ويستطرد لقمان في وصيته التي يحكيها القرآن هنا إلى أدب الداعية إلى الله . فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس ؛ والتطاول عليهم باسم قيادتهم إلى الخير . ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل :
( ولا تصعر خدك للناس ، ولا تمش في الأرض مرحا . إن الله لا يحب كل مختال فخور . واقصد في مشيك ، واغضض من صوتك . إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) . .
والصعر داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها . والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصعر . حركة الكبر والازورار ، وإمالة الخد للناس في تعال واستكبار !
والمشي في الأرض مرحا هو المشي في تخايل ونفخة وقلة مبالاة بالناس . وهي حركة كريهة يمقتها الله ويمقتها الخلق . وهي تعبير عن شعور مريض بالذات ، يتنفس في مشية الخيلاء ! ( إن الله لا يحب كل مختال فخور ) . .
{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } أي : لا تُمِلْهُ وتعبس بوجهك الناس ، تكبُّرًا عليهم ، وتعاظما .
{ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا } أي : بطرا ، فخرا بالنعم ، ناسيا المنعم ، معجبا بنفسك . { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ }{[669]} في نفسه وهيئته وتعاظمه { فَخُور } بقوله .
الأولى- قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن : " تصاعر " بالألف بعد الصاد . وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر والحسن ومجاهد : " تُصَعّر " وقرأ الجحدري : " تُصْعر " بسكون الصاد ، والمعنى متقارب . والصعر : الميل ، ومنه قول الأعرابي : وقد أقام الدهر صعري ، بعد أن أقمت صعره . ومنه قول عمرو بن حني التغلبي :
وكنا إذا الجبار صَعَّرَ خدَّه *** أقمنا له من ميله فتقَوَّمِ{[12593]}
وأنشده الطبري : " فتقوما " . قال ابن عطية : وهو خطأ ؛ لأن قافية الشعر مخفوضة{[12594]} . وفي بيت آخر : أقمنا له من خده المتصعر . قال الهروي : " لا تصاعر " أي لا تعرض عنهم تكبرا عليهم . يقال : أصاب البعير صعر وصيد إذ أصابه داء يلوي منه عنقه . ثم يقال للمتكبر : فيه صعر وصيد . فمعنى : " لا تصعر " أي لا تلزم خدك الصعر . وفي الحديث : ( يأتي على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر ) والأصعر : المعرض بوجهه كبرا ، وأراد رذالة الناس الذين لا دين لهم . وفي الحديث : ( كل صعار ملعون ) أي كل ذي أبهة وكبر .
الثانية- معنى الآية : ولا تمل خدك للناس كبرا عليهم وإعجابا واحتقارا لهم . وهذا تأويل ابن عباس وجماعة . وقيل : هو أن تلوي شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره . فالمعنى : أقبل عليهم متواضعا مؤنسا مستأنسا ، وإذا حدثك أصغرهم فاصغ إليه حتى يكمل حديثه . وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل .
قلت : ومن هذا المعنى{[12595]} ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) . فالتدابر الإعراض وترك الكلام والسلام ونحوه . وإنما قيل للإعراض تدابر لأن من أبغضته أعرضت عنه ووليته دبرك ، وكذلك يصنع هو بك . ومن أحببته أقبلت عليه بوجهك وواجهته لتسره ويسرك ، فمعنى التدابر موجود فيمن صعر خده ، وبه فسر مجاهد الآية . وقال ابن خويز منداد : قوله : " ولا تصاعر خدك للناس " كأنه نهى أن يذل الإنسان نفسه من غير حاجة ، ونحو ذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ليس للإنسان أن يذل نفسه ) .
