هذه السورة والتي بعدها توجيه من الله - سبحانه وتعالى - لنبيه [ صلى الله عليه وسلم ] ابتداء وللمؤمنين من بعده جميعا ، للعياذ بكنفه ، واللياذ بحماه ، من كل مخوف : خاف وظاهر ، مجهول ومعلوم ، على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل . . وكأنما يفتح الله - سبحانه - لهم حماه ، ويبسط لهم كنفه ، ويقول لهم ، في مودة وعطف : تعالوا إلى هنا . تعالوا إلى الحمى . تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه . تعالوا فأنا أعلم أنكم ضعاف وأن لكم أعداء وأن حولكم مخاوف وهنا . . هنا الأمن والطمأنينة والسلام . .
ومن ثم تبدأ كل منهما بهذا التوجيه . ( قل : أعوذ برب الفلق ) . . ( قل : أعوذ برب الناس ) . .
وفي قصة نزولها وقصة تداولها وردت عدة آثار ، تتفق كلها مع هذا الظل الذي استروحناه ، والذي يتضح من الآثار المروية أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] استروحه في عمق وفرح وانطلاق :
عن عقبة - ابن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط ? قل : أعوذ برب الفلق وقل : أعوذ برب الناس " . .
وعن جابر - رضي الله عنه - قال : قال لي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " اقرأ يا جابر " . قلت : ماذا بأبي أنت وأمي ? قال " اقرأ : قل أعوذ برب الفلق . وقل أعوذ برب الناس " فقرأتهما . فقال : " اقرأ بهما فلن تقرأ بمثلهما " . .
وعن ذر بن حبيش قال : سألت أبي بن كعب - رضي الله عنه - عن المعوذتين . قلت : يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا [ وكان ابن مسعود لا يثبتهما في مصحفه ثم ثاب إلى رأي الجماعة وقد أثبتهما في المصحف ] فقال : سألت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " قيل لي : قل . فقلت " . فنحن نقول كما قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وكل هذه الآثار تشي بتلك الظلال الحانية الحبيبة . .
وهنا في هذه السورة يذكر الله - سبحانه - نفسه بصفته التي بها يكون العياذ من شر ما ذكر في السورة .
( قل أعوذ برب الفلق ) . . والفلق من معانيه الصبح ، ومن معانيه الخلق كله . بالإشارة إلى كل ما يفلق عنه الوجود والحياة ، كما قال في الأنعام : ( إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ) . . وكما قال : ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ) . .
وسواء كان هو الصبح فالاستعاذة برب الصبح الذي يؤمن بالنور من شر كل غامض مستور ، أو كان هو الخلق فالاستعاذة برب الخلق الذي يؤمن من شر خلقه ، فالمعنى يتناسق مع ما بعده . .
( سورة الفلق مكية ، وآياتها 5 آيات ، نزلت بعد سورة الفيل )
وسورة الفلق توجيه من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين جميعا ، للعياذ بكنفه ، واللياذ بجاهه من كل سوء ، والاعتصام بقدرته والاحتماء بجلاله من شرور مخلوقاته ، وما عسى أن يصدر عنهم من إفك وحسد .
1 ، 2- قل أعوذ بربّ الفلق* من شر ما خلق .
الفلق هو الصبح ، وقال جمع من المفسرين : إن الفلق هو الموجود الممكن كله ، أي : قل : أستعيذ برب المخلوقات وبفالق الإصباح من كل أذى وشر يصيبني من مخلوق من مخلوقاته جميعا .
ثم خصص من بعض ما خلق أصنافا يكثر وقوع الأذى منها :
3- ومن شرّ غاسق إذا وقب . أصل المعنى في مادة غسق . السيلان والانصباب ، وأصل الوقب : النقرة في الجبل ونحوه ، ووقب بمعنى دخل دخولا لم يترك شيئا إلا مرّ به .
والمراد من الغاسق هنا : الليل ، ووقب : أي دخل وغمر كل شيء كأنما انصب عليه واشتدت ظلمته .
أي : أستعيذ بالله من شر الليل إذا دخل وغمر كل شيء بظلامه . وأستعيذ بالله من الظلام الحالك ، وما يختبئ فيه من حشرة مؤذية ، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء ، أو من ظلمات النفس والحيرة .
وعن ابن عباس : هو ظلمة الشهوة البهيمية إذا غلبت داعية العقلi .
4- ومن شر النّفاثات في العقد . أي : ومن شر النمّامين الذين يقطعون روابط المحبة ، ويبدّدون شمل المودة ، ( والنميمة تشبه أن تكون ضربا من السحر لأنها تحوّل ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة ، بوسيلة خفية كاذبة ، والنميمة تضلّل وجدان الصديقين ، كما يضلل الليل من يسير فيه بظلمته ، ولهذا ذكرها عقب ذكر الغاسق إذا وقب ، ولا يسهل على أحد أن يحتاط للتحفظ من النمّام ، فربما دخل عليك بما يشبه الصدق حتى لا يكاد يمكنك تكذيبه ، فلا بد من قوة أعظم من قوتك تستعين بها عليه )ii .
أو النفاثات في العقد : الساحرات الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس ، وخداع الأعصاب ، والإيحاء إلى النفوس ، والتأثير في المشاعر ، وهن يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل ، وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء .
ويصح أن يراد بالنفاثات في العقد : النساء الكيادات اللواتي يفسدن عقد الزوجية ، بصرف الزوج عن زوجته واستمالته حتى يهجر زوجته الأولى ، فكأن الثانية أفسدت عقد الزوجية بين الزوج وزوجته الأولىiii .
