سورة محمد مدنية وآياتها ثمان وثلاثون
هذه السورة مدنية ، ولها اسم آخر . اسمها سورة القتال . وهو اسم حقيقي لها . فالقتال هو موضوعها . والقتال هو العنصر البارز فيها . والقتال في صورها وظلالها . والقتال في جرسها وإيقاعها .
القتال موضوعها . فهي تبدأ ببيان حقيقة الذين كفروا وحقيقة الذين آمنوا في صيغة هجوم أدبي على الذين كفروا ، وتمجيد كذلك للذين آمنوا ، مع إيحاء بأن الله عدو للأولين ولي للآخرين ، وأن هذه حقيقة ثابتة في تقدير الله سبحانه . فهو إذن إعلان حرب منه تعالى على أعدائه وأعداء دينه منذ اللفظ الأول في السورة : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد - وهو الحق من ربهم - كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم . ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم . كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ) .
وعقب إعلان هذه الحرب من الله على الذين كفروا ، أمر صريح للذين آمنوا بخوض الحرب ضدهم . في صيغة رنانة قوية ، مع بيان لحكم الأسرى بعد الإثخان في المعركة والتقتيل العنيف : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما منا بعد وإما فداء ، حتى تضع الحرب أوزارها ) . .
ومع هذا الأمر بيان لحكمة القتال ، وتشجيع عليه ، وتكريم للإستشهاد فيه ، ووعد من الله بإكرام الشهداء ، وبالنصر لمن يخوض المعركة انتصارا لله ، وبهلاك الكافرين وإحباط أعمالهم : ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ، ولكن ليبلو بعضكم ببعض ، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم . يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم . ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم . .
ومعه كذلك تهديد عنيف للكافرين ، وإعلان لولاية الله ونصرته للمؤمنين ، وضياع الكافرين وخذلانهم وضعفهم وتركهم بلا ناصر ولا معين : فلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ? دمر الله عليهم ، وللكافرين أمثالها . ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم . . كذلك تهديد آخر للقرية التي أخرجت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم ) . .
ثم تمضي السورة بعد هذا الهجوم العنيف السافر في ألوان من الحديث حول الكفر والإيمان ، وحال المؤمنين وحال الكافرين في الدنيا والآخرة . فتفرق بين متاع المؤمن بالطيبات ؛ وتمتع الكافرين بلذائذ الأرض كالحيوان : إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار . والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم . . كما تصف متاع المؤمنين في الجنة بشتى الأشربة الشهية من ماء غير آسن ، ولبن لم يتغير طعمه ، وخمر لذة للشاربين ، وعسل مصفى ، في وفر وفيض . . في صورة أنهار جارية . . ذلك مع شتى الثمرات ، ومع المغفرة والرضوان . ثم سؤال : أهؤلاء ( كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ? ) . .
فإذا انقضت هذه الجولة الأولى في المعركة السافرة المباشرة بين المؤمنين والكافرين . أعقبها في السورة جولة مع المنافقين ، الذين كانوا هم واليهود بالمدينة يؤلفون خطرا على الجماعة الإسلامية الناشئة لا يقل عن خطر المشركين الذين يحاربونها من مكة وما حولها من القبائل في تلك الفترة ، التي يبدو من الوقائع التي تشير إليها السورة أنها كانت بعد غزوة بدر ، وقبل غزوة الأحزاب وما تلاها من خضد شوكة اليهود ، وضعف مركز المنافقين " كما ذكرنا في تفسير سورة الأحزاب " .
والحديث عن المنافقين في هذه السورة يحمل ظلالها . ظلال الهجوم والقتال ، منذ أول إشارة . فهو يصور تلهيهم عن حديث رسول الله ، وغيبة وعيهم واهتمامهم في مجلسه ؛ ويعقب عليه بما يدمغهم بالضلال والهوى : ( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم : ماذا قال آنفا ? أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ) . .
ويهددهم بالساعة يوم لا يستطيعون الصحو ولا يملكون التذكر : ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ? فقد جاء أشراطها . فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ? ) . .
ثم يصور هلعهم وجبنهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلفهم القتال - وهم يتظاهرون بالإيمان - والفارق بينهم يومئذ وبين المؤمنين الصادقين : ( ويقول الذين آمنوا : لولا نزلت سورة ! فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ! ) .
