هذه السورة خالصة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كسورة الضحى ، وسورة الشرح . يسري عنه ربه فيها ، ويعده بالخير ، ويوعد أعداءه بالبتر ، ويوجهه إلى طريق الشكر .
ومن ثم فهي تمثل صورة من حياة الدعوة ، وحياة الداعية في أول العهد بمكة . صورة من الكيد والأذى للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوة الله التي يبشر بها ؛ وصورة من رعاية الله المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه ؛ ومن تثبيت الله وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه .
كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان . وحقيقة الضلال والشر والكفران . . الأولى كثرة وفيض وامتداد . والثانية قلة وانحسار وانبتار . وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك . .
ورد أن سفهاء قريش ممن كانوا يتابعون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء . ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند الله ، من أمثال العاص ابن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل ، وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إنه أبتر . يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده . وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره !
وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعا . وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وشانئيه ، ولعلها أوجعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضا .
ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] بالروح والندى ، وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه ؛ وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه .
( إنا أعطيناك الكوثر ) . . والكوثر صيغة من الكثرة . . وهو مطلق غير محدود . يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء . . إنا أعطيناك ما هو كثير فائض غزير . غير ممنوع ولا مبتور . . فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور .
هو واجده في النبوة . في هذا الاتصال بالحق الكبير ، والوجود الكبير . الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه . وماذا فقد من وجد الله ?
وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه . وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته ، وينبوع ثر لا نهاية لفيضه وغزارته !
وهو واجده في الملأ الأعلى الذي يصلي عليه ، ويصلي على من يصلي عليه في الأرض ، حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء .
وهو واجده في سنته الممتدة على مدار القرون ، في أرجاء الأرض . وفي الملايين بعد الملايين السائرة على أثره ، وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه ، وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة .
وهو واجده في الخير الكثير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه . سواء من عرفوا هذا الخير فآمنوا به ، ومن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فاض !
وهو واجده في مظاهر شتى ، محاولة إحصائها ضرب من تقليلها وتصغيرها !
إنه الكوثر ، الذي لا نهاية لفيضه ، ولا إحصاء لعوارفه ، ولا حد لمدلوله . ومن ثم تركه النص بلا تحديد ، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد . .
وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن ابن عباس أجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول . فهو كوثر من الكوثر ! وهذا هو الأنسب في هذا السياق وفي هذه الملابسات .
( سورة الكوثر مكية ، وآياتها 3 آيات ، نزلت بعد سورة العاديات )
وهي سورة خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان أعداؤه يملكون المال والجاه والسلطان ، ويعيرونه بأن أتباعه من الفقراء ، وكانوا يرون أن أبناءه الذكور يموتون صغارا ، فيعيّرونه بأنه أبتر ، لا عقب له من الذكور ، وكانت هذه الأقاويل تلقى من يستمع إليها ويردّدها ، في بيئة تئد البنات ، وتحتكم إلى السيف والقوة ، وترى الفقر سبّة ومنقصة ، فنزلت هذه السورة تدافع عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وتفيد أن الله أعطاه من الخير الكثير ، لقد أعطاه الله النبوة والهدى ، وأيده بالصحابة الأوفياء ، وجعل سيرته عطرة منتشرة ، وشريعته باقية خالدة ، وآلاف الملايين تردد ذكره ، وتشهد له بالرسالة :
وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشقّ له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
1- إنّا أعطيناك الكوثر . الكوثر صيغة مبالغة من الكثرة ، ومعناه : الشيء البالغ من الكثرة حد الإفراط ، وهو مطلق غير محدود .
وقد ورد أن سفهاء قريش ، ممن كانوا يتابعون الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته بالكيد والمكر ، وإظهار السخرية والاستهزاء ، من أمثال العاص بن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه أبتر ، يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده ، وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره ، فنزلت هذه السورة لتشير إلى عطاء الله تعالى للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وهو عطاء كثير لا حد له .
وقد وردت روايات من طرق كثيرة تفيد أن الكوثر نهر في الجنة ، أوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( وأخرج البخاري ، وابن جرير ، والحاكم ، وابن عساكر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : الكوثر : الخير الذي أعطاه الله تعالى إياه . قال أبو بشر : قلت لسعيد : فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة ، قال : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله عز وجل إياه ، عليه الصلاة والسلام ، ويروى هذا الجواب عن ابن عباس نفسه أيضا )i .
وفي تفسير النيسابوري أنه وردت عدة أقوال في معنى الكوثر :
القول الأول : الخير الكثير ، إن أن أكثر المفسرين خصّوه فحملوه على أنه نهر في الجنة .
القول الثاني : أن الكوثر أولاده من نسل فاطمة ، أي أن الله يعطيه منها نسلا يبقون إلى آخر الزمان .
