عبدالملك في المبسوط ، وبه قال ابن أبي ليلى .

حادي عشرها : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي التي دخل بها ثلاث ، قاله أبو مصعب ومحمد بن عبدالحكم{[15127]} .

ثاني عشرها : أنه إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى . فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا . فإن نوى ثنتين فواحدة . فإن لم ينو شيئا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته ، قاله أبو حنيفة وأصحابه . وبمثله قال زفر ، إلا أنه قال : إذا نوى اثنتين ألزمناه .

ثالث عشرها : أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقا ، قاله ابن القاسم .

رابع عشرها : قال يحيى بن عمر : يكون طلاقا ؛ فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار .

خامس عشرها : إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده . وإن نوى واحدة فهي رجعية . وهو قول الشافعي رضي الله عنه . وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين .

سادس عشرها : إن نوى ثلاثا فثلاثا ، وإن واحدة فواحدة . وإن نوى يمينا فهي يمين . وإن لم ينو شيئا فلا شيء عليه . وهو قول سفيان . وبمثله قال الأوزاعي وأبو ثور ، إلا أنهما قالا : إن لم ينو شيئا فهي واحدة .

سابع عشرها : له نيته ولا يكون أقل من واحدة ، قاله ابن شهاب . وإن لم ينو شيئا لم يكن شيء ، قاله ابن العربي . ورأيت لسعيد بن جبير وهو :

الثامن عشر : أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا . ولست أعلم لها وجها ولا يبعد{[15128]} في المقالات عندي .

قلت : قد ذكره الدارقطني في سننه عن ابن عباس فقال : حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا روح قال : حدثنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي علي حراما . فقال : كذبت ! ليست عليك بحرام ، ثم تلا " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " عليك أغلظ الكفارات : عتق رقبة . وقد قال جماعة من أهل التفسير : إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة ، وعاد إلى مارية صلى الله عليه وسلم ، قاله زيد بن أسلم وغيره .

قال علماؤنا : سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة ، فتجاذبها العلماء لذلك . فمن تمسك بالبراءة الأصلية فقال : لا حكم ، فلا يلزم بها شيء . وأما من قال إنها يمين ، فقال : سماها الله يمينا . وأما من قال : تجب فيها كفارة وليست بيمين ، فبناه على أحد أمرين : أحدهما : أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها وإن{[15129]} لم تكن يمينا . والثاني : أن معنى اليمين عنده التحريم ، فوقعت الكفارة على المعنى . وأما من قال : إنها طلقة رجعية ، فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه ، والرجعية محرمة الوطء كذلك ، فيحمل اللفظ عليه . وهذا يلزم مالكا ، لقوله : إن الرجعية محرمة الوطء . وكذلك وجه من قال : إنها ثلاث ، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث . وأما من قال : إنه ظهار ، فلأنه أقل درجات التحريم ، فإنه تحريم لا يرفع النكاح . وأما من قال : إنه طلقة بائنة ، فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة ، وأن الطلاق البائن يحرمها . وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا ، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفارة . ابن العربي : " وهذا لا يصح ؛ لأنه جمع بين المتضادين ، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد ، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل . وأما من قال : إنه ينوى في التي لم يدخل بها ، فلأن الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا . وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته : إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع ، فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه . وأما من قال : إنه ثلاث فيهما ، فلأنه أخذ بالحكم الأعظم ، فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها . ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم " . والله أعلم . وهذا كله في الزوجة . وأما في الأمة فلا يلزم فيها شيء من ذلك ، إلا أنه ينوي به العتق عند مالك . وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين . ابن العربي . والصحيح أنها طلقة واحدة ؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدده . كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر ، مثل أن يقول أنت علي حرام إلا بعد زوج ، فهذا نص على المراد .