الثالثة- قوله تعالى : " ولا تمش في الأرض مرحا " أي متبخترا متكبرا ، مصدر في موضع الحال ، وقد مضى في " الإسراء " {[12596]} . وهو النشاط والمشي فرحا في غير شغل وفي غير حاجة . وأهل هذا الخلق ملازمون للفخر والخيلاء ، فالمرح مختال في مشيته . روى يحيى بن جابر الطائي عن ابن عائذ الأزدي عن غضيف بن الحارث قال : أتيت بيت المقدس أنا وعبد الله بن عبيد بن عمير{[12597]} قال : فجلسنا إلى عبد الله بن عمرو بن العاصي فسمعته يقول : إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه فيقول : يا ابن آدم ما غرك بي ! ألم تعلم أني بيت الوحدة ! ألم تعلم أني بيت الظلمة ! ألم تعلم أني بيت الحق ! يا ابن آدم ما غرك بي ! لقد كنت تمشي حولي فدادا . قال ابن عائذ قلت لغُضيف : ما الفدّاد يا أبا أسماء ؟ قال : كبعض مشيتك يا ابن أخي أحيانا . قال أبو عبيد : والمعنى ذا مال كثير وذا خيلاء . وقال صلى الله عليه وسلم : ( من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة ) . والفخور : هو الذي يعدد ما أعطي ولا يشكر الله تعالى . قاله مجاهد . وفي اللفظة الفخر بالنسب وغير ذلك .
ولما كان من {[53950]}آفات العبادة{[53951]} لا سيما الأمر والنهي - لتصورهما بصورة الاستعلاء - الإعجاب الداعي إلى الكبر ، قال محذراً من ذلك معبراً عن الكبر بلازمه ، لأن نفي الأعم نفي للأخص ، منبهاً على أن المطلوب في الأمر والنهي اللين لا الفظاظة والغلظة الحاملان على النفور{[53952]} : { ولا تصعر{[53953]} خدك } أي لا تمله معتمداً إمالته بإمالة العنق متكلفاً لها صرفاً عن الحالة القاصدة ، وأصل الصعر داء يصيب البعير يلوي منه عنقه ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي : تصاعر ، والمراد بالمفاعلة والتفعيل تعمد فعل ذلك لأجل الكبر حتى يصير خلقاً ، والمراد النهي عما يفعله المصعر من الكبر - والله أعلم .
ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تذم ، أشار إلى المقصود بقوله تعالى : { للناس } بلام{[53954]} العلة ، أي لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم ، وذلك لا يكون إلا تهاوناً بهم من الكبر ، بل أقبل عليهم بوجهك كله مستبشراً منبسطاً من غير كبر ولا علو ، {[53955]}وأتبع{[53956]} ذلك ما يلزمه فقال : { ولا تمش } ولما كان في أسلوب التواضع وذم الكبر ، ذكره بأن أصله تراب ، وهو لا يقدر أن يعدوه فقال : { في الأرض } وأوقع المصدر موقع الحال أو العلة فقال : { مرحاً } أي اختيالاً وتبختراً ، أي لا تكن{[53957]} منك هذه الحقيقة لأن ذلك مشي أشر وبطر وتكبر ، فهو جدير بأن يظلم صاحبه ويفحش ويبغي ، بل امش هوناً فإن ذلك يفضي بك{[53958]} إلى التواضع ، فتصل إلى كل خير ، فترفق بك الأرض إذا صرت فيها حقيقة بالكون في بطنها .
ولما كانت غاية ذلك الرياء للناس والفخر عليهم المثمر لبغضتهم الناشئة عن بغضة الله تعالى ، علله{[53959]} بقوله مؤكداً لأن كثيراً من الناس يظن أن أسباغ النعم الدنيوية من محبة الله : { إن الله } أي الذي لا ينبغي الكبر إلا له لما له من العظمة المطلقة . ولما كان حب الله الذي{[53960]} يلزمه حب الناس محبوباً للنفوس ، وكان فوات{[53961]} المحبوب أشق على النفوس من وقوع{[53962]} المحذور ، وكانت " لا " لا تدخل إلا على المضارع المستقبل قال : { لا يحب } أي فيما يستقبل من الزمان ، ولو قال " يبغض " لاحتمل التقييد بالحال ، ولما كان النشر المشوش أفصح لقرب الرجوع تدليا فيما ترقى فيه المقبل قال : { كل مختال } أي{[53963]} مراء للناس في مشيه تبختراً يرى له فضلاً على الناس فيشمخ بأنفه ، وذلك فعل المرح { فخور } يعدد مناقبه ، وذلك فعل المصعر ، لأن ذلك من الكبر الذي تردى به سبحانه وتعالى فمن نازعه إياه قصمه{[53964]} .