ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة :
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .
ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . والله هو فاعل كل شيء . ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة ، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر ! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون ، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها .
ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية :
( ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) . .
فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه ! فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا . وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون !
( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا . وقذف في قلوبهم الرعب ) .
أتاهم من داخل أنفسهم ! لا من داخل حصونهم ! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب ، ففتحوا حصونهم بأيديهم ! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم ، ولا يحكمون قلوبهم ، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم ! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم . وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم . فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها . وهكذا حين يشاء الله أمرا . يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر ، وهو يعلم كل شيء ، وهو على كل شيء قدير . فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة ، مما يعرفه الناس ويقدرونه . فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة . والسبب والنتيجة من صنعه ، والوسيلة والغاية من خلقه ؛ ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة ، ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية . . . وهو العزيز الحكيم . .
ولقد تحصن الذين كفروا من أهل الكتاب بحصونهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولقد امتنعوا بدورهم وبيوتهم فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت يخربونها بأيديهم ، ويمكنون المؤمنين من إخرابها :
( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) . .
وبهذا تتم حكاية ما وقع للذين كفروا من أهل الكتاب ، في تلك الصورة الموحية ، وهذه الحركة المصورة . . والله - سبحانه - يأتيهم من وراء الحصون فتسقط بفعلهم هم ؛ ثم يزيدون فيخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين .
هنا يجيء أول تعقيب في ظل هذه الصورة ، وعلى إيقاع هذه الحركة :
( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) . .
وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه . والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار .
الذين كفروا من أهل الكتاب : هم يهود بني النضير وكانت منازلهم قرب المدينة .
لأول الحشر : كانوا أول من أجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ديارهم في جزيرة العرب ، والحشر : الإجلاء والإخراج ، ثم أُجلي سائر اليهود والنصارى في أيام عمر بن الخطاب ، وهو الحشر الثاني .
ما ظننتم أن يخرجوا : لأنهم كانوا أهل حصون مانعة ، وأهل عدد وعدة .
أنهم مانعتهم حصونهم من الله : ظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله .
من حيث لم يحتسبوا : أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم من تلك الجهة ، وذلك غزو لهم ، لإخراجهم من بلاد العرب .
2- { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } .
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب – وهم يهود بني النضير – من ديارهم عند أول إخراج لهم من جزيرة العرب ، وما كنتم تظنون أن يخرجوا ، لأنهم كانوا أهل عدد وعدة ، وقد ظنوا في أنفسهم أن حصونهم المنيعة تصدّ عنهم بأس الله إذا نزل بهم ، فأخذهم الله من حيث لم يظنوا أن يؤاخذوا من جهته ، وألقى في قلوبهم الفزع الشديد ، وصار اليهود يخرجون بيوتهم بأيديهم ليتركوها خاوية ، وأيدي المؤمنين ليقضوا على تحصنهم ، فاتعظوا بما نزل بهم يا أصحاب العقول .
{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } أي بني النضير . { من ديارهم } قرب المدينة على ميلين منها . { لأول الحشر } أي عند أول حشر ؛ أي إخراج إلى الشام وغيرها . والحشر : إخراج الجماعة عن مقرهم ، وإزعاجهم عنه إلى الحرب وغيرها . واللام للتوقيت ؛ كما في قوله تعالى : " لدلوك الشمس " {[352]} . { ما ظننتم أن يخرجوا } لعزتهم ومنعتهم . { وظلوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله } أي من بأسه ونقمته . { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } فأخذهم الله من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم أنهم يؤخذون ، وكانوا يضنون بالمسلمين الضعف في ذلك الوقت{ وقذف في قلوبهم الرعب } ألقى فيها الخوف والفزع الشديد . وأصل القذف : الرمي بقوة أو من بعيد . والرعب : الانقطاع من امتلاء القلب بالخوف . { فاعتبروا يا أولي الأبصار } فاتعظوا بما نزل بهم ، واحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم ؛ فتعاقبوا مثل عقوبتهم . والاعتبار : من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، ومنه العبرة لانتقالها من العين إلى الخذ . واعتبار القائم لانتقاله من الأصل إلى الفرع .