قلت : أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها بجاريته ، ذكره الثعلبي . وعلى هذا فكأنه قال : لا يحرم عليك ما حرمته على نفسك ولكن عليك كفارة يمين ، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضا . فكأنه قال : لم يحرم عليك ما حرمته ، ولكن ضممت إلى التحريم يمينا فكفر عن اليمين . وهذا صحيح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ثم حلف ، كما ذكره الدارقطني . وذكر البخاري معناه في قصة العسل عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جحش عسلا ويمكث عندها ، فتواطأت أنا وحفصة على أيَّتِنَا دخل عليها فلتقل : أكلت مغافير ؟ إني لأجد منك ريح مغافير ! قال : ( لا ولكن شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا ) . يبتغي مرضات أزواجه . فيعني بقوله : ( ولن أعود له على جهة التحريم . وبقوله : ( حلفت ) أي بالله ، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك ، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى : " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " يعني العسل المحرم بقوله : ( لن أعود له ) . " تبتغي مرضات أزواجك " أي تفعل ذلك طلبا لرضاهن . " والله غفور رحيم " غفور لما أوجب المعاتبة ، رحيم برفع المؤاخذة . وقد قيل : إن ذلك كان ذنبا من الصغائر . والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة .


[15119]:سيذكر المؤلف رحمه الله معنى هذه الكلمة والكلمات الآتية في هذا الحديث.
[15120]:قولها: "أن أبادئه"، أي أبدؤه وأناديه وهو لدى الباب لم يدن مني بعد بالكلام الذي علمتنيه. و"فرقا" أي خوفا من لومك.
[15121]:أي معناه شربة عسل.
[15122]:أنصنا (بالفتح ثم السكون وكسر الصاد المهملة والنون، مقصور): مدينة من نواحي الصعيد على شرقي النيل.
[15123]:راجع جـ 6 ص 260.
[15124]:راجع جـ 8 ص 354.
[15125]:راجع جـ 10 ص 195.
[15126]:كلمة "وإن لم يدخل" ليست في ابن العربي. وعبارة البحر لأبي حيان (جـ 8 ص 289): "هي ثلاث في الوجهين ولا ينوي في شيء" ونسبه أيضا لعبد الملك بن الماجشون وابن أبي ليلى.
[15127]:في ي: "محمد بن الحكم".
[15128]:في ابن العربي: "ولا يتعدد".
[15129]:في ابن العربي: "ولم تكن".
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مدنية ، وهي اثنتا عشرة آية . وهي مبدوءة بالعتاب من الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حرّمه على نفسه من الحلال استرضاء لبعض زوجاته . وما ينبغي أن يحرّم النبي على نفسه الحلال ليرضين عنه .

ويأمر الله عباده المؤمنين أن يصونوا أنفسهم ومن يلون من الأهلين من العذاب الحارق في نار متسعرة متأججة وقودها الناس والحجارة فيتقون ربهم ويأتمرون بأوامره ويفعلون الخير لعلهم ينجون .

ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمجاهدة الكافرين والمنافقين . فيجاهد الأولين الظالمين بالقتال ، ويجاهد الآخرين المخادعين بالحجة والمجادلة والبرهان . ثم يضرب الله لعباده مثلين من النساء . فمثل من النساء الكوافر ، زوجات لمؤمنين ، ومثل من النساء المؤمنات ، زوجات لكافرين .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ ياأيها النبي لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم 1 قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم 2 وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير 3 إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير 4 عسى ربه إن طلّقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا } .

في سبب نزول هذه الآيات روى ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده ، مارية القبطية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها . فقالت : لم تدخلها بيتي ، ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك . فقال لها : " لا تذكري هذا لعائشة ، وهي عليّ حرام إن قربتها " . قالت حفصة : وكيف تحرم عليك وهي جاريتك . فحلف لها لا يقربها وقال لها لا تذكريه لأحد . فذكرته لعائشة . فأبى أن يدخل على نسائه شهرا واعتزلهن تسعا وعشرين ليلة . فأنزل الله تبارك وتعالى : { لم تحرّم ما أحل الله لك } الآية{[4573]} .

وروى مسلم عن عائشة ( رضي الله عنها ) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا . قالت : فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير . أكلت مغافير{[4574]} ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك . فقال : " بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له " فنزل { لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك } يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم معاتبا : لم تحرم على نفسك الحلال الذي أحله الله لك ، تلتمس بتحريمك ذلك مرضاة زوجاتك { والله غفور رحيم } الله يغفر الذنوب لعباده المؤمنين ، وقد غفر لك هذه الزلة وهي تحريمك على نفسك ما أحله الله لك . والله جل وعلا رحيم بعباده أن يعاقبهم بعد أن يتوبوا .


[4573]:أسباب النزول للنيسابوري ص 291.
[4574]:المغافير: جمع مغفار، وهو صمغ حلو يسيل من شجر العرفط يؤكل. انظر المعجم الوسيط جـ 2 ص 656.