في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الكوثر مكية وآياتها ثلاث

هذه السورة خالصة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كسورة الضحى ، وسورة الشرح . يسري عنه ربه فيها ، ويعده بالخير ، ويوعد أعداءه بالبتر ، ويوجهه إلى طريق الشكر .

ومن ثم فهي تمثل صورة من حياة الدعوة ، وحياة الداعية في أول العهد بمكة . صورة من الكيد والأذى للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوة الله التي يبشر بها ؛ وصورة من رعاية الله المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه ؛ ومن تثبيت الله وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه .

كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان . وحقيقة الضلال والشر والكفران . . الأولى كثرة وفيض وامتداد . والثانية قلة وانحسار وانبتار . وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك . .

ورد أن سفهاء قريش ممن كانوا يتابعون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء . ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند الله ، من أمثال العاص ابن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل ، وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إنه أبتر . يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده . وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره !

وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعا . وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وشانئيه ، ولعلها أوجعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضا .

ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] بالروح والندى ، وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه ؛ وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه .

( إنا أعطيناك الكوثر ) . . والكوثر صيغة من الكثرة . . وهو مطلق غير محدود . يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء . . إنا أعطيناك ما هو كثير فائض غزير . غير ممنوع ولا مبتور . . فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور .

هو واجده في النبوة . في هذا الاتصال بالحق الكبير ، والوجود الكبير . الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه . وماذا فقد من وجد الله ?

وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه . وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته ، وينبوع ثر لا نهاية لفيضه وغزارته !

وهو واجده في الملأ الأعلى الذي يصلي عليه ، ويصلي على من يصلي عليه في الأرض ، حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء .

وهو واجده في سنته الممتدة على مدار القرون ، في أرجاء الأرض . وفي الملايين بعد الملايين السائرة على أثره ، وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه ، وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة .

وهو واجده في الخير الكثير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه . سواء من عرفوا هذا الخير فآمنوا به ، ومن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فاض !

وهو واجده في مظاهر شتى ، محاولة إحصائها ضرب من تقليلها وتصغيرها !

إنه الكوثر ، الذي لا نهاية لفيضه ، ولا إحصاء لعوارفه ، ولا حد لمدلوله . ومن ثم تركه النص بلا تحديد ، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد . .

وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن ابن عباس أجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول . فهو كوثر من الكوثر ! وهذا هو الأنسب في هذا السياق وفي هذه الملابسات .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الكوثر

أهداف سورة الكوثر

( سورة الكوثر مكية ، وآياتها 3 آيات ، نزلت بعد سورة العاديات )

وهي سورة خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان أعداؤه يملكون المال والجاه والسلطان ، ويعيرونه بأن أتباعه من الفقراء ، وكانوا يرون أن أبناءه الذكور يموتون صغارا ، فيعيّرونه بأنه أبتر ، لا عقب له من الذكور ، وكانت هذه الأقاويل تلقى من يستمع إليها ويردّدها ، في بيئة تئد البنات ، وتحتكم إلى السيف والقوة ، وترى الفقر سبّة ومنقصة ، فنزلت هذه السورة تدافع عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وتفيد أن الله أعطاه من الخير الكثير ، لقد أعطاه الله النبوة والهدى ، وأيده بالصحابة الأوفياء ، وجعل سيرته عطرة منتشرة ، وشريعته باقية خالدة ، وآلاف الملايين تردد ذكره ، وتشهد له بالرسالة :

وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشقّ له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد

مع آيات السورة

1- إنّا أعطيناك الكوثر . الكوثر صيغة مبالغة من الكثرة ، ومعناه : الشيء البالغ من الكثرة حد الإفراط ، وهو مطلق غير محدود .

وقد ورد أن سفهاء قريش ، ممن كانوا يتابعون الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته بالكيد والمكر ، وإظهار السخرية والاستهزاء ، من أمثال العاص بن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه أبتر ، يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده ، وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره ، فنزلت هذه السورة لتشير إلى عطاء الله تعالى للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وهو عطاء كثير لا حد له .