{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني بني النضير ، { من ديارهم } التي كانت بيثرب ، قال ابن إسحاق : كان إجلاء بني النضير بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان . { لأول الحشر } قال الزهري : كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى ، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء ، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا . قال ابن عباس : من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية ، فكان هذا أول حشر إلى الشام ، قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : اخرجوا ، قالوا إلى أين ، قال : إلى أرض المحشر ، ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام . وقال الكلبي : إنما قال : { لأول الحشر } لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ، ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه . قال مرة الهمداني : كان أول الحشر من المدينة ، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من الشام في أيام عمر . وقال قتادة : كان هذا أول الحشر ، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا . { ما ظننتم } أيها المؤمنون { أن يخرجوا } من المدينة لعزتهم ومنعتهم ، وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخيل كثيرة . { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } أي : وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله ، { فأتاهم الله } أي أمر الله وعذابه ، { من حيث لم يحتسبوا } وهو أنه أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك ، { وقذف في قلوبهم الرعب } بقتل سيدهم كعب بن الأشرف . { يخربون } قرأ أبو عمرو : بالتشديد ، والآخرون بالتخفيف ، ومعناهما واحد ، { بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } قال الزهري : وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل ، كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون منها ما يستحسنونه فيحملونه على إبلهم ، ويخرب المؤمنون باقيها . قال ابن زيد : كانوا يقلعون العمد ، وينقضون السقوف ، وينقبون الجدران ، ويقلعون الخشب حتى الأوتاد ، يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضا . قال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها . قال ابن عباس رضي الله عنهما : كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل ، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم في أدبارها فيخرجون إلى النبي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم ، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذلك قوله عز وجل : { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا } فاتعظوا وانظروا فيما نزل بهم ، { يا أولي الأبصار } يا ذوي العقول والبصائر .
ولما نزه نفسه الأقدس دل على ذلك التنزه [ و-{[63606]} ] على العزة والحكمة بدليل شهودي من أنه أنفذ ما كتب من أنه يغلب هو{[63607]} ورسله ومن{[63608]} أنه كبت الذين حادوه وخيب ظن الذين نافقوا ، فتولوا اليهود من {[63609]}أهل الكتاب ليعتزوا{[63610]} بهم ، فأذل اليهود وطردهم من مهبط الوحي وأخزى المنافقين الذين جعلوهم محط{[63611]} اعتمادهم وموضع ولايتهم وودادهم ، فقال : { هو } أي وحده من غير إيجاف{[63612]} خيل ولا ركاب ، { الذي أخرج } على وجه القهر { الذين كفروا } أي ستروا ما في كتبهم من الشواهد {[63613]}التي تشهد{[63614]} لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه النبي الخاتم وما في فطرهم الأولى من أن اتباع الحق أحق ، وقبح عليهم كفرهم بقوله موضع " من بني النضير " أو " اليهود " مثلاً : { من أهل الكتاب } أي الذي أنزله الله على رسوله موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، وفي التعبير ب { كفروا } إشعار بأنهم الذين أزالوا بالتبديل أو الإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة دالاًّ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولما كان الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح ، فكان الخروج منه في غاية العسر ، دل على مزيد قهرهم به بأن قال : { من ديارهم } ولما كان منهم من جلا من المدينة الشريفة إلى خيبر ، وهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ولحق سائرهم بأريحا من أرض الشام أرض المحشر ، ولحق بعضهم بالحيرة ، لوح إلى فتح خيبر وحشرهم منها حشراً ثانياً بقوله معللاً أو{[63615]} موقتاً : { لأول } أي لأجل أول أو عند أول { الحشر } وفي ذلك إشارة إلى أن كل بلد حشروا إليه سيفتح ، ويزلزلون منه{[63616]} زلزلة أخرى ، لا تزال مصائبهم بأهل الإسلام قائمة حتى يكون الحشر الأعظم بالقيامة ، والحشر{[63617]} : الجمع من مكان والسوق إلى غيره بكره ، وسمي أولاً لأنهم أول من أجلي من اليهود من جزيرة العرب ، والحشر الثاني لهم من خيبر على زمن عمر رضي الله عنه{[63618]} ، وعند ابن إسحاق{[63619]} أن إجلاءهم في مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وفتح قريظة في مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان ، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " اخرجوا قالوا : إلى أين ، قال : إلى أرض المحشر " ، وقال ابن عباس{[63620]} رضي الله عنهما : من شك أن المحشر بأرض الشام فليقرأ هذه الآية . انتهى{[63621]} ، وهذا الحشر{[63622]} يدل على المحشر الأعظم وبينه على قوله{[63623]} صلى الله عليه وسلم{[63624]} : " بعثت أنا والساعة كهاتين " .