ويحثهم على الطاعة والصدق والثبات . ويرذل اتجاهاتهم ، ويعلن عليهم الحرب والطرد واللعن : ( فأولى لهم طاعة وقول معروف . فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم . فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ? أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) . .
ويفضحهم في توليهم للشيطان ، وفي تآمرهم مع اليهود ، ويهددهم بالعذاب عند الموت بالفضيحة التي تكشف أشخاصهم فردا فردا في المجتمع الإسلامي ، الذي يدمجون أنفسهم فيه ، وهم ليسوا منه ، وهم يكيدون له : ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، الشيطان سول لهم وأملى لهم . ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله : سنطيعكم في بعض الأمر . والله يعلم إسرارهم . فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ? ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم . أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم . ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ، ولتعرفنهم في لحن القول . والله يعلم أعمالكم ، ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ) . .
وفي الجولة الثالثة والأخيرة في السورة عودة إلى الذين كفروا من قريش ومن اليهود وهجوم عليهم : ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول - من بعد ما تبين لهم الهدى - لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم ) . .
وتحذير للذين آمنوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أعدائهم : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، ولا تبطلوا أعمالكم . إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار ، فلن يغفر الله لهم . .
وتحضيض لهم على الثبات عند القتال : ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ) . .
وتهوين من شأن الحياة الدنيا وأعراضها . وحض على البذل الذي يسره الله ، ولم يجعله استئصالا للمال كله ، رأفة بهم ، وهو يعرف شح نفوسهم البشرية ، وتبرمها وضيقها لو أحفاهم في السؤال :
( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ، وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم . إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ) . .
وتختم السورة بما يشبه التهديد للمسلمين إن هم بخلوا بإنفاق المال ، وبالبذل في القتال : ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ، فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء ، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم ) . .
إنها معركة مستمرة من بدء السورة إلى ختامها ؛ يظللها جو القتال ، وتتسم بطابعه في كل فقراتها .
وجرس الفاصلة وإيقاعها منذ البدء كأنه القذائف الثقيلة : [ أعمالهم . بالهم . أمثالهم . أهواءهم . أمعائهم . . ] وحتى حين تخف فإنها تشبه تلويح السيوف في الهواء : [ أوزارها . أمثالها . أقفالها . . . ] .
وهناك شدة في الصور كالشدة في جرس الألفاظ المعبرة عنها . . فالقتال أو القتل يقول عنه : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ) . . والتقتيل والأسر يصوره بشدة : ( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ) . . والدعاء على الكافرين يجيء في لفظ قاس : ( فتعسا لهم وأضل أعمالهم ) . . وهلاك الغابرين يرسم في صورة مدوية ظلا ولفظا : ( دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ) . . وصورة العذاب في النار تجيء في هذا المشهد : ( وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) . . وحالة الجبن والفزع عند المنافقين تجيء في مشهد كذلك عنيف : ( ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ! ) . . حتى تحذير المؤمنين من التولي يجيء في تهديد نهائي حاسم : ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) . .
وهكذا يتناسق الموضوع والصور والظلال والإيقاع في سورة القتال . .
( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم . والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد - وهو الحق من ربهم - كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم . ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل ؛ وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم . كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ) . .
افتتاح يمثل الهجوم بلا مقدمة ولا تمهيد ! وإضلال الأعمال الذي يواجه به الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله . سواء صدوا هم أم صدوا وصدوا غيرهم - يفيد ضياع هذه الأعمال وبطلانها . ولكن هذا المعنى يتمثل في حركة . فإذا بنا نرى هذه الأعمال شاردة ضالة ، ونلمح عاقبة هذا الشرود والضلال ، فإذا هي الهلاك والضياع . وهي حركة تخلع ظل الحياة على الأعمال ، فكأنما هي شخوص حية أضلت وأهلكت . وتعمق المعنى وتلقي ظلاله . ظلال معركة تشرد فيها الأعمال عن القوم ، والقوم عن الأعمال . حتى تنتهي إلى الضلال والهلاك !