وقد وردت روايات من طرق كثيرة تفيد أن الكوثر نهر في الجنة ، أوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

( وأخرج البخاري ، وابن جرير ، والحاكم ، وابن عساكر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : الكوثر : الخير الذي أعطاه الله تعالى إياه . قال أبو بشر : قلت لسعيد : فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة ، قال : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله عز وجل إياه ، عليه الصلاة والسلام ، ويروى هذا الجواب عن ابن عباس نفسه أيضا )i .

وفي تفسير النيسابوري أنه وردت عدة أقوال في معنى الكوثر :

القول الأول : الخير الكثير ، إن أن أكثر المفسرين خصّوه فحملوه على أنه نهر في الجنة .

القول الثاني : أن الكوثر أولاده من نسل فاطمة ، أي أن الله يعطيه منها نسلا يبقون إلى آخر الزمان .

القول الثالث : الكوثر هم علماء أمته ، فهم رحمة إلى يوم القيامة .

وروي أن الكوثر هو النبوة والرسالة وكونه خاتم المرسلينii .

كما روي أن الكوثر هو تيسير القرآن وتخفيف الشرائع ، وقيل : هو الإسلام ، وقيل : هو التوحيد ، وقيل : هو العلم والحكمة ، وقيل : هو الفضائل الكثيرة التي وهبه الله تعالى إياها .

( فقد أسري به ليلا ، وانشق له القمر ، وكثر الزاد ببركة دعائه ، وأطعم الخلق الكثير من الطعام القليل ، وأعطاه الله القرآن هدى ورحمة للعالمينiii .

6- فصلّ لربك وانحر . أي : فاجعل صلاتك لربك وحده ، وانحر ذبيحتك ذاكرا اسم الله ، مخلصا لله في صلاتك ونحرك .

كما قال تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . ( الأنعام : 162 ، 163 ) .

( والأكثرون على أن المقصود بالصلاة هنا جنس الصلاة ، لإطلاق اللفظ ، وقال الآخرون : إنها صلاة عيد الأضحى ، لاقترانها بقوله : وانحر . وكانوا يقدمون الأضحية على الصلاة فأمروا بتأخيرها عنها ، والواو تفيد الترتيب استحسانا وأدبا وإن لم تفده قطعا )iv .

3- إن شانئك هو الأبتر . أي : إن مبغضك –كائنا من كان- هو المقطوع ذكره من خيري الدنيا والآخرة .

إنهم لم يبغضوه لشخصه ، فقد كان الصادق الأمين ، ولكنهم أبغضوه لما يحمله لهم من الرسالة والهدي ، فآثروا أهوائهم ، وتخبطوا في ضلالهم ، حتى خذلهم الله وقطع أثرهم ( فقد جرّهم الخذلان إلى غاية الخسران ، ولم يبق لهم إلا سوء الذكر لبعضهم ، والنسيان التام لبقيتهم ، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم ومن اهتدى بهديه فإن ذكرهم لا يزال رفيعا ، وأثرهم لا يزال باقيا في نفوس الصالحينv .

مقاصد السورة

1- أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم الخير الكثير ، فرفع ذكره ، وأعلى شأنه ، ونصر دعوته ، وبارك في أمته .

2- ينبغي إخلاص الصلاة والعبادة والنحر لله سبحانه وتعالى .

3- من أبغض النبي ودعوته انقطع أثره وباء بالخذلان ، بينما بقي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته على مرّ الأزمان .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ إنّا أعطيناك الكوثر 1 فصلّ لربك وانحر 2 إن شانئك هو الأبتر 3 }

المفردات :

الكوثر : الخير الكثير .

التفسير :

1- إنّا أعطيناك الكوثر .

الكوثر : الخير ، وهو مبالغة من الكثرة ، والعرب تسمّي كل شيء كثير كوثرا .

قال الشاعر :

وأنت كثير يا ابن مروان طيّب *** وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

والمعنى :

إنا أعطيناك يا محمد الخير الكثير ، والفضل الوفير ، ومن ذلك : نزول الوحي والقرآن الكريم ، والرسالة الخاتمة ، والإسراء والمعراج ، وأنت أوّل من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع مشفع ، وكتابك مهيمن على الكتب السابقة ، وشريعتك خاتمة الشرائع ، وأعطيت الحنيفية السمحة ، وأعطاك الله الحكمة والعلم ، والحوض المورود ، والمقام المحمود ، وكثرة الأتباع ، والنصر على الأعداء .

وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر الكوثر : ( فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدرّ والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل )vi .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وآياتها ثلاث .

بسم الله الرحمان الرحيم

إنا أعطيناك الكوثر ( 1 ) فصل لربك وانحر ( 2 ) إن شانئك هو الأبتر ( 3 )

سورة الكوثر

وتسمى سورة النحر ، وهي أقصر سورة في القرآن .

{ إن أعطيناك الكوثر } امتن الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بإعطائه الكوثر ؛ أي بتخصيصه به وبأمته يوم القيامة . وهو كما في صحيح البخاري : نهر في الجنة . وقيل : هو حوضه صلى الله عليه وسلم في المحشر . وقيل : هو امتنان بإعطائه الخير الكثير ، والنعم الدنيوية والأخروية من الفضائل . فيندرج في ذلك : النهر والحوض ، والنبوة والحكمة ، والقرآن وسائر المعجزات ، والخلق العظيم ورفعة الذكر ، والنصر على الأعداء وكثرة الفتوحات ، وإظهار الإسلام على الأديان ، وكثرة الأصحاب والأتباع ، والمقام المحمود وهو الشفاعة العظمى يوم القيامة . وتفسيره في الحديث بالنهر إنما هو من باب التمثيل . والكوثر : فوعل من الكثرة ؛ مثل النوفل من النفل ، ومعناه : الشيء البالغ في الكثرة حد الإفراط ، والعرب تسمي كل شيء في كثير في العدد ، أو كثير القدر والخطر : كوثرا .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة الكوثر مكية .

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

سورة التكاثر مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل ، ومدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة .

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

هذه السورة مكية في المشهور ، وقول الجمهور : مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة . ولما ذكر فيما قبلها وصف المنافق بالبخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة ، قابل في هذه السورة البخل ب { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } ، والسهو في الصلاة بقوله : { فَصل } ، والرياء بقوله : { لِرَبّكِ } ، ومنع الزكاة بقوله : { وَانْحَرْ } ، أراد به التصدّق بلحم الأضاحي ، فقابل أربعاً بأربع . ونزلت في العاصي بن وائل ، كان يسمي الرسول صلى الله عليه وسلم بالأبتر ، وكان يقول : دعوه إنما هو رجل أبتر لا عقب له ، لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه ....

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة خالصة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كسورة الضحى ، وسورة الشرح . يسري عنه ربه فيها ، ويعده بالخير ، ويوعد أعداءه بالبتر ، ويوجهه إلى طريق الشكر .

ومن ثم فهي تمثل صورة من حياة الدعوة ، وحياة الداعية في أول العهد بمكة . صورة من الكيد والأذى للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوة الله التي يبشر بها ؛ وصورة من رعاية الله المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه ؛ ومن تثبيت الله وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه .

كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان . وحقيقة الضلال والشر والكفران . . الأولى كثرة وفيض وامتداد . والثانية قلة وانحسار وانبتار . وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك . .

ورد أن سفهاء قريش ممن كانوا يتابعون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء . ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند الله ، من أمثال العاص ابن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل ، وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إنه أبتر . يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده . وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره !

وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعا . وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وشانئيه ، ولعلها أوجعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضا .

ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] بالروح والندى ، وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه ؛ وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه .

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها في جميع التفاسير أيضا سورة الكوثر وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه . وعنونها البخاري في صحيحه سورة { إنا أعطيناك الكوثر } ولم يعدها في الإتقان مع السور التي ليس لها أكثر من اسم .

ونقل سعد الله الشهير بسعدي في حاشيته على تفسير البيضاوي عن البقاعي أنها تسمى سورة النحر. وهل هي مكية أو مدنية? تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا ، فهي مكية عند الجمهور وأقتصر عليه أكثر المفسرين ، ونقل الخفاجي عن كتاب النشر قال : أجمع من نعرفه على أنها مكية . قال الخفاجي : وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها .

وعن الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة هي مدنية ويشهد لهم ما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وأنحر إن شانئك هو الأبتر } ثم قال : أتدرون ما الكوثر? قلنا الله ورسوله أعلم . قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل ، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة) الحديث . وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ { آنفا } في كلام النبي صلى الله عليه وسلم مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب ، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا .

ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى { إن شانئك هو الأبتر } أن تكون السورة مكية ، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى { وانحر } من أن النحر في الحج أو يوم الأضحى تكون السورة مدنية ويبعث على أن قوله تعالى { إن شانئك هو الأبتر } ليس ردا على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك .

والأظهر أن هذه السورة مدنية وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها ...

أغراضها:

اشتملت على بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعطي الخير الكثير في الدنيا والآخرة .

وأمره بأن يشكر الله على ذلك بالإقبال على العبادة .

وأن ذلك هو الكمال الحق لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة وهم مغضوب عليهم من الله تعالى لأنهم أبغضوا رسوله ، وغضب الله بتر لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله .

وإن انقطاع الولد الذكر فليس بترا لأن ذلك لا أثر له في كلام الإنسان .

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

هذه السورة المكية جاءت لترتفع بروحية النبي محمد( صلى الله عليه وسلم ) إلى آفاق الرحمة الإلهية في رعاية الله له ، وفي تطييب نفسه ، وفي الدفاع عنه ، فقد كان المشركون يعملون بكلِّ وسائلهم وأساليبهم على إضعاف نفسه ، وتدمير معنوياته ، وإسقاط موقفه ، بالكلمات الجارحة النابية المؤذية ، وقد جاء في الرّوايات أن بعض سفهاء قريش ، كالعاص بن وائل ، وأبي جهل ، وعقبة بن أبي معيط ، وكعب بن الأشرف ، قالوا عند موت القاسم ابن رسول الله وهو أول ولد له ولد بمكة : إن محمداً قد انقطع نسله ، فلا جرم ، لقد أصبح أبتر ، فنزلت هذه السورة ، لتؤكد بأن الله قد أعطاه الخير الكثير الذي يمتد في كل حياته ، وفي ما بعده ، فليتوجه إلى الله ربه بالصلاة ، فلن ينقطع ذكره ، ولن يفنى نسله ، ولن يكون أبتر ؛ بل إن الذين يقفون ضدّه هم الأَوْلى بهذه الصفة .

وهكذا كانت هذه السورة القصيرة إطلالةً روحيةً على النبي محمد( صلى الله عليه وسلم ) من أجل أن تفتح قلبه على الخير الكثير القادم من الله ، وعلى الامتداد الواسع المنفتح على رسالة الله ، لتقول له : إن الامتداد الذي يمثّله وجوده ، ليس هو الامتداد المحدود الذي يتمثل في الذرية الباقية فقط ؛ بل هو الامتداد في وعي الرسالة وحركيتها وفاعليتها ورحابتها في كل مواقع الحياة والإنسان ، فلا يحزن ولا يبتئس بما كانوا يقولون أو يفعلون .

تفسير الشافعي 204 هـ :

{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ اَلْكَوْثَرَ } هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم . ( الكوكب الأزهر ص : 32 ....

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره : { إنّا أعْطَيْناكَ يا محمد الْكَوْثَرَ } .

واختلف أهل التأويل في معنى الكوثر ؛

فقال بعضهم : هو نهر في الجنة أعطاه الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ...

وقال آخرون : عُنِي بالكوثر : الخير الكثير ... عن عكرِمة ، قال : هو النبوّة ، والخير الذي أعطاه الله إياه ... والقرآن والحكمة ... عن مجاهد ، قال : خير الدنيا والآخرة ...

وقال آخرون : هو حوض أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة...

وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي ، قول من قال : هو اسم النهر الذي أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة ، وصفه الله بالكثرة ، لعظَم قدره .

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك ، لتتابع الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كذلك ...

حدثنا أحمد بن المِقدام العجليّ ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدّث عن قتادة ، عن أنس قال : لما عُرج بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم في الجنة- أو كما قال- عَرَض له نهر حافَتاه الياقوت المجوّف- أو قال : المجوّب- فضرب المَلك الذي معه بيده فيه ، فاستخرج مسكا ، فقال محمد للملك الذي معه : «ما هَذَا ؟ » قال : هذا الكوثر الذي أعطاك الله ...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ إنا أعطيناك الكوثر } هذا خرج مخرج الامتنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإنعام والإفضال ليستأدي بذلك شكره والخضوع له ....