5- ومن شرّ حاسد إذا حسد . والحسد انفعال نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمني زوالها ، وسواء أتبع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ ، أو وقف عند حد الانفعال النفسي ، فإن شرا يمكن أن يعقب هذا الانفعال .
فإذا حسد الحاسد ، ووجه انفعالا نفسيا معينا إلى المحسود ، فإن شرّا يمكن أن ينفذ إلى المحسود عن طريق العين أو النفس ، ونحن نستجير بالله ونستعيذ به ، ونلجأ إلى رحمته وفضله ، ليعيدنا من هذه الشرور إجمالا وتفصيلا .
وقد روى البخاري بإسناده ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما وقرأ فيهما : قل هو الله أحد . وقل أعوذ برب الفلق . وقل أعود برب الناس . ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مراتiv .
1- الالتجاء إلى الله والتحصن بقدرته من شر الخلق .
2- ومن شر الظلام إذا انتشر وغطى الكون .
3- ومن شر النساء الكيّادات صاحبات الحيل ، ومن شر أهل الفتنة والنميمة .
{ قل أعوذ بربّ بالفلق 1 من شر ما خلق 2 ومن شر غاسق إذا وقب 3 ومن شر النفّاثات في العقد 4 ومن شر حاسد إذا حسد 5 }
الفلق : الصبح ، أو جميع الموجودات .
قل يا محمد : أعوذ وألوذ بربّ الفلق ، أي برب المخلوقات ومبدع الكائنات ، أو قل : أعتصم برب الصباح الذي يتجلى عنه الليل .
{ قل أعوذ } أعتصم واستجير{ برب الفلق } أي الصبح . وسمى فلقا لانفلاق الليل وانشقاقه عنه ؛ ومنه { فالق الإصباح } {[418]} أي شاق ظلمة آخر الليل عن بياض الصبح ، ومخرج له منها كما يخرج الشاة من إهابها . ويطلق الفلق على جميع المخلوقات ؛ لأنه تعالى فلق عنها ظلمة العدم فأخرجها إلى نور الوجود .
{ قل أعوذ برب الفلق } نزلت هذه السورة والتي بعدها لما سحر لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتكى شكوى شديدة ، فأعلمه الله بما سحر به ، وأين هو ، فبعث من أتى به ، وكان وترا فيه إحدى عشرة عقدة ، فجعلوا كلما حلوا عقدة وجد راحة ، حتى حلوا العقد كلها ، وأمره الله تعالى أن يتعوذ بهاتين السورتين ، وهما إحدى عشرة آية على عدد العقد .
أمر بالتعوذ برب هذا الدين ، موافقة ل{ إياك نعبد وإياك نستعين } ، من شر ما يقدح فيه بضرر في الظاهر أو في الباطن وهم الخلائق حتى على الفنا في الغنا ، وبدأ بما يعم شياطين الإنس والجن في الظاهر والباطن ، ثم اتبع بما يعم القبيلين ، ويخص الباطن الذي يستلزم صلاحه صلاح الظاهر ، إعلاماً بشرف الباطن على وجه لا يخل بالظاهر ، وفي ذلك إشارة إلى الحث على معاودة القراءة من أول القرآن كما يشير إليه قوله تعالى :{ فإذا قرأت القرآن }[ النحل :98 ] - أي أردت قراءته -
{ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }[ النحل : 98 ] ، فقال تعالى : { قل } أي لكل من يبلغه القول من جميع الخلائق تعليماً لهم وأمراً ، فإنهم كلهم مربوبون مقهورون ، لا نجاة لهم في شيء من الضرر إلا بعصمته سبحانه وتعالى ، فعلى كل منهم أن يفزع أول ما تصيبه المصيبة إلى مولاه القادر على كشفها تصحيحاً لتوكله ، فإنه يرتقي بذلك إلى حال الرضا بمر القضاء ، ولا يأخذ في الاعتماد على جلادته وتدبيره بحوله وقوته ، فإنه يشتد أسفه ، ولا يرد ذلك عنه شيئاً : { أعوذ } أي أستجير وألتجىء وأعتصم وأحترز .
ولما كان هذا المعنى أليق شيء بصفة الربوبية ؛ لأن الإعاذة من المضار أعظم تربية قال : { برب الفلق * } ، أي الذي يربيه وينشىء منه ما يريد ، وهو الشيء المفلوق بإيجاده ظلمة العدم كالعيون التي فلقت بها ظلمة الأرض والجبال ، وكالأمطار التي فلقت بها ظلمة الجو والسحاب ، وكالنبات الذي فلقت به ظلمة الصعيد ، وكالأولاد التي فلقت بها ظلمة الأحشاء ، وكالصبح الذي فلقت به ظلمة الليل ، وما كان من الوحشة إلى ما حصل من ذلك من الطمأنينة والسكون والأنس والسرور إلى غير ذلك من سائر المخلوقات ، قال الملوي : والفلق - بالسكون والحركة- كل شيء انشق عنه ظلمة العدم ، وأوجد من الكائنات جميعها ، انتهى . وخص في العرف بالصبح فقيل : فلق الصبح ، ومنه قوله تعالى :{ فالق الإصباح }[ الأنعام : 96 ] ؛ لأنه ظاهر في تغير الحال ، ومحاكاة يوم القيامة الذي هو أعظم فلق يشق ظلمة الفنا والهلاك بالبعث والإحياء ، فإن القادر على ما قبله بما نشاهده قادر عليه ؛ لأنه لا فرق ؛ بل البعث أهون في عوائد الناس ؛ لأنه إعادة ، كذا سائر الممكنات ، ومن قدر على ذلك قدر على إعاذة المستعيذ من كل ما يخافه ويخشاه .