القول الثالث : الكوثر هم علماء أمته ، فهم رحمة إلى يوم القيامة .
وروي أن الكوثر هو النبوة والرسالة وكونه خاتم المرسلينii .
كما روي أن الكوثر هو تيسير القرآن وتخفيف الشرائع ، وقيل : هو الإسلام ، وقيل : هو التوحيد ، وقيل : هو العلم والحكمة ، وقيل : هو الفضائل الكثيرة التي وهبه الله تعالى إياها .
( فقد أسري به ليلا ، وانشق له القمر ، وكثر الزاد ببركة دعائه ، وأطعم الخلق الكثير من الطعام القليل ، وأعطاه الله القرآن هدى ورحمة للعالمينiii .
6- فصلّ لربك وانحر . أي : فاجعل صلاتك لربك وحده ، وانحر ذبيحتك ذاكرا اسم الله ، مخلصا لله في صلاتك ونحرك .
كما قال تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . ( الأنعام : 162 ، 163 ) .
( والأكثرون على أن المقصود بالصلاة هنا جنس الصلاة ، لإطلاق اللفظ ، وقال الآخرون : إنها صلاة عيد الأضحى ، لاقترانها بقوله : وانحر . وكانوا يقدمون الأضحية على الصلاة فأمروا بتأخيرها عنها ، والواو تفيد الترتيب استحسانا وأدبا وإن لم تفده قطعا )iv .
3- إن شانئك هو الأبتر . أي : إن مبغضك –كائنا من كان- هو المقطوع ذكره من خيري الدنيا والآخرة .
إنهم لم يبغضوه لشخصه ، فقد كان الصادق الأمين ، ولكنهم أبغضوه لما يحمله لهم من الرسالة والهدي ، فآثروا أهوائهم ، وتخبطوا في ضلالهم ، حتى خذلهم الله وقطع أثرهم ( فقد جرّهم الخذلان إلى غاية الخسران ، ولم يبق لهم إلا سوء الذكر لبعضهم ، والنسيان التام لبقيتهم ، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم ومن اهتدى بهديه فإن ذكرهم لا يزال رفيعا ، وأثرهم لا يزال باقيا في نفوس الصالحينv .
1- أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم الخير الكثير ، فرفع ذكره ، وأعلى شأنه ، ونصر دعوته ، وبارك في أمته .
2- ينبغي إخلاص الصلاة والعبادة والنحر لله سبحانه وتعالى .
3- من أبغض النبي ودعوته انقطع أثره وباء بالخذلان ، بينما بقي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته على مرّ الأزمان .
{ إنّا أعطيناك الكوثر 1 فصلّ لربك وانحر 2 إن شانئك هو الأبتر 3 }
الكوثر : الخير ، وهو مبالغة من الكثرة ، والعرب تسمّي كل شيء كثير كوثرا .
وأنت كثير يا ابن مروان طيّب *** وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
إنا أعطيناك يا محمد الخير الكثير ، والفضل الوفير ، ومن ذلك : نزول الوحي والقرآن الكريم ، والرسالة الخاتمة ، والإسراء والمعراج ، وأنت أوّل من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع مشفع ، وكتابك مهيمن على الكتب السابقة ، وشريعتك خاتمة الشرائع ، وأعطيت الحنيفية السمحة ، وأعطاك الله الحكمة والعلم ، والحوض المورود ، والمقام المحمود ، وكثرة الأتباع ، والنصر على الأعداء .
وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر الكوثر : ( فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدرّ والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل )vi .
{ إن أعطيناك الكوثر } امتن الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بإعطائه الكوثر ؛ أي بتخصيصه به وبأمته يوم القيامة . وهو كما في صحيح البخاري : نهر في الجنة . وقيل : هو حوضه صلى الله عليه وسلم في المحشر . وقيل : هو امتنان بإعطائه الخير الكثير ، والنعم الدنيوية والأخروية من الفضائل . فيندرج في ذلك : النهر والحوض ، والنبوة والحكمة ، والقرآن وسائر المعجزات ، والخلق العظيم ورفعة الذكر ، والنصر على الأعداء وكثرة الفتوحات ، وإظهار الإسلام على الأديان ، وكثرة الأصحاب والأتباع ، والمقام المحمود وهو الشفاعة العظمى يوم القيامة . وتفسيره في الحديث بالنهر إنما هو من باب التمثيل . والكوثر : فوعل من الكثرة ؛ مثل النوفل من النفل ، ومعناه : الشيء البالغ في الكثرة حد الإفراط ، والعرب تسمي كل شيء في كثير في العدد ، أو كثير القدر والخطر : كوثرا .
سورة الكوثر مكية ، وآياتها ثلاث ، نزلت بعد سورة العاديات .