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } قال ابن عباس : نزلت هذه السورة في العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم ، وتحدّثا وأناس من صناديد قريش في المسجد جلوس ، فلما دخل العاص قالوا له : من الذي كنت تحدث ؟ قال : ذاك الأبتر ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم . وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من خديجة ، وكانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر ، فسمّته قريش عند موت ابنه أبتر وصنبوراً ، فأنزل الله سبحانه { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } ....

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{ إنا أعطيناك الكوثر } .....أي الخير الكثير في الدنيا والدين ، فيكون ذلك وعدا من الله إياه بالنصرة والحفظ ....وهذا اللفظ يتناول خيرات الدنيا وخيرات الآخرة ، وأن خيرات الدنيا ما كانت واصلة إليه حين كان بمكة ، والخلف في كلام الله تعالى محال ، فوجب في حكمة الله تعالى إبقاؤه في دار الدنيا إلى حيث يصل إليه تلك الخيرات ، فكان ذلك كالبشارة له والوعد بأنهم لا يقتلونه ، ولا يقهرونه ، ولا يصل إليه مكرهم بل يصير أمره كل يوم في الازدياد والقوة... { إنا أعطيناك الكوثر } يفيد أن الله تعالى تكلم معه لا بواسطة ، فهذا يقوم مقام قوله : { وكلم الله موسى تكليما } بل هذا أشرف لأن المولى إذا شافه عبده بالتزام التربية والإحسان كان ذلك أعلى مما إذا شافهه في غير هذا المعنى ، بل يفيده قوة في القلب ويزيل الجبن عن النفس ، فثبت أن مخاطبة الله إياه بقوله : { إنا أعطيناك الكوثر } مما يزيل الخوف عن القلب والجبن عن النفس...{ إنا } تارة يراد بها الجمع وتارة يراد بها التعظيم . أما ( الأول ) : فقد دل على أن الإله واحد ، فلا يمكن حمله على الجمع .....وأما ( الثاني ) : وهو أن يكون ذلك محمولا على التعظيم ، ففيه تنبيه على عظمة العطية لأن الواهب هو جبار السموات والأرض والموهوب منه ، هو المشار إليه بكاف الخطاب في قوله تعالى : { إنا أعطيناك } والهبة هي الشيء المسمى بالكوثر ، وهو ما يفيد المبالغة في الكثرة ، ولما أشعر اللفظ بعظم الواهب والموهوب منه والموهوب ، فيالها من نعمة ما أعظمها ، وما أجلها ، وياله من تشريف ما أعلاه ...

{ أعطيناك } ولم يقل : سنعطيك لأن قوله : { أعطيناك } يدل على أن هذا الإعطاء كان حاصلا في الماضي ، وهذا فيه أنواع من الفوائد؛

( إحداها ) : أن من كان في الزمان الماضي أبدا عزيزا مرعي الجانب مقضي الحاجة أشرف ممن سيصير كذلك ، ولهذا قال عليه السلام : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين » .

( وثانيها ) : أنها إشارة إلى أن حكم الله بالإسعاد والإشقاء والإغناء والإفقار ، ليس أمرا يحدث الآن ، بل كان حاصلا في الأزل .

( وثالثها ) : كأنه يقول : إنا قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية !

( ورابعها ) كأنه تعالى يقول : نحن ما اخترناك وما فضلناك ، لأجل طاعتك ، وإلا كان يجب أن لا نعطيك إلا بعد إقدامك على الطاعة ، بل إنما اخترناك بمجرد الفضل والإحسان منا إليك من غير موجب ... { إنا أعطيناك } ثم قال ثانيا : { فصل لربك وانحر } وهذا يدل على أن إعطاءه للتوفيق والإرشاد سابق على طاعاتنا ،.... { إنا أعطيناك } أما الكوثر فهو في اللغة فوعل من الكثرة وهو المفرط في الكثرة ، قيل : لأعرابية رجع ابنها من السفر ، بم آب ابنك ؟ قالت : آب بكوثر ، أي بالعدد الكثير ... الكوثر هو النبوة ، ولا شك أنها الخير الكثير لأنها المنزلة التي هي ثانية الربوبية .... الكوثر رفعة الذكر ، وقد مر تفسيره في قوله : { ورفعنا لك ذكرك } ( القول الحادي عشر ) أنه العلم قالوا : وحمل الكوثر على هذا أولى لوجوه ( أحدها ) : أن العلم هو الخير الكثير قال : { وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } وأمره بطلب العلم ، فقال : { وقل رب زدني علما } وسمى الحكمة خيرا كثيرا ، فقال : { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } ....