وهذه الأعمال التي أضلت ربما كان المقصود منها بصفة خاصة الأعمال التي يأملون من ورائها الخير . والتي يبدو على ظاهرها الصلاح . فلا قيمة لعمل صالح من غير إيمان . فهذا الصلاح شكلي لا يعبر عن حقيقة وراءه . والعبرة بالباعث الذي يصدر عنه العمل لا بشكل العمل . وقد يكون الباعث طيبا . ولكنه حين لا يقوم على الإيمان يكون فلتة عارضة أو نزوة طارئة . لا يتصل بمنهج ثابت واضح في الضمير ، متصل بخط سير الحياة العريض ، ولا بناموس الوجود الأصيل . فلا بد من الإيمان ليشد النفس إلى أصل تصدر عنه في كل اتجاهاتها ، وتتأثر به في كل انفعالاتها . وحينئذ يكون للعمل الصالح معناه . ويكون له هدفه ويكون له أطراده وتكون له آثاره وفق المنهج الإلهي الذي يربط أجزاء هذا الكون كله في الناموس ؛ ويجعل لكل عمل ولكل حركة وظيفة وأثرا في كيان هذا الوجود ، وفي قيامه بدوره ، وانتهائه إلى غايته .
أهداف سورة محمد صلى الله عليه وسلم
هي سورة مدنية ، وآياتها 38 آية ، نزلت بعد سورة الحديد ، ولها اسمان : سورة محمد ، وسورة القتال .
والقتال عنصر بارز في السورة ، بل هو موضوعها الرئيسي ، فقد نزلت بعد غزوة بدر وقبل غزوة الأحزاب ، أي في الفترة الأولى من حياة المسلمين بالمدينة ، حيث كان المؤمنون يتعرضون لعنت المشركين ، وكيد المنافقين ، ودسائس اليهود .
يمكن أن نقسم سورة ( محمد ) إلى ثلاثة أقسام :
- القسم الأول : يحرض على قتال المشركين ويحث عليه ، ويشمل الآيات ( 1-15 ) .
- القسم الثاني : يفضح المنافقين ويكشف نفاقهم ، ويشمل الآيات ( 16-30 ) .
- القسم الثالث : دعوة المسلمين إلى مواصلة الجهاد بالنفس والمال ، ويشمل الآيات ( 31-38 ) .
1- التحريض على قتال المشركين :
تبدأ السورة بالهجوم على المشركين وتبين هلاكهم وضياعهم وضلالهم ، لقد سلب الله عنهم الهدى والتوفيق ، فاتبعوا الباطل وانحرفوا إلى الضلال ، أما المؤمنون فقد آمنوا بالله وبرسوله ؛ فكّفر الله ذنوبهم ورزقهم صلاح البال وهدوء النفس ونعمة الرضا واليقين .
وشتان بين مؤمن راسخ الإيمان ، صادق اليقين ، معتمد على رب كريم حليم ، وبين كافر ضال يبيع الحق ويشتري الباطل ، ويفرط في الإيمان والهدى ، ويتبع الشرك والضلال .
ثم تحت السورة المسلمين على قتال المشركين ، وقطع شوكتهم وهدم جبروتهم ، وإزالة قوتهم من طريق المسلمين : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب . . . } وهذا الضرب بعد عرض الإسلام عليهم وإبائهم له ، { حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق . . . } والإثخان شدة التقتيل حتى تتحطم قوة العدو وتتهاوى فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع ، وعندئذ يؤسر من استأسر ويشد وثاقه : { فإما منا بعد وإما فداء . . . } أي إما أن يطلق سراحهم بعد ذلك بلا مقابل ، وإما أن يطلق سراحهم مقابل فدية من مال أو عمل ، أو في نظير إطلاق سراح المسلمين والمأسورين . { حتى تضع الحرب أوزارها . . . } ( محمد : 4 ) . أي : حتى تنتهي الحرب بين الإسلام وأعدائه المناوئين له .
ولو شاء الله لانتقم من المشركين وأهلكهم كما أهلك من سبقهم بالطوفان والصيحة والريح العقيم ، ولكن الله أراد أن يختبر قوة المؤمنين ، وأن يجعلهم سبيلا لإعزاز الدين وإهلاك الكافرين ، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضيع أعمالهم ، فهم شهداء عند الله يتمتعون بجنات خالدة ونعيم مقيم ، وأرواحهم في حواصل طير خضر تسبح حول الجنة ، وتأكل من ثمارها وتقيم في ألوان النعيم ، وقد وعد الله الشهداء بحسن المثوبة والكرامة والهداية وصلاح البال ودخول الجنة ؛ لأنهم نصروا دين الله فسينصرهم الله ويثبت أقدامهم ، كما توعد الكافرين بالتعاسة والضلال والهلاك جزاء كفرهم وعنادهم .