ولما كان قد أخبر أن حشرهم لم يكن بسبب غير محض قدرته ، استأنف شرح ذلك بقوله : { ما ظننتم } أي أيها المؤمنون { أن يخرجوا } أي يوقعوا الخروج من{[63625]} شيء أورثتموه{[63626]} منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدة بأسهم وشكيمتهم وقرب بني قريظة منهم{[63627]} فكانوا بصدد مظاهرتهم ، وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم وكلهم أهل ملتهم ، والمنافقون من أنصارهم وأسرتهم ، فخابت ظنونهم في جميع ذلك وفالت أراؤهم وسلط{[63628]} عليهم المؤمنون على قلتهم وضعفهم ، وإذا أراد الله نصرة عبد استأسد أرنبه وإذا أراد قهر عدو استنوق{[63629]} أسده .
ولما كانت الحصون تمنع إلى{[63630]} إتيان الأمداد قال : { وظنوا أنهم } ودل على قوة ظنهم وثباته بالجملة الاسمية فقال : { مانعتهم حصونهم } أي ثابت لها المنع ولهم الامتناع ، قالوا : وفي تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي جعل ضميرهم{[63631]} اسم ( إن ) و{[63632]}إسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عز{[63633]} ومنعة لا مطمع معها في معازّتهم{[63634]} ، ودل على ضعف عقولهم بأن {[63635]}عبر عن{[63636]} جنده باسمه وباسمه الأعظم فقال : { من الله } أي الملك الأعظم {[63637]}الذي لا عز{[63638]} إلا له وأنتم جنده ، لا تقاتلون إلا فيه وبه ، بأسكم من بأسه ، فقد اجتمع الظنان على شيء واحد . ولما كان إسناد ما للمضاف إلى المضاف إليه شائعاً في لسان العرب وكثيراً{[63639]} جداً{[63640]} لأنه لا يلتبس على من{[63641]} له إلمام بكلامهم ، وبليغاً{[63642]} جداً لما له من العظمة ، قال : { فآتاهم الله } أي جاءهم الملك الأعظم الذي يحتملون مجيئه بما صور لهم من حقارة{[63643]} أنفسهم التي اضطرتهم إلى الجلاء ، { من حيث لم يحتسبوا } أي من الجهة التي لم يحملوا أنفسهم على حسبها{[63644]} وهي خذلان المنافقين لهم رعباً كرعبهم واستضعافاً كاستضعاف أنفسهم{[63645]} عن مقاومة جند الله بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك ، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة حتى قطعوا بما{[63646]} مناهم وقربه لهم وأغواهم .
