ثم يأخذ في مشهد من مشاهد القيامة يبدأ بالنفخة الأولى ، وينتهي بانتهاء الموقف ، وسوق أهل النار إلى النار . وأهل الجنة إلى الجنة . وتفرد الله ذي الجلال . وتوجه الوجود لذاته بالتسبيح والتحميد .
وهو مشهد رائع حافل ، يبدأ متحركاً ، ثم يسير وئيداً ، حتى تهدأ كل حركة ، وتسكن كل نأمة ، ويخيم على ساحة العرض جلال الصمت ، ورهبة الخشوع ، بين يدي الله الواحد القهار !
ها هي ذي الصيحة الأولى تنبعث ، فيصعق من يكون باقياً على ظهر الأرض من الأحياء ، ومن في السماوات كذلك - إلا من شاء الله - ولا نعلم كم يمضي من الوقت حتى تنبعث الصيحة الثانية :
( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله . ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) . .
ولا تذكر الصيحة الثالثة هنا . صيحة الحشر والتجميع . ولا تصور ضجة الحشر وعجيج الزحام . لأن هذا المشهد يرسم هنا في هدوء ، ويتحرك في سكون .
{ 68 - 70 } { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ }
لما خوفهم تعالى من عظمته ، خوفهم بأحوال يوم القيامة ، ورغَّبهم ورهَّبهم فقال : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } وهو قرن عظيم ، لا يعلم عظمته إلا خالقه ، ومن أطلعه اللّه على علمه من خلقه ، . فينفخ فيه إسرافيل عليه السلام ، . أحد الملائكة المقربين ، وأحد حملة عرش الرحمن .
{ فَصَعِقَ } أي : غشي أو مات ، على اختلاف القولين : { مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ } أي : كلهم ، لما سمعوا نفخة الصور أزعجتهم من شدتها وعظمها ، وما يعلمون أنها مقدمة له . { إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } ممن ثبته اللّه عند النفخة ، فلم يصعق ، كالشهداء أو بعضهم ، وغيرهم . وهذه النفخة الأولى ، نفخة الصعق ، ونفخة الفزع .
{ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ } النفخة الثانية نفخة البعث { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ ينظرون } أي : قد قاموا من قبورهم لبعثهم وحسابهم ، قد تمت منهم الخلقة الجسدية والأرواح ، وشخصت أبصارهم { يَنْظُرُونَ } ماذا يفعل اللّه بهم .
قوله تعالى :{ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض } أي : ماتوا من الفزع وهي النفخة الأولى { إلا من شاء الله } اختلفوا في الذين استثناهم عز وجل ، وقد ذكرناهم في سورة النمل . قال الحسن : إلا من شاء الله يعني الله وحده : { ثم نفخ فيه } أي : في الصور { أخرى } أي : مرة أخرى { فإذا هم قيام ينظرون } من قبورهم ينتظرون أمر الله فيهم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد ابن معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بين النفختين أربعون قالوا : أربعون يوماً ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون شهراً ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون سنة ؟ قال :أبيت ، قال : ثم ينزل الله من السماء ماء ، فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد ، وهو عجب الذنب ومنه يتركب الخلق يوم القيامة " .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ونفخ في الصور} وهو القرن وذلك أن إسرافيل وهو واضع فاه على القرن يشبه البوق... يؤمر فينفخ في القرن، فإذا نفخ فيه: {فصعق} يعني فمات.
{من في السماوات ومن في الأرض} من شدة الصوت والفزع من فيها من الحيوان، ثم استثنى {إلا من شاء الله}...
{ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام} على أرجلهم.
{ينظرون} إلى البعث الذي كذبوا به، فذلك قوله تعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين:6].
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ونفخ إسرافيل في القرن...