في سورة الماعون وصف الله تعالى الذي يكذب بالدين بأمور أربعة : بالبخل ، والإعراض عن الصلاة ، والرياء ، ومنع المعروف عن الناس .
وهنا تتحدث السورة الكريمة عن ما منح الله لرسوله الكريم من الخير والبركة ، فذكرت أنه أعطاه الكوثر ، وهو الخير الكثير ، والحرص على الصلاة ودوامها ، والإخلاص فيها . وأن الذي يبغضه هو الأبتر المنقطع عن كل خير .
الكوثر : الخير الكثير ، ونهرٌ في الجنة .
الخطابُ للرسول الكريم جاءَ تسليةً عمّا يلاقيه من أذى وأنّ العاقبة له . لقد أعطيناك يا محمدُ ، الخيرَ الكثيرَ من النبوّة والدينِ والحقّ والعدْلِ وكلّ ما فيه سعادة الدنيا والآخرة .
{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ }
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ممتنا عليه : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } أي : الخير الكثير ، والفضل الغزير ، الذي من جملته ما يعطيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، من النهر الذي يقال له : { الكوثر } ، ومن الحوض{[1485]} طوله شهر ، وعرضه شهر ، ماؤه أشد بياضًا من اللبن ، وأحلى من العسل ، آنيته كنجوم{[1486]} السماء في كثرتها واستنارتها ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا .
وهي مكية ، في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل . ومدنية ، في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة . وهي ثلاث آيات .
الأولى : قوله تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر } قراءة العامة . { إنا أعطيناك } بالعين . وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف : " أنطيناك " بالنون ، وروته أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي لغة في العطاء ، أنطيته : أعطيته . و " الكوثر " : فوعل من الكثرة ، مثل النوفل من النفل ، والجوهر من الجهر . والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا . قال سفيان : قيل لعجوز رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك ؟ قالت بكوثر ، أي بمال كثير . والكوثر من الرجال : السيد الكثير الخير . قال الكميت :
وأنت كثير يا ابنَ مروانَ طَيِّبٌ *** وكان أبوك ابنُ العقائل كَوْثَرَا{[16486]}
والكوثر : العدد الكثير من الأصحاب والأشياع . والكوثر من الغبار : الكثير . وقد تكوثر إذا كثر ، قال الشاعر :
الثانية : واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولا : الأول : أنه نهر في الجنة ، رواه البخاري عن أنس والترمذي أيضا ، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة . وروى الترمذي أيضا عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكوثر : نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل ، وأبيض من الثلج " . هذا حديث حسن صحيح . الثاني : أنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف ، قاله عطاء . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : بينما{[16487]} نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه متبسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : نزلت علي آنفا سورة - فقرأ - بسم الله الرحمن الرحيم : { إنا أعطيناك الكوثر . فصل لربك وأنحر . إن شانئك هو الأبتر } - ثم قال - " أتدرون ما الكوثر " ؟ قلنا : الله ورسول أعلم . قال : " فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل ، عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم ، فيختلج{[16488]} العبد منهم فأقول : إنه من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدث بعدك " .
والأخبار في حوضه في الموقف كثيرة ، ذكرناها في كتاب " التذكرة " . وأن على أركانه الأربعة خلفاءه الأربعة ، رضوان الله عليهم . وأن من أبغض واحدا منهم لم يسقه الآخر ، وذكرنا هناك من يُطرد عنه . فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك . ثم يجوز أن يسمى ذلك النهر أو الحوض كوثرا ، لكثرة الواردة والشاربة من أمة محمد عليه السلام هناك . ويسمى به لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير .
الثالث : أن الكوثر النبوة والكتاب . قاله عكرمة .
الرابع : القرآن . قاله الحسن .
الخامس : الإسلام . حكاه المغيرة .
السادس : تيسير{[16489]} القرآن وتخفيف الشرائع . قاله الحسين بن الفضل .
السابع : هو كثرة الأصحاب والأمة والأشياع . قاله أبو بكر بن عياش ويمان بن رئاب .
الثامن : أنه الإيثار . قاله ابن كيسان .
التاسع : أنه رفعة الذكر . حكاه الماوردي .
العاشر : أنه نور في قلبك دلك علي ، وقطعك عما سواي .
وعنه : هو الشفاعة ، وهو الحادي عشر .
وقيل : معجزات الرب هدي بها أهل الإجابة لدعوتك ، حكاه الثعلبي ، وهو الثاني عشر .
الثالث عشر : قال هلال بن يساف : هو لا إله إلا الله محمد رسول الله .
وقيل : الفقه في الدين . وقيل : الصلوات الخمس ، وهما الرابع عشر والخامس عشر .