{ فصل لربك وانحر } وهو إشارة إلى زوال الفقر حتى يقدر على النحر ، وقد وقع فيكون هذا أيضا إخبارا عن الغيب.

قوله : { إن شانئك هو الأبتر } وكان الأمر على ما أخبر فكان معجزا ....

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ إنا } بما لنا من العظمة ، وأكد لأجل تكذيبهم : { أعطيناك } أي خولناك مع التمكين العظيم ، ولم يقل : آتيناك ، لأن الإيتاء أصله الإحضار ، وإن اشتهر في معنى الإعطاء { الكوثر } الذي هو من جملة الجود على المصدقين بيوم الدين . ولما كان كثير الرئيس أكثر من كثير غيره ، فكيف بالملك فكيف بملك الملوك ؟ فكيف إذا أخرجه في صيغة مبالغة ؟ فكيف إذا كان في مظهر العظمة ؟ فكيف إذا بنيت الصيغة على الواو الذي له العلو والغلبة ؟ فكيف إذا أتت إثر الفتحة التي لها من ذلك مثل ذلك ؛ بل أعظم ؟ كان المعنى : أفضنا عليك وأبحناك من كل شيء من الأعيان والمعاني ، من العلم والعمل ، وغيرهما ، من معادن الدارين ومعاونهما ، الخير الذي لا غاية له ، فلا يدخل تحت الوصف ، فأغنيناك عن أن تؤثر بذلك ، أو توفر مالك بجلب نفع أو دفع ضر ، ومنه النهر الذي في الجنة ، ويسقي المؤمنين من الحوض الممدود منه في المحشر الذي مثاله في الدنيا شريعته صلى الله عليه وسلم التي عراها وأسبابها عدد النجوم الذين هم علماء أمته المقتدى بهم ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والكوثر صيغة من الكثرة . . وهو مطلق غير محدود . يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء . . إنا أعطيناك ما هو كثير فائض غزير . غير ممنوع ولا مبتور . . فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور . هو واجده في النبوة . في هذا الاتصال بالحق الكبير ، والوجود الكبير . الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه . وماذا فقد من وجد الله ?... إنه الكوثر ، الذي لا نهاية لفيضه ، ولا إحصاء لعوارفه ، ولا حد لمدلوله . ومن ثم تركه النص بلا تحديد ، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد . . وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن ابن عباس أجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول . فهو كوثر من الكوثر ! وهذا هو الأنسب في هذا السياق وفي هذه الملابسات .

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الفخر الرازي نقل خمسة عشر رأياً في تفسير الكوثر ، ولكن هذه التفاسير تبيّن غالباً المصاديق البارزة لمعناها الواسع وهو «الخير الكثير » .... كلّ الهبات الإلهية لرسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) في كل المجالات تدخل في إطار هذا الخير الكثير ، ومن ذلك انتصاراته على الأعداء في الغزوات ؛ بل حتى علماء أمته الذين يحملون مشعل الإسلام والقرآن في كلّ زمان ومكان . ولا ننسى أنّ كلام اللّه سبحانه تعالى لنبيّه في هذه السّورة كان قبل ظهور الخير الكثير . فهو إخبار بالمستقبل القريب والبعيد ، إخبار إعجازي يشكل دليلاً آخر على صدق دعوة الرسول الأعظم( صلى الله عليه وآله وسلم ) . هذا الخير الكثير يستوجب شكراً عظيماً ، وإنّ كان المخلوق لا يستطيع أداء حقّ نعمة الخالق أبداً . إذ أنّ توفيق الشكر نعمة أخرى منه سبحانه . ولذا يقول سبحانه لنبيّه : { فصل لربّك وانحر } .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

{ إنا أعطيناك الكوثر } قيل : هو نهر في الجنة ، حافتاه الدر . وقيل : هو الخير الكثير .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية ، في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل . ومدنية ، في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة . وهي ثلاث آيات .