وقوله "فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ "يقول: مات، وذلك في النفخة الأولى... وقوله: "إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ"؛ اختلف أهل التأويل في الذي عنى الله بالاستثناء في هذه الآية؛
فقال بعضهم عني به جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت... حدثني هارون بن إدريس الأصمّ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا الفضل بن عيسى، عن عمه يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ في الأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ" فقيل: من هؤلاء الذين استثنى الله يا رسول الله؟ قال: «جبرائيل وميكائيلَ، ومَلكَ المَوْتِ، فإذَا قَبَضَ أرْوَاحَ الخَلائِقِ قالَ: يا مَلَكَ المَوْتِ مَنْ بَقِي؟ وَهُوَ أعْلَمُ قال: يَقُولُ: سُبْحانَكَ تَبَارَكْتَ رَبّي ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ، بَقِيَ جِبْريلُ وميكائيلُ وَمَلَكُ المَوْتِ قالَ: يَقُولُ يا مَلَك المَوْتِ خُذْ نَفْسَ مِيكائِيلَ قالَ: فَيَقَعُ كالطّوْدِ العَظِيم، قالَ: ثُمّ يَقُولُ: يا مَلَكَ المَوْتِ مَنْ بَقِي؟ فَيَقُول: سُبْحانَكَ رَبّي يا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ، بَقِيَ جِبْريلُ وَمَلَكُ المَوْتِ، قال: فَيَقُولُ: يا مَلَكَ المَوْتِ مُتْ، قالَ: فَيَمُوتُ قالَ: ثُمّ يَقُولُ: يا جِبرِيلُ مَنْ بَقِيَ؟ قالَ: فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: سُبْحانَكَ رَبّي يا ذَا الجَلال والإكْرامِ، بَقِي جِبْرِيلُ، وَهُوَ مِنَ اللّهِ بالمَكانِ الّذِي هُوَ بِهِ قال: فَيَقُولُ يا جِبْريلُ لا بُدّ مِنْ مَوْتَةٍ قالَ: فَيَقَعُ ساجِدا يَخْفِقُ بِجَناحَيْهِ يَقُولُ: سُبْحانَكَ رَبّي تَبَارَكْتَ وَتَعالَيْتَ يا ذَا الجَلالِ والإكْرامِ، أنْتَ الباقي وجِبْريلُ المَيّت الفاني: قال: ويأْخُذُ رُوحَهُ في الحلْقَةِ التي خُلِقَ مِنْها، قالَ: فَيَقَعُ على مِيكائِيلَ أنّ فَضْلَ خَلْقِهِ على خَلْقِ مِيكائِيلَ كَفَضْلِ الطّوْدِ العَظِيمِ عَلى الظّرْبِ مِنَ الظّرابِ».
وقال آخرون: عنى بذلك الشهداء...
وقال آخرون: عنى بالاستثناء في الفزع: الشهداء، وفي الصعق: جبريل، وملك الموت، وحملة العرش... حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُنْفَخُ في الصّور ثَلاث نَفَخاتٍ: الأُولى: نَفْخَة الفَزَعِ، والثّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصّعْقِ، والثّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِيامِ لِرَبّ العالَمِينَ تَبارَكَ وَتَعالى يأْمُرُ اللّهُ إسْرَافِيلَ بالنّفْخَةِ الأُولى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ، فَتَفْزَعُ أهْلُ السّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ» قال أبو هريرة: يا رسولَ الله، فمن استثنىَ حين يقول: ففَزِعَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال: «أُولَئِكَ الشّهَداءُ، وإنّما يَصلُ الفَزَعُ إلى الأحْياءِ، أُولَئِكَ أحْياءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَقاهُمُ اللّهُ فَزَعَ ذلكَ اليَوْمِ وأمّنَهُمُ، ثُمّ يَأْمُرُ اللّهُ إسْرافِيلَ بنَفْخَةِ الصّعْقِ، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الصّعْقِ، فَيَصْعَقُ أهْلُ السّمَوَاتِ والأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ فإذا هُمْ خامِدُونَ، ثُمّ يأتي مَلَكُ المَوْتِ إلى الجَبّارِ تَبارَكَ وَتَعالى فَيَقُولُ: يا رَبّ قَدْ ماتَ أهْلُ السّمَوَاتِ والأرْضِ إلاّ مَنْ شِئْتَ، فَيَقُولُ لَهُ وَهُوَ أعْلَمُ: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أنْتَ الحَيّ الّذِي لا يَمُوتُ، وَبَقِيَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيَ جِبْرِيلَ وَمِيكائِيلُ فَيَقُولُ اللّهُ لَهُ: اسْكتْ إنّي كتَبْتُ المَوْتَ على مَنْ كانَ تَحْتَ عَرْشِي ثُمّ يأتي مَلَكُ المَوْتِ فَيَقُولُ: يا رَب قَدْ ماتَ جِبْرِيلُ وَمِيكائِيلُ فَيَقولُ اللّهُ وَهُوَ أعْلَمُ: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقولُ: بَقِيتَ أنتَ الحيّ الّذِي لا يَمُوتُ، وَبَقِيَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيتُ أنا، فَيَقُولُ اللّهُ: فَلْيَمُتْ حَمَلَةُ العَرْشِ، فَيَمُوتُونَ وَيأْمُرُ اللّهُ تعالى العَرْشَ فَيَقْبِضُ الصّورَ. فَيَقُولُ: أيْ رَبّ قَدْ ماتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ فَيَقُولُ: مَنْ بَقِي؟ وَهُوَ أعْلَمُ، فَيَقُولُ: بَقِيت أنْتَ الحَيّ الّذِي لا يَمُوتُ وَبَقِيتُ أنا، قال: فَيَقُولُ اللّهُ: أنْتَ مِنْ خَلقِي خَلَقْتُكَ لِمَا رأيْتُ، فَمُتْ لا تَحْيَ، فَيَمُوتُ».