وقال ابن إسحاق : هو العظيم من الأمر ، وذكر بيت لبيد :
وصاحب مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بفَقْدِهِ *** وعند الرَّدَاعِ بيت آخرَ كوثَرُ
أي عظيم{[16490]} .
قلت : أصح هذه الأقوال الأول والثاني ؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الكوثر . وسمع أنس قوما يتذاكرون الحوض فقال : ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض ، لقد تركت عجائز خلفي ، ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي صلى الله عليه وسلم . وفي حوضه يقول الشاعر :
يا صاحبَ الحوضِ من يُدَانِيكَا *** وأنتَ حَقًّا حبيبُ بارِيكَا
وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على حوضه ، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا .
لما كانت سورة الدين بإفصاحها ناهية عن مساوئ الأخلاق ، كانت بإفهامها داعية إلى معالي الشيم ، فجاءت الكوثر لذلك ، وكانت الدين قد ختمت بأبخل البخلاء وأدنى الخلائق : المنع تنفيراً من البخل ومما جره من التكذيب ، فابتدئت الكوثر بأجود الجود : العطاء لأشرف الخلائق ترغيباً فيه وندباً إليه ، فكان كأنه قيل : أنت يا خير الخلق غير متلبس بشيء مما نهت عنه تلك المختتمة بمنع الماعون : { إنا } بما لنا من العظمة ، وأكد لأجل تكذيبهم : { أعطيناك } أي خولناك مع التمكين العظيم ، ولم يقل : آتيناك ، لأن الإيتاء أصله الإحضار ، وإن اشتهر في معنى الإعطاء { الكوثر * } الذي هو من جملة الجود على المصدقين بيوم الدين .
ولما كان كثير الرئيس أكثر من كثير غيره ، فكيف بالملك فكيف بملك الملوك ؟ فكيف إذا أخرجه في صيغة مبالغة ؟ فكيف إذا كان في مظهر العظمه ؟ فكيف إذا بنيت الصيغة على الواو الذي له العلو والغلبة ؟ فكيف إذا أتت إثر الفتحة التي لها من ذلك مثل ذلك ؛ بل أعظم ؟ كان المعنى : أفضنا عليك وأبحناك من كل شيء من الأعيان والمعاني ، من العلم والعمل ، وغيرهما ، من معادن الدارين ومعاونهما ، الخير الذي لا غاية له ، فلا يدخل تحت الوصف ، فأغنيناك عن أن تؤثر بذلك ، أو توفر مالك بجلب نفع أو دفع ضر ، ومنه النهر الذي في الجنة ، ويسقي المؤمنين من الحوض الممدود منه في المحشر الذي مثاله في الدنيا شريعته صلى الله عليه وسلم التي عراها وأسبابها عدد النجوم الذين هم علماء أمته المقتدى بهم ، فقد اجتمع لك الغبطتان : أشرف العطاء من أكرم المعطين وأعظمهم .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما نهى عباده عما يلتذ به من أراد الدنيا وزينتها من الإكثار والكبر والتعزز بالمال والجاه وطلب الدنيا ، أتبع ذلك بما منح نبيه مما هو خير مما يجمعون ، وهو الكوثر وهو الخير الكثير ، ومنه الحوض الذي ترده أمته في القيامة ، لا يظمأ من شرب منه ، ومنه مقامه المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون عند شفاعته العامة للخلق وإراحتهم من هول الموقف ، ومن هذا الخير ما قدم له في دنياه من تحليل الغنائم ، والنصر بالرعب ، والخلق العظيم ، إلى ما لا يحصى من خيري الدنيا والآخرة مما بعض ذلك خير من الدنيا وما فيها ؛ إذ لا تعدل الدنيا وما فيها واحدة من هذه العطايا
{ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }[ يونس : 58 ] ومن الكوثر والخير الذي أعطاه الله كتابه المبين ، الجامع لعقل الأولين والآخرين ، والشفاء لما في الصدور .
ولما كمل له سبحانه من النعم ما لا يأتي عليه حصر مما لا يناسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها ، قال مبيناً له منبهاً على عظيم ما أعطاه{ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا }[ الحجر : 88 ] إلى قوله { ورزق ربك خير وأبقى } فقد اضمحل في جانب نعمة الكوثر الذي أوتي كلُّ ما ذكره الله تعالى في الكتاب من نعيم أهل الدنيا ، وتمكن من تمكن منهم ، وهذا أحد موجبات تأخير هذه السورة ، فلم يقع بعدها ذكر شيء من نعيم الدنيا ، ولا ذكر أحد من المتنعمين بها لانقضاء هذا الغرض وتمامه ، وسورة الدين آخر ما تضمن الإشارة إلى شيء من ذلك كما تقدم من تمهيد إشاراتها ، وتبين بهذا وجه تعقيبها بها - والله تعالى أعلم - انتهى .