( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين . واعلموا أن فيكم رسول الله ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ؛ ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ، أولئك هم الراشدون ، فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم ) . .
كان النداء الأول لتقرير جهة القيادة ومصدر التلقي . وكان النداء الثاني لتقرير ما ينبغي من أدب للقيادة وتوقير . وكان هذا وذلك هو الأساس لكافة التوجيهات والتشريعات في السورة . فلا بد من وضوح المصدر الذي يتلقى عنه المؤمنون ، ومن تقرير مكان القيادة وتوقيرها ، لتصبح للتوجيهات بعد ذلك قيمتها ووزنها وطاعتها . ومن ثم جاء هذا النداء الثالث يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء وكيف يتصرفون بها ، ويقرر ضرورة التثبت من مصدرها :
( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ، أن تصيبوا قوما بجهالة ، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) . .
ويخصص الفاسق لأنه مظنة الكذب . وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء ، فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتها . فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها ، وأن تكون أنباؤهم مصدقة مأخوذا بها . فأما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خبره . وبذلك يستقيم أمر الجماعة وسطا بين الأخذ والرفض لما يصل إليها من أنباء . ولا تعجل الجماعة في تصرف بناء على خبر فاسق . فتصيب قوما بظلم عن جهالة وتسرع . فتندم على ارتكابها ما يغضب الله ، ويجانب الحق والعدل في اندفاع .
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على صدقات بني المصطلق . وقال ابن كثير . قال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم فتلقوه بالصدقة ، فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك - زاد قتادة وأنهم قد ارتدوا عن الإسلام - فبعث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إليهم ، وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالدا - رضي الله عنه - أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد - رضي الله عنه - فرأى الذي يعجبه ؛ فرجع إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة . قال قتادة : فكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " التثبت من الله والعجلة من الشيطان " . . وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل بن حبان . وغيرهم في هذه الآية أنها نزلت في الوليد بن عقبة . والله أعلم . . [ انتهى كلام ابن كثير في التفسير ] " . .
ومدلول الآية عام ، وهو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق ؛ فأما الصالح فيؤخذ بخبره ، لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة ، وخبر الفاسق استثناء . والأخذ بخبر الصالح جزء من منهج التثبت لأنه أحد مصادره . أما الشك المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار ، فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة ، ومعطل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة . والإسلام يدع الحياة تسير في مجراها الطبيعي ، ويضع الضمانات والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها ابتداء . وهذا نموذج من الإطلاق والاستثناء في مصادر الأخبار .
الفاسق : الخارج عن حدود الدين .
بنبأ : بخبر . قال الراغب في مفرداته : لا يقال للخبر نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة .
فتبينوا : فتثبتوا ، وفي قراءة فتثبتوا .
تقرر هذه الآية الكريمة مبدأً عظيماً للمؤمنين : كيف يتلقَّون الأنباء وكيف يتصرفون بها ، وأن عليهم أن يتثبَّتوا من مصدرها . وقد خُصَّ الفاسقُ لأنه مظنّةُ الكذب ، أما إذا كان مصدر الخبر من المأمون في دينه وخلقه فإنه يؤخذ بأخباره ، ولا يجوز أن يُشك فيه ، وإلا تعطّلت المصالح ، وتزعزعت الثقة بين المؤمنين ، وتعطل سير الحياة وتنظيمها في الجماعة . والإسلام يدعُ الحياة تسير في مجراها الطبيعي ، ويضع الضماناتِ والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها . وقد روي في سبب نزول هذه الآيات روايات قَبِلها كثير من المفسرين وضعّفها بعضهم ، ومنهم الرازي . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
قرأ حمزة والكسائي : فتثبتوا ، من التثبت والتريث في الأمور ، وقرأ الباقون : فتبينوا ، من التبين والتريث ، والفعلان قريبان من بعض .
{ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } نزلت في الوليد بن عقبة بعثه
7 9 رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا إلى قوم كانت بينه وبينهم ترة في الجاهلية فخاف أن يأتيهم وانصرف من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إنهم منعوا الصدقة وقصدوا قتلي فذلك قوله { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } أي فاعلموا صدقه من كذبه { أن تصيبوا } لئلا تصيبوا { قوما بجهالة } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أن يغزوهم حتى يتبين له طاعتهم
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " قيل : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط . وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم - في رواية : لإحنة كانت بينه وبينهم - ، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام . فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه ، فعاد إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فنزلت هذه الآية ، فكان يقول نبي الله صلى الله عليه وسلم : [ التأني من الله والعجلة من الشيطان ] . وفي رواية : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد إسلامهم ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم خافهم ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن القوم قد هموا بقتله ، ومنعوا صدقاتهم . فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم ، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فاستمر راجعا ، وبلغنا أنه يزعم لرسول الله أنا خرجنا لنقاتله ، والله ما خرجنا لذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وسمي الوليد فاسقا أي كاذبا . قال ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله : الفاسق الكذاب . وقال أبو الحسن{[14068]} الوراق : هو المعلن بالذنب . وقال ابن طاهر : الذي لا يستحي من الله . وقرأ حمزة والكسائي " فتثبتوا " من التثبت . الباقون " فتبينوا " من التبيين " أن تصيبوا قوما " أي لئلا تصيبوا ، ف " أن " في محل نصب بإسقاط الخافض . " بجهالة " أي بخطأ . " فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " على العجلة وترك التأني .