وتسوق السورة ألوانا من التهديد للمشركين ، فتأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا ماذا أصاب المكذبين من الهلاك والدمار ، ثم تمضي السورة في ألوان من الحديث حول الكفر والإيمان ، فتصف المؤمنين بأنهم في ولاية الله ورعايته ، والكفار محرومون من هذه الولاية .
وتفرق السورة بين متاع المؤمنين بالطيبات ، وتمتع الكافرين بلذائذ الأرض كالحيوانات : { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم } . ( محمد : 12 ) .
إن الفارق الرئيسي بين الإنسان والحيوان أن للإنسان إرادة وهدفا وتصورا خاصا للحياة يقوم على أصولها الصحيحة المتلقاة من الله خالق الحياة ، فإذا فقد هذا فقد أهم خصائص الإنسان المميزة لجنسه ، وأهم المزايا التي من أجلها كرمه الله .
ثم تمضي السورة في سلسلة من الموازنات بين المؤمن المتيقن والكافر الذي اتبع هواه وشيطانه ، وزين له سوء العمل : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم } . ( محمد : 14 ) .
كما تصف الآيات متاع المؤمنين في الجنة بشتى الأشربة الشهية ، من ماء غير آسن ، ولبن لم يتغير طعمه ، وخمرة لذة للشاربين ، وعسل مصفى ، في وفر وفيض ، في صورة أنهار جارية ، وذلك مع شتى الثمرات ، ومع المغفرة والرضوان ، ثم سؤال : أهؤلاء المتمتعون بالجنة والرضوان ، { كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } . ؟
تشمل الآيات ( 16-30 ) المقطع الثاني من سورة محمد ، وفيها حديث عن المنافقين وصفاتهم ، وحركة النفاق حركة مدنية لم يكن لها وجود في مكة نظرا لضعف المسلمين في مكة وتفوق أعدائهم ، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة وبدأ شأن الإسلام في الظهور والاستعلاء ، بدأت حركة النفاق في الظهور والنمو ، وساعدها على الظهور وجود اليهود في المدينة ولهم قوة مادية وفكرية ، وكراهيتهم للدين الجديد ، وسرعان ما اجتمع اليهود مع المنافقين على هدف واحد ، ودبروا أمرهم بليل ، فأخذ المنافقون في حبك المؤامرات ودس الدسائس في كل مناسبة تعرض ، فإن كان المسلمون في شدة ظهروا بعدائهم وجهروا ببغضائهم ، وإذا كانوا في رخاء ظلت الدسائس سرية والمكائد في الظلام ، وكانوا إلى منتصف العهد المدني يشكلون خطرا حقيقيا على الإسلام والمسلمين ، وقد تواتر ذكر المنافقين ووصف دسائسهم والتنديد بمؤامراتهم وأخلاقهم في السور المدنية ، كما تكرر ذكر اتصالهم باليهود وتلقيهم عنهم ، واشتراكهم معهم في بعض المؤامرات المحبوكة .
والحديث عن المنافقين في سورة ( محمد ) يحمل فكرتها ، ويصور شدتها في مواجهة المشركين والمنافقين ، بل إن المنافقين هم فرع من الكافرين ، أظهروا الملاينة وأبطنوا الكفر والخداع ، أو هم فرع من اليهود يعمل بأمرهم ، وينفذ كيدهم ومكرهم ، فمن هؤلاء المنافقين من يستمع إلى النبي بأذنه ويغيب عنه بوعيه وقلبه ، فإذا خرج من مجلس النبي تظاهر بالحرص على الدين ، فسأل الصحابة عما قاله النبي سؤال سخرية واستهزاء ، أو سؤال تظاهر ورياء .
أولئك المنافقون قد طمس الله على أفئدتهم فلا تفقه ، وقد اتبعوا أهواءهم ، فقادهم الهوى إلى الهلاك .
بينما المتقون المهتدون يزيدهم الله هدى ويمنحهم التقوى والرشاد ، ثم يتهدد القرآن المنافقين بالساعة ، فإذا جاءت فلا يملكون الهداية ولا تنفعهم الندامة .
{ فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } . ( محمد : 18 ) .
ثم تصور الآيات جبن المنافقين وهلعهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلفهم بالقتال ، فهم يتظاهرون بالإيمان ، فإذا أنزلت سورة لا تشابه فيها وذكر فيها الجهاد ؛ رأيت المنافقين ينظرون إليك يا محمد نظرا كنظر من هو في النزع الأخير ، تشخص أبصارهم ، لذلك كانوا جديرين لأن يهددهم الله بالويل والهلاك .