وهذا القول الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالصحة، لأن الصعقة في هذا الموضع: الموت. والشهداء وإن كانوا عند الله أحياء كما أخبر الله تعالى ذكره فإنهم قد ذاقوا الموت قبل ذلك.
وإنما عنى جلّ ثناؤه بالاستثناء في هذا الموضع، الاستثناء من الذين صعقوا عند نفخة الصعق، لا من الذين قد ماتوا قبل ذلك بزمان ودهر طويل وذلك أنه لو جاز أن يكون المراد بذلك من قد هلك، وذاق الموت قبل وقت نفخة الصعق، وجب أن يكون المراد بذلك من قد هلك، فذاق الموت من قبل ذلك، لأنه ممن لا يصعق في ذلك الوقت إذا كان الميت لا يجدّد له موت آخر في تلك الحال. وقال آخرون في ذلك ما: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال الحسن: يستثني الله وما يدع أحدا من أهل السموات ولا أهل الأرض إلا أذاقه الموت؟ قال قتادة: قد استثنى الله، والله أعلم إلى ما صارت ثنيته. قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله قال: «أتانِي مَلَكٌ فَقالَ: يا مُحَمّدُ اخْتَرْ نَبِيا مَلِكا، أوْ نَبيّا عَبْدا فأَوْمأَ إليّ أنْ تَوَاضَعْ، قال: نَبِيّا عَبْدا، قال: فأُعْطيتُ خَصْلَتَيْنِ: أنْ جُعِلْتُ أوّلَ مَنْ تَنْشَقّ عَنْهُ الأرْضَ، وأوّلَ شافِعٍ، فَأرْفَعُ رأسِي فأجِدُ مُوسَى آخِذا بالعَرْشِ، فاللّهُ أعْلَمُ أصَعِقَ بَعْدَ الصّعْقَةِ الأُولى أمْ لا؟»...
وقوله: "ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذَا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ" يقول تعالى ذكره: ثم نُفخ في الصور نفخة أخرى والهاء التي في «فيه» من ذكر الصور... عن السديّ "ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى" قال: في الصور، وهي نفخة البعث...
وقوله: "فإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ" يقول: فإذا من صعق عند النفخة التي قبلها وغيرهم من جميع خلق الله الذين كانوا أمواتا قبل ذلك قيام من قبورهم وأماكنهم من الأرض أحياء كهيئتهم قبل مماتهم ينظرون أمر الله فيهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
في النفخة الأولى تموتون، ثم في النفخة الثانية تُحْشَرُون، والنفختان متجانستان ولكنه يخلق عند إحداهما إزهاق الأرواح؛ وفي الأخرى حياة النفوس، لِيُعْلَمَ أن النفخةَ لا تعمل شيئاً لعينها، وإنما الجبَّارُ بقدرته يخلق ما يشاء...
اعلم أنه تعالى لما قدر كمال عظمته بما سبق ذكره، أردفه بذكر طريقة أخرى تدل أيضا على كمال قدرته وعظمته، وذلك شرح مقدمات يوم القيامة؛ لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم.
القول الرابع: أنهم الحور العين وسكان العرش والكرسي.
{ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} وفيه أبحاث:
الأول: لفظ القرآن دل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى؛ لأن لفظ {ثم} يفيد التراخي، قال الحسن رحمه الله: القرآن دل على أن هذه النفخة الأولى.
الثاني: قوله {أخرى} تقدير الكلام: ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه نفخة أخرى، وإنما حسن الحذف لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة.