ولما كان التقدير : فأوهنهم الله{[63647]} بذلك ، عطف عليه قوله : { وقذف } أي أنزل إنزالاً كأنه قذفه بحجارة ، فثبت وارتكز ، { في قلوبهم الرعب } أي الخوف الذي سكنها فرضّها وملأها وعبر منها إلى جميع قواهم فاجتثها من {[63648]}أصلها ، ثم{[63649]} بين حالهم عند ذلك أو{[63650]} فسر قذف الرعب بقوله : { يخربون بيوتهم } أي يبالغون - على قراءة أبي عمرو{[63651]} بالتشديد - في إخرابها ، أي إفسادها{[63652]} ، فإن الخربة الفساد ، وقراءة{[63653]} غيره يفهم الفعل المطلق الذي لا ينافي المقيد { بأيديهم } ضعفاً منهم - بما أشار إليه جمع القلة ، ويأساً من قوتهم ليأخذوا ما استحسنوا من آلاتها ، فكان الرجل منهم لما{[63654]} تحملوا للرحيل يهدم{[63655]} بيته عن نجاف بابه وما{[63656]} استحسن من خشبه فيضعه على ظهر بعيره فيأخذه وينقب الجدار ويهدم السقف حسداً للمسلمين أن يسكنوها بعدهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يخلوا له{[63657]} عن البلد ولهم ما حملت إبلهم .
ولما كان السبب في تخريب الصحابة رضي الله عنهم لبيوتهم{[63658]} ما أحرقوهم به من المكر والغدر{[63659]} كانوا كأنهم أمروهم بذلك ، فنابوا عنهم فيه ، فقال{[63660]} أيضاً بجمع القلة للدلالة على أن الفعل له سبحانه وحده : { وأيدي المؤمنين } أي الراسخين في الإيمان استيلاء وغلبة عليهم وقد كان المؤمنون يخربون ما ضيق عليهم المجال منها{[63661]} لأجل القتال ، وقدم تخريبهم لأنه أعجب .
ولما كان في غاية الغرابة أن يفعل{[63662]} الإنسان في نفسه كما يفعل فيه{[63663]} عدوه ، سبب عن ذلك قوله : { فاعتبروا } أي احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمل في عظيم قدرة الله تعالى على أن تعبروا{[63664]} من ظواهر العلم في هذه القضية بما دبر الله في إخراجهم إلى بواطن الحكمة بأن لا تعدوا لكم ناصراً من الخلق ولا تعتمدوا على غير الله ، فإن الاعتبار - كما قال القشيري - أحد قوانين الشرع ، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره - انتهى .
وقد احتج بالآية مثبتو القياس فإنه مجاوزة من الأصل إلى الفرع ، والمجاوزة اعتبار ، وهو مأمور به في هذه الآية فهو{[63665]} واجب .
ولما كان الاعتبار عظيم النفع ، لا يحصل إلا للكمل ، زاده تعظيماً بقوله تعالى : { يا أولي الأبصار * } بالنظر بأبصاركم وبصائركم في غريب هذا الصنع لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من إظهار دينه و{[63666]}إعزاز نبيه{[63667]} ولا تعتمدوا على غير الله كما اعتمد هؤلاء على المنافقين ، {[63668]}فإن من{[63669]} اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته ، ولا تلموا بغدر كما أرادوا أن يغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوا عليه وهو قاعد بفناء دار من دورهم رحى من السطح ليقتلوه بها{[63670]} - زعموا ، ولا تفعلوا شيئاً من قبيح أفعالهم لئلا يحصل لكم مثل نكالهم كما أحكمه قوله صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم " الحديث ، وذلك الغدر منهم بعد أن حرضوا قريشاً على غزوة أحد ودلوهم على بعض العورات ، وقال البغوي{[63671]} : إن كعب بن الأشرف أتى قريشاً بعد أحد في أربعين راكباً فحالفهم على النبي صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل عليه السلام عليه يخبره بذلك ، وقال{[63672]} : إنه لما قصدهم{[63673]} عليه السلام أرسلوا إليه أن يخرج في ثلاثين ويخرج منهم ثلاثون{[63674]} ليسمعوا منه ، فإن آمنوا به آمن الكل ، فأجابهم فأرسلوا أن الجمع كثير فاخرج في ثلاثة ليخرج ثلاثة منا{[63675]} ، فأرسلت امرأة منهم إلى أخيها وكان مسلماً أنهم اشتملوا على الخناجر يريدون الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فكف صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وكل ما ذكر من أسباب قصتهم كما ترى{[63676]} دائر على المكر بل هو عين المكر .