وتحثهم الآيات على الطاعة والصدق والثبات : { فأولى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم } . ( محمد : 20 ، 21 ) .
وبذلك يفتح القرآن الباب لمن يريد الطهارة الحسية والنفسية من المنافقين ومن جميع المخاطبين .
ثم يحثهم على تدبر القرآن وتأمله حثا يحرك المشاعر ويستجيش القلوب ويخلص الضمير .
وتمضي الآيات في تصوير حال المنافقين ، وبيان سبب توليهم عن الإيمان بعد إذ شارفوه ، فتبين أنه تآمرهم مع اليهود ، ووعدهم لهم بالطاعة فيما يدبرون .
لقد كره اليهود الإسلام وتألبوا عليه ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة شنوا عليه حرب الدس والمكر والكيد ، وانضم المنافقون لليهود يقولون لهم سرا : { سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم } . ( محمد : 26 ) .
ثم يتهدد القرآن المنافقين بملائكة العذاب ، لأنهم تركوا طريق الإسلام ، وانضموا إلى دسائس الحاقدين عليه .
وفي نهاية المقطع يتهددهم بكشف أمرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين الذين يعيشون بينهم متخفين ، لأن ما فيك يظهر على فيك :
ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
قال تعالى : { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم } . ( محمد : 29 ، 30 ) .
3- حديث عن المشركين والمؤمنين :
المقطع الأخير من السورة يشمل الآيات ( 32-38 ) ، وقد تحدث في بدايته عن المشركين ، وبين أنهم منعوا الناس عن الإيمان بالله ، وأعلنوا الشقاق والعداوة لرسول الله ، وهؤلاء لن يضروا الله بكفرهم ، وسيحبط الله أعمالهم .
وتتجه الآيات إلى المؤمنين فتأمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول ، وتأمرهم بالثبات على الحق حتى يأتي نصر الله .
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } . ( محمد : 33 ) .
وهذا التوجيه يوحي بأنه كان في الجماعة المسلمة يومئذ من لا يتحرى الطاعة الكاملة ، أو من تثقل عليه بعض التكاليف ، وتشق عليه بعض التضحيات التي يقتضيها جهاد هذه الطوائف القوية المختلفة التي تقف للإسلام ، وتناوشه من كل جانب ، والتي تربطها بالمسلمين مصالح ووشائج قربى يصعب فصمها والتخلي عنها نهائيا كما تقتضي العقيدة ذلك .
ولقد كان وقع هذا التوجيه عنيفا عميقا في نفوس المسلمين الصادقين ، فارتعشت له قلوبهم وخافوا أن يقع منهم ما يبطل أعمالهم ويذهب بحسناتهم .
وتستمر الآيات في خطاب المؤمنين ، تدعوهم إلى مواصلة الجهاد بالنفس والمال دون تراخ أو دعوة إلى مهادنة الكفر المعتدي الظالم ، تحت أي مؤثر من ضعف أو مراعاة قرابة أو رعاية مصلحة ، ودون بخل بالمال الذي لا يكلفهم الله أن ينفقوا منه إلا في حدود مستطاعة ، مراعيا الشح الفطري في النفوس ، وإذا لم ينهضوا بتكاليف هذه الدعوة فإن الله يحرمهم كرامة حملها والانتداب لها ، ويستبدل بهم قوما غيرهم ينهضون بتكاليفها ، ويعرفون قدرها ، وهو تهديد عنيف مخيف يناسب جو السورة ، كما يشي بأنه كان علاجا لحالات نفسية قائمة في صفوف المسلمين ، إذ ذاك -من غير المنافقين- وذلك إلى جانب حالات التفاني والتجرد والشجاعة والفداء التي اشتهرت بها الروايات ، فقد كان في الجماعة المسلمة هؤلاء وهؤلاء . . وكان القرآن يعالج ويربي لينهض بالمتخلفين إلى المستوى العالي الكريم .
معظم مقصود سورة محمد : الشكاية من الكفار في إعراضهم عن الحق ، وذكر آداب الحرب والأسرى وحكمهم ، والأمر بالنصرة والإيمان ، وابتلاء الكفار في العذاب ، وذكر أنهار الجنة : من ماء ، ولبن ، وخمر ، وعسل ، وذكر طعام الكفار وشرابهم ، وظهور علامة القيامة ، والشكاية من المنافقين ، وتفصيل ذميمات خصالهم ، وأمر المؤمنين بالطاعة والإحسان ، وذم البخلاء في الإنفاق ، وبيان استغناء الحق تعالى وفقر الخلق في قوله تعالى : { والله الغني وأنتم الفقراء . . . } ( محمد : 38 )1 .
