في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين . واعلموا أن فيكم رسول الله ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ؛ ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ، أولئك هم الراشدون ، فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم ) . .

كان النداء الأول لتقرير جهة القيادة ومصدر التلقي . وكان النداء الثاني لتقرير ما ينبغي من أدب للقيادة وتوقير . وكان هذا وذلك هو الأساس لكافة التوجيهات والتشريعات في السورة . فلا بد من وضوح المصدر الذي يتلقى عنه المؤمنون ، ومن تقرير مكان القيادة وتوقيرها ، لتصبح للتوجيهات بعد ذلك قيمتها ووزنها وطاعتها . ومن ثم جاء هذا النداء الثالث يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء وكيف يتصرفون بها ، ويقرر ضرورة التثبت من مصدرها :

( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ، أن تصيبوا قوما بجهالة ، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) . .

ويخصص الفاسق لأنه مظنة الكذب . وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء ، فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتها . فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها ، وأن تكون أنباؤهم مصدقة مأخوذا بها . فأما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خبره . وبذلك يستقيم أمر الجماعة وسطا بين الأخذ والرفض لما يصل إليها من أنباء . ولا تعجل الجماعة في تصرف بناء على خبر فاسق . فتصيب قوما بظلم عن جهالة وتسرع . فتندم على ارتكابها ما يغضب الله ، ويجانب الحق والعدل في اندفاع .

وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على صدقات بني المصطلق . وقال ابن كثير . قال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم فتلقوه بالصدقة ، فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك - زاد قتادة وأنهم قد ارتدوا عن الإسلام - فبعث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إليهم ، وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالدا - رضي الله عنه - أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد - رضي الله عنه - فرأى الذي يعجبه ؛ فرجع إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة . قال قتادة : فكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " التثبت من الله والعجلة من الشيطان " . . وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل بن حبان . وغيرهم في هذه الآية أنها نزلت في الوليد بن عقبة . والله أعلم . . [ انتهى كلام ابن كثير في التفسير ] " . .

ومدلول الآية عام ، وهو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق ؛ فأما الصالح فيؤخذ بخبره ، لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة ، وخبر الفاسق استثناء . والأخذ بخبر الصالح جزء من منهج التثبت لأنه أحد مصادره . أما الشك المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار ، فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة ، ومعطل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة . والإسلام يدع الحياة تسير في مجراها الطبيعي ، ويضع الضمانات والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها ابتداء . وهذا نموذج من الإطلاق والاستثناء في مصادر الأخبار .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

فيه سبع مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " قيل : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط . وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم - في رواية : لإحنة كانت بينه وبينهم - ، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام . فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه ، فعاد إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فنزلت هذه الآية ، فكان يقول نبي الله صلى الله عليه وسلم : [ التأني من الله والعجلة من الشيطان ] . وفي رواية : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد إسلامهم ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم خافهم ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن القوم قد هموا بقتله ، ومنعوا صدقاتهم . فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم ، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فاستمر راجعا ، وبلغنا أنه يزعم لرسول الله أنا خرجنا لنقاتله ، والله ما خرجنا لذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وسمي الوليد فاسقا أي كاذبا . قال ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله : الفاسق الكذاب . وقال أبو الحسن{[14068]} الوراق : هو المعلن بالذنب . وقال ابن طاهر : الذي لا يستحي من الله . وقرأ حمزة والكسائي " فتثبتوا " من التثبت . الباقون " فتبينوا " من التبيين " أن تصيبوا قوما " أي لئلا تصيبوا ، ف " أن " في محل نصب بإسقاط الخافض . " بجهالة " أي بخطأ . " فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " على العجلة وترك التأني .

الثانية- في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا ، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق . ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا ، لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها . وقد استثنى الإجماع من جملة ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود ، وإثبات حق مقصود على الغير ، مثل أن يقول : هذا عبدي ، فإنه يقبل قوله . وإذا قال : قد أنفذ فلان هذا لك هدية ، فإنه يقبل ذلك . وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر . وكذلك إذا أقر لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعا . وأما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره : لا يكون وليا في النكاح . وقال أبو حنيفة ومالك : يكون وليا ، لأنه يلي مالها فيلي بضعها . كالعدل ، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفرة وبها يحمي الحريم ، وقد يبذل المال ويصون الحرمة ، وإذا ولي المال فالنكاح أولى .

الثالثة- قال ابن العربي : ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق . ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف{[14069]} يصح أن يؤتمن على قنطار دين . وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم ، ولا استُطيعت إزالتهم صلي معهم ووراءهم ، كما قال عثمان : الصلاة أحسن ما يفعل الناس ، فإذا أحسنوا فأحسن ، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم . ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة لله ، ومنهم من كان يجعلها صلاته . وبوجوب الإعادة أقول ، فلا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة من لا يرضى من الأئمة ، ولكن يعيد سرا في نفسه ، ولا يؤثر ذلك عند غيره .

الرابعة- وأما أحكامه إن كان واليا فينفذ منها ما وافق الحق ويرد ما خالفه ، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال ، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تؤثر{[14070]} أو قول يحكى ، فإن الكلام كثير والحق ظاهر .

الخامسة-لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله ، أو إذن يعلمه ، إذا لم يخرج عن حق المرسل ، والمبلغ ، فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله . وهذا جائز للضرورة الداعية اليه ، فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منها{[14071]} شيء لعدمهم في ذلك . والله أعلم .

السادسة- وفي الآية دليل على فساد قول من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول ، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم ، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة .

فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة ، كالقضاء بالشاهدين العدليين ، وقبول قول العالم المجتهد . وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله . ذكر هذه المسألة القشيري ، والذي قبلها المهدوي .


[14068]:في بعض النسخ:" أبو الحسين".
[14069]:زيادة عن ابن العربي.
[14070]:زيادة عن ابن العربي.
[14071]:في ابن العربي:" منهم".
 
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي - تفسير الجلالين [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

{ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين }

، ونزل في الوليد بن عقبة وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقاً فخافهم لترة كانت بينه وبينهم في الجاهلية فرجع وقال إنهم منعوا الصدقة وهموا بقتله ، فهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم بغزوهم فجاؤوا منكرين ما قاله عنهم :

{ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأِ } خبر { فتبينوا } صدقه من كذبه ، وفي قراءة فتثبتوا من الثبات { أن تصيبوا قوماً } مفعول له ، أي خشية ذلك { بجهالة } حال من الفاعل ، أي جاهلين { فتصبحوا } تصيروا { على ما فعلتم } من الخطأ بالقوم { نادمين } وأرسل صلى الله عليه وسلم إليهم بعد عودهم إلى بلادهم خالداً فلم فيهم إلا الطاعة والخير فأخبر النبي بذلك .