الثالث: قوله {فإذا هم قيام} يعني قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ؛ لأن الفاء في قوله {فإذا هم} تدل على التعقيب...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{قيام ينظرون} قيل: إنه من النظر، وقيل: من الانتظار أي: ينتظرون ما يفعل بهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما دل على عظيم قدره بعض ما يكون يوم القيامة، أتبعه ما لا يحتمله القوي من أحوال ذلك اليوم دليلاً آخر، فقال دالاً على عظيم قدرته وعزه وعظمته بالبناء للمفعول: {ونفخ في الصور} أي القرن العاطف للأشياء المقبل بها نحو صوته المميل لها عن أحوالها، العالي عليها في ذلك اليوم بعد بعث الخلائق وهي النفخة الأولى بعد البعث، التي هي بعد نفختي الموت والبعث المذكورتين في سورة يس، والمراد بها -والله أعلم- إلقاء الرعب والمخافة والهول في القلوب إظهاراً للعظمة وتردياً بالكبرياء والعز في عزة يوم المحشر؛ ليكون أول ما يفجأهم يوم الدين ما لا يحتمله القوي، ولا تطيقه الأحلام والنهى، كما كان آخر ما فجأهم في يوم الدنيا وإن افترقا في التأثير، فإن تلك أثرت الموت، وهذه أثرت الغشي؛ لأنه لا موت بعد البعث، وهي الثالثة من النفخات.
{فصعق} أي مغشياً عليه {من في السماوات}.
ولما كان المقام التهويل، وكان التصريح أهول، أعاد الفاعل بلفظه فقال: {ومن في الأرض}.
ولما كان منهم من لا يصعق ليعرف دائماً أنه في كل فعل من أفعاله مختار قادر جبار استثناه فقال: {إلا من شاء الله} أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز، فيجعل الشيء الواحد هلاكاً لقوم دون قوم، وصعقاً لقوم دون قوم.
{ثم نفخ فيه أخرى} أي نفخة ثانية من هذه، وهي رابعة من النفخة المميتة، ودل على سرعة تأثيرها بالفجاءة في قوله: {فإذا هم قيام} أي قائمون كلهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من إجمال عظمة القدرة يوم القيامة إلى تفصيلها لما فيه من تهويل وتمثيل لمجموع الأحوال يومئذٍ مما ينذر الكافر ويبشر المؤمن ويذكر بإقامة العدل والحق، ثم تمثيل إزجاء المشركين إلى جهنم وسوق المؤمنين إلى الجنة، فالجملة من عطف القصة على القصة، ومناسبة العطف ظاهرة، وعبر بالماضي في قوله: {ونُفِخَ} وقوله: فَصَعِقَ مجازاً؛ لأنه محقق الوقوع مثل قوله: {أتى أمر اللَّه} [النحل: 1]، ويجوز أن تكون الواو للحال بتقدير (قد) أي والحال قد نفخ في الصور، فتكون صيغة الماضي في فعلي (نفخ وصَعق) مستعملة في حقيقتها.
وابتدئت الجملة بحديث النفخ في الصور إذ هو ميقات يوم القيامة وما يتقدمه من موت كل حي على وجه الأرض. وتكرر ذكره في القرآن والسنة...
والصور: بوق ينادى به البعيد المتفرق مثل الجيش، ومثل النداء للصلاة فقد كان اليهود ينادون به: للصلاة الجامعة، كما جاء في حديث بدء الأذان في الإسلام. والمراد به هنا نداء الخلق لحضور الحشر أحيائِهم وأَمواتِهم، وهو علامة لأمر التكوين، فالأحياء يصعقون فيموتون (كما يموت المفزوع) بالنفخة الأولى، والأموات يصعقون اضطراباً تدبّ بسببه فيهم الحياة، فيكونون مستعدين لقبول الحياة، فإذا نفخت النفخة الثانية حلّت الأرواح في الأجساد المخلوقة لهم على مثال ما بَلي من أجسادهم التي بليت، أو حلّتْ الأرواح في الأجساد التي لم تزل باقية غير بالية كأجساد الذين صعقوا عند النفخة الأولى، ويجوز أن يكون بين النفختين زمن تبلَى فيه جميع الأجساد...
{أُخْرى} صفة لمحذوف، وإنما ذكرت النفخة الثانية في هذه الآية ولم تذكر في قوله في سورة النمل (87) {ويوم ينفخ (1) في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللَّه وكل أتوه داخرين} لأن تلك في غرض الموعظة بفناء الدنيا وهذه الآية في غرض عظمة شأن الله في يوم القيامة، وكذلك وصف النفخة بالواحدة في سورة الحاقة (13، 15) {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة} وذكرت هنا نفختان. وضمير {هُم} عائد على {من في السموات ومن في الأرض} فيما بقي من مفهومه بعد التخصيص ب {إلا مَن شاء الله} وهم الذين صعقوا صعق ممات وصَعْق اضطراب يهيأ لقبول الحياة عند النفخة...
