( ومنهم من يستمع إليك ، حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم : ماذا قال آنفا ? أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ، واتبعوا أهوائهم . . )
ولفظة : ( ومنهم )تحتمل أن تكون إشارة للذين كفروا الذين كان يدور الحديث عنهم في الجولة السابقة في السورة : باعتبار أن المنافقين في الحقيقة فرقة من الكفار مستورة الظاهر ، والله يتحدث عنها بحقيقتها في هذه الآية .
كما تحتمل أن تكون إشارة للمسلمين باعتبار أن المنافقين مندمجون فيهم ، متظاهرون بالإسلام معهم . وقد كانوا يعاملون معاملة المسلمين بحسب ظاهرهم ، كما هو منهج الإسلام في معاملة الناس .
ولكنهم في كلتا الحالتين هم المنافقون كما تدل عليه صفتهم في الآية وفعلهم ، وكما يدل السياق في هذه الجولة من السورة ، والحديث فيها عن المنافقين .
وسؤالهم ذاك بعد استماعهم للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والاستماع معناه السماع باهتمام - يدل على أنهم كانوا يتظاهرون تظاهرا بأنهم يلقون سمعهم وبالهم للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وقلوبهم لاهية غافلة . أو مطموسة مغلقة . كما أنه قد يدل من جانب آخر على الغمز الخفي اللئيم إذ يريدون أن يقولوا بسؤالهم هذا لأهل العلم : إن ما يقوله محمد لا يفهم ، أو لا يعني شيئا يفهم . فهاهم أولاء مع استماعهم له ، لا يجدون له فحوى ولا يمسكون منه بشيء ! كذلك قد يعنون بهذا السؤال السخرية من احتفال أهل العلم بكل ما يقوله محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وحرصهم على استيعاب معانيه وحفظ ألفاظه - كما كان حال الصحابة رضوان الله عليهم مع كل كلمة يتلفظ بها الرسول الكريم - فهم يسألونهم أن يعيدوا ألفاظه التي سمعوها على سبيل السخرية الظاهرة أو الخفية . . وكلها احتمالات تدل على اللؤم والخبث والانطماس والهوى الدفين :
وبعد بيان حال المشركين وسوء مصيرهم ، وصفَ حال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنهم ساعة يخرجون من عنده يقولون للواعين من الصحابة : ماذا قال محمد ونحن في مجلسه ؟ فإننا لم نفهم منه شيئا . وهذا كله سخرية واستهزاء .
{ أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ }
فهم مشغولون بالخبث وحطام الدنيا .
قرأ ابن كثير : أنفا بهمزة بغير مد على وزن حذر . والباقون : آنفا بمد الهمزة على وزن فاعل .
{ 16-17 } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ }
يقول تعالى : ومن المنافقين { مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } ما تقول استماعا ، لا عن قبول وانقياد ، بل معرضة قلوبهم عنه ، ولهذا قال : { حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } مستفهمين عما قلت ، وما سمعوا ، مما لم يكن لهم فيه رغبة { مَاذَا قَالَ آنِفًا } أي : قريبا ، وهذا في غاية الذم لهم ، فإنهم لو كانوا حريصين على الخير لألقوا إليه أسماعهم ، ووعته قلوبهم ، وانقادت له جوارحهم ، ولكنهم بعكس هذه الحال ، ولهذا قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي : ختم عليها ، وسد أبواب الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم ، التي لا يهوون فيها إلا الباطل .
قوله تعالى : " ومنهم من يستمع إليك " أي من هؤلاء الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، وزين لهم سوء عملهم قوم يستمعون إليك وهم المنافقون : عبد الله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن التابوت وزيد بن الصليت{[13927]} والحارث بن عمرو ومالك بن دخشم ، كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه ، فإذا خرجوا سألوا عنه ، قاله الكلبي ومقاتل . وقيل : كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين ، فيستمعون منه ما يقول ، فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر . " حتى إذا خرجوا من عندك " أي إذا فارقوا مجلسك . " قالوا للذين أوتوا العلم " قال عكرمة : هو عبد الله بن العباس . قال ابن عباس : كنت ممن يُسأل ، أي كنت من الذين أوتوا العلم . وفي رواية عن ابن عباس : أنه يريد عبد الله بن مسعود . وكذا قال عبد الله بن بريدة : هو عبد الله بن مسعود . وقال القاسم بن عبد الرحمن : هو أبو الدرداء . وقال ابن زيد : إنهم الصحابة . " ماذا قال آنفا " أي الآن ، على جهة الاستهزاء . أي أنا لم ألتفت إلى قوله . و " آنفا " يراد به الساعة التي هي أقرب الأوقات إليك ، من قولك : استأنفت الشيء إذا ابتدأت به . ومنه أمر أنف ، وروضة أنف ، أي لم يرعها أحد . وكأس أنف : إذا لم يشرب منها شيء ، كأنه استؤنف شربها مثل روضة أنف . قال الشاعر{[13928]} :
ويحرم سرُّ جارتهم عليهم *** ويأكل جارهم أنفَ القِصاع
وقال آخر{[13929]} :
إن الشِّواء والنَّشيل والرُّغُفْ *** والقيْنَةُ الحسناء والكأس الأنف
للطاعنين الخيل والخيل قُطُفْ{[13930]}
قد غَدَا يحملني في أَنْفِه{[13931]}
أي في أوله . وأنف كل شيء أوله . وقال قتادة في هؤلاء المنافقين : الناس رجلان : رجل عقل عن الله فانتفع بما سمع ، ورجل لم يعقل ولم ينتفع بما سمع . وكان يقال : الناس ثلاثة : فسامع عامل ، وسامع عاقل ، وسامع غافل تارك .
قوله تعالى : " أولئك الذين طبع الله على قلوبهم " فلم يؤمنوا . " واتبعوا أهواءهم " في الكفر .
{ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم }
{ ومنهم } أي الكفار { من يستمع إليك } في خطبة الجمعة وهم المنافقون { حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم } لعلماء الصحابة منهم ابن مسعود وابن عباس استهزاء وسخرية { ماذا قال آنفاً } بالمد والقصر ، الساعة ، أي لا نرجع إليه { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم بالكفر { واتعبوا أهواءهم } في النفاق .