أخرج الطبراني في الأوسط ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة محمد صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب .
وتسمى سورة محمد لبيان تنزيل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم فيها ، في قوله تعالى : { وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم . . . } ( محمد : 2 ) .
ولم يذكر محمد صلى الله عليه وسلم باسمه في القرآن إلا أربع مرات :
في سورة آل عمران : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . . . } ( آل عمران : 144 ) .
وفي سورة الأحزاب : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم . . . } ( الأحزاب : 40 ) .
وهنا في سورة محمد ، وفي سورة الفتح : { محمد رسول الله . . . } ( الفتح : 29 ) .
وفي غير هذه المواضع يذكر بصفته أو النبي مثل : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } . ( الأحزاب : 45 ) .
وسميت سورة القتال لبيان أحكام القتال والدعوة إلى الجهاد فيها ، مثل قوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب . . . } ( محمد : 4 ) .
وصدوا عن سبيل الله : منعوا الناس عن الدخول في الإسلام ، وذلك يستلزم أنهم منعوا أنفسهم من الدخول فيه ، وأعرضوا عنه .
1- { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } .
هذه بداية السورة ، تلقي في وجه الكافرين عقوبة كفرهم وضلالهم ، فهؤلاء أهل مكة كفروا ومنعوا الناس من الإيمان ، وخرجوا في غزوة بدر الكبرى بطرا وتظاهرا بالباطل ، وليتسامع بهم الناس ، فكان الجزاء أن هزمهم الله هزيمة منكرة ، فقتل منهم سبعون ، وأسر منهم سبعون ، وفر الباقون ، فجعل كيدهم ضائعا ، وعملهم ضالا ، ومكرهم في تباب .
وتفيد روايات أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في كفار مكة ، الذين أرادوا هزيمة المسلمين في بدر ، فهزمهم الله .
أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } .
قال : هم أهل مكة ، نزلت فيهم .
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات . . . } قال : هم الأنصار .
وقال ابن عباس في رواية أخرى : نزلت في المطعمين ببدر ، وهم اثنا عشر رجلا : أبو جهل ، والحارث ابن هشام ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبي وأمية ابنا خلف ، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ، وأبو البحتري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن عامر بن نوفل .
جعلها ضالة على غير هدى وتوفيق ، وذكر بعض المفسرين أن المعنى : أبطل الله ثواب الأعمال الحسنة ، التي يسمونها مكارم الأخلاق ، كصلة الرحم ، وإكرام الضيف ، وإجارة المستجير ، فقد أبطل أعمالهم فساد عقيدتهم .
قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } . ( الفرقان : 23 ) .
أي أن الله يجازيهم على أعمالهم الحسنة في الدنيا ، لأنهم لا نصيب لهم في الجنة بسبب كفرهم .
وهناك من المفسرين من يرى أن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وأنه لن يضيع مكافأة أي عامل على عمل عمله ، حتى ولو كان كافرا أو كتابيا ، واستشهدوا بقوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } . ( الزلزلة : 7 ، 8 ) .
وبقوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . ( البقرة : 62 ) .
والأولى بنا أن نقول : إن ذلك في مشيئة الله تعالى ، وعلمه وحكمته وفضله ، فنفوض علم ذلك إليه سبحانه وتعالى .
{ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } أي منعوا غيرهم عن الإسلام . ويدخل فيهم المطمعون يوم بدر دخولا أوليا ؛ من الصد . يقال : صده عن الأمر صدا ، منعه وصرفه عنه ؛ كأصد . أو أعرضوا عن الإسلام ؛ من الصدود . يقال : صد عنه صدودا ، أعرض . { أضل أعمالهم } أبطل ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ كالإنفاق الذي فعلوه في تلك الغزوة لمحاربته – بنصرته لرسوله الله صلى الله عليه وسلم ، وإظهار دينه على الدين كله . أو جعل ما كانوا يعملونه من أعمال البر والمكارم ضلالا ، أي غير هدى وغير رشاد ؛ لأنهم عملوه على غير استقامة . من الضلال ، وأصله العدول عن الطريق المستقيم ، وضده الهداية .