الثانية- في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا ، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق . ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا ، لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها . وقد استثنى الإجماع من جملة ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود ، وإثبات حق مقصود على الغير ، مثل أن يقول : هذا عبدي ، فإنه يقبل قوله . وإذا قال : قد أنفذ فلان هذا لك هدية ، فإنه يقبل ذلك . وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر . وكذلك إذا أقر لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعا . وأما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره : لا يكون وليا في النكاح . وقال أبو حنيفة ومالك : يكون وليا ، لأنه يلي مالها فيلي بضعها . كالعدل ، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفرة وبها يحمي الحريم ، وقد يبذل المال ويصون الحرمة ، وإذا ولي المال فالنكاح أولى .
الثالثة- قال ابن العربي : ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق . ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف{[14069]} يصح أن يؤتمن على قنطار دين . وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم ، ولا استُطيعت إزالتهم صلي معهم ووراءهم ، كما قال عثمان : الصلاة أحسن ما يفعل الناس ، فإذا أحسنوا فأحسن ، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم . ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة لله ، ومنهم من كان يجعلها صلاته . وبوجوب الإعادة أقول ، فلا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة من لا يرضى من الأئمة ، ولكن يعيد سرا في نفسه ، ولا يؤثر ذلك عند غيره .
الرابعة- وأما أحكامه إن كان واليا فينفذ منها ما وافق الحق ويرد ما خالفه ، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال ، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تؤثر{[14070]} أو قول يحكى ، فإن الكلام كثير والحق ظاهر .
الخامسة-لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله ، أو إذن يعلمه ، إذا لم يخرج عن حق المرسل ، والمبلغ ، فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله . وهذا جائز للضرورة الداعية اليه ، فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منها{[14071]} شيء لعدمهم في ذلك . والله أعلم .
السادسة- وفي الآية دليل على فساد قول من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول ، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم ، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة .
فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة ، كالقضاء بالشاهدين العدليين ، وقبول قول العالم المجتهد . وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله . ذكر هذه المسألة القشيري ، والذي قبلها المهدوي .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين 6 واعلموا أن فيكم رسول الله ولو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون 7 فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم } .
يأمر الله عباده المؤمنين أن يتثبتوا فيما يردهم من أخبار يقولها فاسقون أو مريبون أولو ثرثرة ولغط وتهويش فما ينبغي للمؤمنين في كل زمان أن يصدقوا أمثال هؤلاء فيبنوا أحكامهم على ما يسمعونه منهم فيضلّوا ويزلّوا ويصبحوا من النادمين . والفاسق هو الكاذب ، أو الذي لا يستحيي من الله .
وقد نزلت الآية في الوليد بن أبي معيط إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليجمع منهم الزكاة ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية . فلما سمع القوم تلقّوه تعظيما لله تعالى ولرسوله ، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم ، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ، سمعنا برسوله فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى . فبدا له في الرجوع فخشينا أن يكون إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك بغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فأنزل الله تعالى { ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } وقيل : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم فتلقوه بالصدقة فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك ، وأنهم قد ارتدوا عن الإسلام فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ( رضي الله عنه ) إليهم وأمره أن يتثبت ولا يعجل فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالدا ( رضي الله عنه ) أنهم مستمسكون بالإسلام وسمعوا أذانهم وصلاتهم . فلما أصبحوا أتاهم خالد ( رضي الله عنه ) فرأى الذي يعجبه فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله الآية . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الله يقول : " التثبت من الله والعجلة من الشيطان " {[4286]} .
قوله : { فتبيوا أن تصيبوا قوما بجاهلة } أي تثبتوا واحتاطوا ، أو أمهلوا حتى تعرفوا صحة النبأ ولا تعجلوا { أن تصيبوا قوما بجهالة } أي كراهية ، أو لئلا تصيبوا قوما برآء مما قذفوا به بخطأ منكم { فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } أي فتندموا على ما أصبتم به غيركم من الجناية .