وجملة {يَنظُرُونَ} حال. والنظرُ: الإِبصار، وفائدة هذه الحال الدلالة على أنهم حَيُوا حياة كاملة لا غشاوة معها على أبصارهم، أي لا دهش فيها كما في قوله تعالى {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون} في سورة الصافات (19)، أو أريد أنهم ينظرون نظر المقلّب بصره الباحث.
قوله تعالى : " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى " بين ما يكون بعد قبض الأرض وطي السماء وهو النفخ في الصور ، وإنما هما نفختان ، يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون في الثانية وقد مضى الكلام في هذا في " النمل " {[13339]} و " الأنعام " {[13340]} أيضا . والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام . وقد قيل : إنه يكون معه جبريل لحديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن صاحبي الصور بأيديهما - أو في أيديهما - قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران ) خرجه ابن ماجة في السنن . وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال : ذكر رسول الله صاحب الصور ، وقال : ( عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل ) . واختلف في المستثنى من هم ؟ فقيل : هم الشهداء متقلدين أسيافهم حول العرش . روي مرفوعا من حديث أبي هريرة فيما ذكر القشيري ، ومن حديث عبد الله بن عمر فيما ذكر الثعلبي . وقيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام . وروي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا : " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله " فقالوا : يا نبي الله من هم الذين استثنى الله تعالى ؟ قال : ( هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت فيقول الله تعالى لملك الموت يا ملك الموت من بقي من خلقي وهو أعلم فيقول : يا رب بقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وعبدك الضعيف ملك الموت فيقول الله تعالى : خذ نفس إسرافيل وميكائيل فيخران ميتين كالطودين العظيمين فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول الله تعالى لجبريل يا جبريل من بقي فيقول تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني فيقول الله تعالى يا جبريل لا بد من موتك فيقع ساجدا يخفق بجناحيه يقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على الظَّرِب{[13341]} من الظِّرَابِ ) ذكره الثعلبي . وذكره النحاس أيضا من حديث محمد بن إسحاق ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله جل وعز : " فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله " قال : ( جبريل وميكائيل وحملة العرش وملك الموت وإسرافيل ) وفي هذا الحديث : ( إن آخرهم موتا جبريل عليه وعليهم السلام ) وحديث أبي هريرة في الشهداء أصح على ما تقدم في " النمل " {[13342]} . وقال الضحاك : هو رضوان والحور ومالك والزبانية . وقيل : عقارب أهل النار وحياتها . وقال الحسن : هو الله الواحد القهار وما يدع أحدا من أهل السماء والأرض إلا أذاقه الموت . وقال قتادة : الله أعلم بثنياه . وقيل : الاستثناء في قوله : " إلا من شاء الله " يرجع إلى من مات قبل النفخة الأولى ، أي فيموت من في السماوات والأرض إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا .
وفي الصحيحين وابن ماجة واللفظ له عن أبي هريرة قال : قال رجل من اليهود بسوق المدينة ، والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه ، قال : تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( قال الله عز وجل : " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب ) وخرجه الترمذي أيضا وقال فيه : حديث حسن صحيح . قال القشيري : ومن حمل الاستثناء على موسى والشهداء فهؤلاء قد ماتوا غير أنهم أحياء عند الله . فيجوز أن تكون الصعقة بزوال العقل دون زوال الحياة ، ويجوز أن تكون بالموت ، ولا يبعد أن يكون الموت والحياة فكل ذلك مما يجوزه العقل ، والأمر في وقوعه موقوف على خبر صدق .
قلت : جاء في بعض طرق أبي هريرة أنه عليه السلام قال : ( لا تخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش{[13343]} فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله ) خرجه مسلم . ونحوه عن أبي سعيد الخدري ، والإفاقة إنما تكون عن غشية وزوال عقل لا عن موت برد الحياة . والله أعلم .
قوله تعالى : " فإذا هم قيام ينظرون " أي فإذا الأموات من أهل الأرض والسماء أحياء بعثوا من قبورهم ، وأعيدت إليهم أبدانهم وأرواحهم ، فقاموا ينظرون ماذا يؤمرون . وقيل : قيام على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذي وعدوا به . وقيل : هذا النظر بمعنى الانتظار ، أي ينتظرون ما يفعل بهم . وأجاز الكسائي قياما بالنصب ، كما تقول : خرجت فإذا زيد جالسا .