سورة محمد مدنية وآياتها ثمان وثلاثون ، نزلت بعد سورة الحديد . وهي مرتبطة بآخر السورة السابقة ، حتى لو أسقطت البسملة من بينهما لكان الكلام متصلا بسابقه لا تنافر فيه . ولها اسم آخر وهو : { سورة القتال } وهو اسم حقيقي لها ، لأن موضوعها القتال . وهو العنصر الأساسي فيها ، والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة .
تبدأ السورة ببيان حقيقة الذين كفروا ، وحقيقة الذين آمنوا ، وأن الله تعالى أبطل أعمال الذين كفروا لأنهم اتبعوا الباطل ، وكفّر عن المؤمنين لأنهم اتبعوا الحق . ثم بينت السورة بإسهاب وجوب الدفاع عن الحق ، وأن جزاء ذلك في الآخرة دخول الجنة ، وحرّضت المؤمنين على نصر دين الله والقتال في سبيله .
وفيها إعلان الحرب من الله تعالى على الذين كفروا ، وقتلهم وأسرهم ، وعلى المؤمنين أن يحاربوهم : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب . . الآية } .
ومع هذا الأمر يبين الله حكمة القتال ويشجع عليه ، وتكريم الاستشهاد في سبيل الله ، وإكرام الشهداء ، والنصر لمن يخوض المعركة انتصارا لله ، وإهلاك الكافرين وإحباط أعمالهم .
ثم بعد ذلك يأتي الحديث عن المنافقين الذين كانوا يؤلفون مع اليهود خطرا كبيرا على المسلمين في المدينة أول الأمر . وتبين السورة هلعهم وجُبنهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلفهم القتال ، وهم يتظاهرون بالإيمان . تفضحهم السورة في تولّيهم للشيطان وتآمرهم مع اليهود ، ويهددهم الله بالعذاب عند الموت ، ومن ثم يحذّر المؤمنين أن يصيبهم مثل ما أصاب أعداءهم { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، ولا تُبطلوا أعمالكم } . وتُختم السورة بما يشبه التهديد للمسلمين إذا بخلوا بإنفاق المال ، والبذل في القتال ، فالله غير عاجز عن أن يُذهبهم ويأتي بخير منهم : { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء ، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم } .
صدوا عن سبيل الله : صرفوا الناس عن الإسلام .
قسم الله الناس فريقين : أهلَ الكفر الذين صدّوا الناسَ عن دين الله ، وبيّن أن هؤلاء قد أبطلَ أعمالهم .
سورة القتال ، وهي سورة محمد صلى الله عليه وسلم ، مدنية في قول ابن عباس ، ذكره النحاس . وقال الماوردي : في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا : إلا آية منها نزلت عليه بعد حجة الوداع حين خرج من مكة ، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا عليه ، فنزل عليه " وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك " {[1]} [ محمد : 13 ] . وقال الثعلبي : إنها مكية ، وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير . وهي تسع وثلاثون آية . وقيل ثمان .
قال ابن عباس ومجاهد : هم أهل مكة كفروا بتوحيد الله ، وصدوا أنفسهم والمؤمنين عن دين الله وهو الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه ، وقاله السدي . وقال الضحاك : " عن سبيل الله " عن بيت الله بمنع قاصديه . ومعنى " أضل أعمالهم " : أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وجعل الدائرة عليهم ، قال الضحاك . وقيل : أبطل ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم ، من صلة الأرحام وفك الأسارى وقرى الأضياف وحفظ الجوار . وقال ابن عباس : نزلت في المطعمين ببدر ، وهم اثنا عشر رجلا : أبو جهل ، والحارث بن هشام ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبي وأمية ابنا خلف ، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن عامر بن نوفل .
سورة{[1]} محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وتسمى القتال و{[2]}تسمى أيضا{[3]} الذين كفروا .