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر } قراءة العامة . { إنا أعطيناك } بالعين . وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف : " أنطيناك " بالنون ، وروته أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي لغة في العطاء ، أنطيته : أعطيته . و " الكوثر " : فوعل من الكثرة ، مثل النوفل من النفل ، والجوهر من الجهر . والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا . قال سفيان : قيل لعجوز رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك ؟ قالت بكوثر ، أي بمال كثير . والكوثر من الرجال : السيد الكثير الخير . قال الكميت :

وأنت كثير يا ابنَ مروانَ طَيِّبٌ *** وكان أبوك ابنُ العقائل كَوْثَرَا{[16486]}

والكوثر : العدد الكثير من الأصحاب والأشياع . والكوثر من الغبار : الكثير . وقد تكوثر إذا كثر ، قال الشاعر :

وقد ثار الموتُ حتى تكَوْثَرَا

الثانية : واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولا : الأول : أنه نهر في الجنة ، رواه البخاري عن أنس والترمذي أيضا ، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة . وروى الترمذي أيضا عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكوثر : نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل ، وأبيض من الثلج " . هذا حديث حسن صحيح . الثاني : أنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف ، قاله عطاء . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : بينما{[16487]} نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه متبسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : نزلت علي آنفا سورة - فقرأ - بسم الله الرحمن الرحيم : { إنا أعطيناك الكوثر . فصل لربك وأنحر . إن شانئك هو الأبتر } - ثم قال - " أتدرون ما الكوثر " ؟ قلنا : الله ورسول أعلم . قال : " فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل ، عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم ، فيختلج{[16488]} العبد منهم فأقول : إنه من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدث بعدك " .

والأخبار في حوضه في الموقف كثيرة ، ذكرناها في كتاب " التذكرة " . وأن على أركانه الأربعة خلفاءه الأربعة ، رضوان الله عليهم . وأن من أبغض واحدا منهم لم يسقه الآخر ، وذكرنا هناك من يُطرد عنه . فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك . ثم يجوز أن يسمى ذلك النهر أو الحوض كوثرا ، لكثرة الواردة والشاربة من أمة محمد عليه السلام هناك . ويسمى به لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير .

الثالث : أن الكوثر النبوة والكتاب . قاله عكرمة .

الرابع : القرآن . قاله الحسن .

الخامس : الإسلام . حكاه المغيرة .

السادس : تيسير{[16489]} القرآن وتخفيف الشرائع . قاله الحسين بن الفضل .

السابع : هو كثرة الأصحاب والأمة والأشياع . قاله أبو بكر بن عياش ويمان بن رئاب .

الثامن : أنه الإيثار . قاله ابن كيسان .

التاسع : أنه رفعة الذكر . حكاه الماوردي .

العاشر : أنه نور في قلبك دلك علي ، وقطعك عما سواي .

وعنه : هو الشفاعة ، وهو الحادي عشر .

وقيل : معجزات الرب هدي بها أهل الإجابة لدعوتك ، حكاه الثعلبي ، وهو الثاني عشر .

الثالث عشر : قال هلال بن يساف : هو لا إله إلا الله محمد رسول الله .

وقيل : الفقه في الدين . وقيل : الصلوات الخمس ، وهما الرابع عشر والخامس عشر .

وقال ابن إسحاق : هو العظيم من الأمر ، وذكر بيت لبيد :

وصاحب مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بفَقْدِهِ *** وعند الرَّدَاعِ بيت آخرَ كوثَرُ

أي عظيم{[16490]} .

قلت : أصح هذه الأقوال الأول والثاني ؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الكوثر . وسمع أنس قوما يتذاكرون الحوض فقال : ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض ، لقد تركت عجائز خلفي ، ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي صلى الله عليه وسلم . وفي حوضه يقول الشاعر :

يا صاحبَ الحوضِ من يُدَانِيكَا *** وأنتَ حَقًّا حبيبُ بارِيكَا

وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على حوضه ، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا .


[16486]:هذا عجز بيت لحسان بن نشبة. وصدره كما في اللسان: * أبوا أن يبيحوا جارهم لعدوهم *
[16487]:في صحيح مسلم طبع الأستانة وبولاق: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى... " الحديث.
[16488]:أي ينتزع ويقتطع.
[16489]:في بعض نسخ الأصل: "تسهيل".
[16490]:ملحوب: ماء لبني أسد بن خزيمة. وصاحبه: عوف بن الأحوص. والرادع (بالكسر): اسم ماء أيضا. والكوثر أيضا: السيد الكثير الخير.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

لما كانت سورة الدين بإفصاحها ناهية عن مساوئ الأخلاق ، كانت بإفهامها داعية إلى معالي الشيم ، فجاءت الكوثر لذلك ، وكانت الدين قد ختمت بأبخل البخلاء وأدنى الخلائق : المنع تنفيراً من البخل ومما جره من التكذيب ، فابتدئت الكوثر بأجود الجود : العطاء لأشرف الخلائق ترغيباً فيه وندباً إليه ، فكان كأنه قيل : أنت يا خير الخلق غير متلبس بشيء مما نهت عنه تلك المختتمة بمنع الماعون : { إنا } بما لنا من العظمة ، وأكد لأجل تكذيبهم : { أعطيناك } أي خولناك مع التمكين العظيم ، ولم يقل : آتيناك ، لأن الإيتاء أصله الإحضار ، وإن اشتهر في معنى الإعطاء { الكوثر * } الذي هو من جملة الجود على المصدقين بيوم الدين .

ولما كان كثير الرئيس أكثر من كثير غيره ، فكيف بالملك فكيف بملك الملوك ؟ فكيف إذا أخرجه في صيغة مبالغة ؟ فكيف إذا كان في مظهر العظمه ؟ فكيف إذا بنيت الصيغة على الواو الذي له العلو والغلبة ؟ فكيف إذا أتت إثر الفتحة التي لها من ذلك مثل ذلك ؛ بل أعظم ؟ كان المعنى : أفضنا عليك وأبحناك من كل شيء من الأعيان والمعاني ، من العلم والعمل ، وغيرهما ، من معادن الدارين ومعاونهما ، الخير الذي لا غاية له ، فلا يدخل تحت الوصف ، فأغنيناك عن أن تؤثر بذلك ، أو توفر مالك بجلب نفع أو دفع ضر ، ومنه النهر الذي في الجنة ، ويسقي المؤمنين من الحوض الممدود منه في المحشر الذي مثاله في الدنيا شريعته صلى الله عليه وسلم التي عراها وأسبابها عدد النجوم الذين هم علماء أمته المقتدى بهم ، فقد اجتمع لك الغبطتان : أشرف العطاء من أكرم المعطين وأعظمهم .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما نهى عباده عما يلتذ به من أراد الدنيا وزينتها من الإكثار والكبر والتعزز بالمال والجاه وطلب الدنيا ، أتبع ذلك بما منح نبيه مما هو خير مما يجمعون ، وهو الكوثر وهو الخير الكثير ، ومنه الحوض الذي ترده أمته في القيامة ، لا يظمأ من شرب منه ، ومنه مقامه المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون عند شفاعته العامة للخلق وإراحتهم من هول الموقف ، ومن هذا الخير ما قدم له في دنياه من تحليل الغنائم ، والنصر بالرعب ، والخلق العظيم ، إلى ما لا يحصى من خيري الدنيا والآخرة مما بعض ذلك خير من الدنيا وما فيها ؛ إذ لا تعدل الدنيا وما فيها واحدة من هذه العطايا

{ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }[ يونس : 58 ] ومن الكوثر والخير الذي أعطاه الله كتابه المبين ، الجامع لعقل الأولين والآخرين ، والشفاء لما في الصدور .

ولما كمل له سبحانه من النعم ما لا يأتي عليه حصر مما لا يناسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها ، قال مبيناً له منبهاً على عظيم ما أعطاه{ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا }[ الحجر : 88 ] إلى قوله { ورزق ربك خير وأبقى } فقد اضمحل في جانب نعمة الكوثر الذي أوتي كلُّ ما ذكره الله تعالى في الكتاب من نعيم أهل الدنيا ، وتمكن من تمكن منهم ، وهذا أحد موجبات تأخير هذه السورة ، فلم يقع بعدها ذكر شيء من نعيم الدنيا ، ولا ذكر أحد من المتنعمين بها لانقضاء هذا الغرض وتمامه ، وسورة الدين آخر ما تضمن الإشارة إلى شيء من ذلك كما تقدم من تمهيد إشاراتها ، وتبين بهذا وجه تعقيبها بها - والله تعالى أعلم - انتهى .