ثم ألوان الناس . وهي لا تقف عند الألوان المتميزة العامة لأجناس البشر . فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين بني جنسه . بل متميز من توأمه الذي شاركه حملاً واحداً في بطن واحدة !
وكذلك ألوان الدواب والأنعام . والدواب أشمل والأنعام أخص . فالدابة كل حيوان . والأنعام هي الإبل والبقر والغنم والماعز ، خصصها من الدواب لقربها من الإنسان . والألوان والأصباغ فيها معرض كذلك جميل كمعرض الثمار ومعرض الصخور سواء .
هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات العجيب التكوين والتلوين ، يفتحه القرآن ويقلب صفحاته ويقول :
إن العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون الله :
( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) . .
وهذه الصفحات التي قلبها في هذا الكتاب هي بعض صفحاته ، والعلماء هم الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب . ومن ثم يعرفون الله معرفة حقيقية . يعرفونه بآثار صنعته . ويدركونه بآثار قدرته . ويستشعرون حقيقة عظمته برؤية حقيقة إبداعه . ومن ثم يخشونه حقاً ويتقونه حقاً ، ويعبدونه حقاً . لا بالشعور الغامض الذي يجده القلب أمام روعة الكون . ولكن بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر . . وهذه الصفحات نموذج من الكتاب . . والألوان والأصباغ نموذج من بدائع التكوين الأخرى وبدائع التنسيق التي لا يدركها إلا العلماء بهذا الكتاب . العلماء به علماً واصلاً . علماً يستشعره القلب ، ويتحرك به ، ويرى به يد الله المبدعة للألوان والأصباغ والتكوين والتنسيق في ذلك الكون الجميل .
إن عنصر الجمال يبدو مقصوداً قصداً في تصميم هذا الكون وتنسيقه . ومن كمال هذا الجمال أن وظائف الأشياء تؤدى عن طريق جمالها . هذه الألوان العجيبة في الأزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة التي تفوح . ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح ، لتنشأ الثمار . وهكذا تؤدي الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها ! . . والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الآخر إليه ، لأداء الوظيفة التي يقوم بها الجنسان . وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال .
الجمال عنصر مقصود قصداً في تصميم هذا الكون وتنسيقه . ومن ثم هذه اللفتات في كتاب الله المنزل إلى الجمال في كتاب الله المعروض .
عزيز قادر على الإبداع وعلى الجزاء . غفور يتدارك بمغفرته من يقصرون في خشيته ، وهم يرون بدائع صنعته .
ومن ذلك : الناس والدواب ، والأنعام ، فيها من اختلاف الألوان والأوصاف والأصوات والهيئات ، ما هو مرئي بالأبصار ، مشهود للنظار ، والكل من أصل واحد ومادة واحدة .
فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة اللّه تعالى ، التي خصصت ما خصصت منها ، بلونه ، ووصفه ، وقدرة اللّه تعالى حيث أوجدها كذلك ، وحكمته ورحمته ، حيث كان ذلك الاختلاف ، وذلك التفاوت ، فيه من المصالح والمنافع ، ومعرفة الطرق ، ومعرفة الناس بعضهم بعضا ، ما هو معلوم .
وذلك أيضا ، دليل على سعة علم اللّه تعالى ، وأنه يبعث من في القبور ، ولكن الغافل ينظر في هذه الأشياء وغيرها نظر غفلة لا تحدث له التذكر ، وإنما ينتفع بها من يخشى اللّه تعالى ، ويعلم بفكره الصائب وجه الحكمة فيها .
ولهذا قال : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } فكل من كان باللّه أعلم ، كان أكثر له خشية ، وأوجبت له خشية اللّه ، الانكفاف عن المعاصي ، والاستعداد للقاء من يخشاه ، وهذا دليل على فضيلة العلم ، فإنه داع إلى خشية اللّه ، وأهل خشيته هم أهل كرامته ، كما قال تعالى : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }
{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } كامل العزة ، ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات .
ولما أكد هذا بما دل على خلوصه ، قدم ذكر الاختلاف عليه ، ولما ذكر تعالى ما الأغلب فيه الماء مما استحال إلى آخر بعيد من الماء ، وأتبعه التراب الصرف ، ختم بما الأغلب فيه التراب مما استحال إلى ما هو في غاية البعد من التراب فقال : { ومن الناس } أي المتحركين بالفعل والاختيار { والدواب } ولما كانت الدابة في الأصل لما دب على الأرض ، ثم غلب إطلاقه على ما يركب قال : { والأنعام } ليعم الكل صريحاً { مختلف ألوانه } أي ألوان ذلك البعض الذي أفهمته " من " { كذلك } أي مثل الثمار والأراضي فمنه ما هو ذو لون واحد ، ومنه ما هو ذو ألوان مع أن كل ما ذكر فهو من الأراضي متجانس الأعيان مختلف الأوصاف ، ونسبته إليها وإلى السماء واحدة فأين حكم الطبائع .
ولما ثبت بهذا البرهان أنه سبحانه فاعل بالاختيار ، فهو يفعل فيما يشاء ومن يشاء ، ما يشاء فيجعل الشيء الواحد لقوم نوراً ولقوم عمى ، وكان ذلك مرغباً في خدمته مرهباً من سطوته سبحانه وتعالى وتقدس لكل ذي لب ، وكان السياق لإنذار من يخشى بالغيب ، فثبت أن الإنذار بهذا القرآن يكون لقوم أراد الله خشيتهم خشية ، ولقوم أراد الله قسوتهم قسوة ، التفت النفس إلى طلب قانون يعرف به من يخشى ومن لا يخشى ، فقال على سبيل الاستنتاج من ذلك ، دفعاً لظن من يحسب أنه يمكن أن يكون ولي جاهلاً : { إنما يخشى الله } أي الذي له جميع الكمال ، ولا كمال لغيره إلا منه ، ودل على أن كل من سواه في قبضته وتحت قهره بقوله : { من عباده } ثم ذكر محط الفائدة وهو من ينفع إنذاره فقال : { العلماء } أي لا سواهم وإن كانوا عباداً وإن بلغت عبادتهم ما عسى أن تبلغ ، لأنه لا يخشى أحد أحداً إلا مع معرفته ، ولا يعرفه جاهل ، فصار المعنى كأنه قيل : إنما ينفع الإنذار أهل الخشية ، وإنما يخشى العلماء ، والعالم هو الفقيه العامل بعلمه ، قال السهروردي في الباب الثالث من عوارفه : فينتفي العلم عمن لا يخشى الله ، كما إذا قال : إنما يدخل الدار بغدادي ، فينتفي دخول غير البغدادي الدار هذا معنى القراءة المشهورة .
ولما كان سبب الخشية التعظيم والإجلال ، وكان كل أحد لا يجل إلا من أجله ، وكان قد ثبت أن العلماء يجلون الله ، وكان سبب إجلالهم له إجلاله لهم ، كان هذا معنى القراءة الأخرى ، فكان كأنه قيل : إنما ينفع الإنذار من يجهل الله فالله يجله لعلمه ، وسئل شيخنا محقق زمانه قاضي الشافعية بمصر محمد بن علي القاياتي عن توجيه هذه القراءة فأطرق يسيراً ثم رفع رأسه فقال :
أهابك إجلالاً وما بك قدرة *** عليّ ولكن مليء عين حبيبها
ولما ثبت بهذا السياق أنه سبحانه فاعل هذه الأشياء المتضادة باختياره ، علل ذلك ليفيد أن قدرته على كل ما يريد كقدرته عليه بقوله على سبيل التأكيد تنبيهاً على أنه سبحانه لا يعسر عليه شيء وأنه أهل لأن يخشى ولذلك أظهر الاسم الأعظم : { إن الله } أي المحيط بالجلال والإكرام { عزيز } أي غالب على جميع أمره . ولما كان هذا مرهباً من سطوته موجباً لخشيته لإفهامه أنه يمنع الذين لا يخشون من رحمته ، رغبهم بقوله : { غفور * } في أنه يمحو ذنوب من يريد منهم فيقبل بقلبه إليه وهو أيضاً من معاني العزة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.