مقصودها التقدم إلى المؤمنين في حفظ حظيرة الدين بإدامة الجهاد للكفار ، حتى يلزموهم الصغار ، أو يبطلوا{[4]} ضلالهم كما أضل [ الله-{[5]} ] أعمالهم ، لا سيما أهل الردة الذين [ فسقوا عن محيط الدين إلى -{[6]} ] أودية الضلال المبين ، والتزام{[7]} هذا الخلق الشريف إلى أن تضع الحرب أوزارها بإسلام أهل الأرض كلهم بنزول{[8]} عيسى عليه الصلاة والسلام ، وعلى ذلك دل اسمها " الذين كفروا " لأن من المعلوم أن من صدك عن سبيلك قاتلته و[ أنك-{[9]} ] إن لم تقاتله كنت مثله ، واسمها محمد واضح في ذلك لأن الجهاد كان خلقه عليه/أفضل الصلاة والسلام إلى أن توفاه الله تعالى وهو نبي الرحمة بالملحمة لأنه لا يكون حمد وثم نوع ذم كما تقدم تحقيقه في سورة فاطر وفي سبأ وفي الفاتحة ، ومتى كان كف عن أعداء الله [ كان-{[10]} ] الذم ، [ و-{[11]} ] أوضح أسمائها في هذا المقصد القتال ، فإن من المعلوم أنه لأهل الضلال { بسم الله } الملك الأعظم الذي [ أقام-{[12]} ] جنده للذب عن حماه { الرحمن } الذي عمت رحمته تارة بالبيان وأخرى بالسيف والسنان { الرحيم } الذي خص حزبه بالحفظ في طريق الجنان .
لما أقام سبحانه الأدلة في الحواميم حتى صارت كالشمس ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، وختم بأنه لا يهلك بعد هذه الأدلة إلا القوم{[13]} الفاسقون ، افتتح هذه بالتعريف بهم فقال سبحانه وتعالى :
فقال سبحانه وتعالى : { الذين كفروا } أي ستروا أنوار الأدلة فضلوا على{[59255]} علم { وصدوا } أي امتنعوا بأنفسهم ومنعوا غيرهم لعراقتهم في الكفر { عن سبيل الله } أي الطريق الرحب المستقيم الذي شرعه الملك الأعظم { أضل } أي أبطل إبطَّالاً عظيماً يزيل العين والأثر-{[59256]} { أعمالهم * } التي هي أرواحهم المعنوية وهي كل شيء يقصدون به نفع أنفسهم من جلب نفع أو دفع ضر بعد أن وفر سيئاتهم وأفسد بالهم ، ومن جملة أعمالهم ما يكيدونكم به لأنها إذا ضلت عما قصدوا بها بجعله سبحانه لها ضالة ضائعة هلكت من جهة أنها ذهبت في المهالك ومن جهة{[59257]} أنها ذهبت في غير الجهة التي قصدت لها فبطلت منفعتها المقصودة منها فصارت هي باطلة فأذهبوا أنتم أرواحهم{[59258]} الحسية بأن تبطلوا صورهم وأشباحهم بأن تقطعوا أوصالهم وأنتم في غاية الاجتراء عليهم ، فإن ربهم الذي أوجدهم قد أبطلهم وأذن لكم في إبطالهم ، فإنه قد علم أن لا صلاح لهم والمؤذي طبعاً يقتل شرعاً ، فمن قدرتم على قتله فهو محكوم بكفره ، محتوم بخيبته وخسره .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : {[59259]}لما انبنت{[59260]} سورة الأحقاف على ما ذكر من مآل من كذب وافترى {[59261]}وكفر{[59262]} وفجر ، وافتتحت السورة بإعراضهم ، ختمت بما قد-{[59263]} تكرر من تقريعهم وتوبيخهم ، فقال تعالى : { ألم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى{[59264]} } أي لو اعتبروا بالبداءة لتيسر عليهم أمر العودة ، ثم ذكر عرضهم على النار إلى{[59265]} قوله { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } فلما ختم بذكر هلاكهم ، افتتح السورة الأخرى بعاجل ذلك اللاحق لهم في دنياهم فقال تعالى : { فإذا{[59266]} لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق {[59267]}فإما منّاً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها{[59268]} } الآية بعد ابتداء السورة بقوله { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } فنبه على أن أصل محنتهم إنما هو بما أراده تعالى بهم في سابق علمه ليعلم المؤمنون أن الهدى{[59269]} والضلال بيده{[59270]} ، فنبه على الطريقين بقوله { أضل أعمالهم } وقوله في الآخر{[59271]} { كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم } ثم بين {[59272]}أنه تعالى{[59273]} لو شاء لانتصر منهم ولكن{[59274]} أمر المؤمنين بقتالهم ابتلاء واختباراً ، ثم حض المؤمنين على ما أمرهم به من ذلك فقال : { إن تنصروا الله ينصركم } ثم التحمت الآي - انتهى .