لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية ، وقيل : مكية ، والأول أصح ، وهي خمس آيات ، وثلاث وعشرون كلمة ، وأربعة وسبعون حرفا .

( م ) عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط ، { قل أعوذ برب الفلق } ، { وقل أعوذ برب الناس } " . فيه بيان عظيم فضل هاتين السورتين ، وفيه دليل واضح على كونهما من القرآن ، وفيه رد على من نسب إلى ابن مسعود خلاف هذا ، وفيه بيان أن لفظة { قل } من القرآن أيضا ، وأنه من أول السورتين بعد البسملة ، وقد اجتمعت الأمة على هذا كله بعد خلاف ذكر فيه .

( خ ) عن زر بن حبيش قال : " سألت أبي بن كعب عن المعوذتين قلت : يا أبا الوليد ، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا ، فقال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قيل لي فقلت ، فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، وفي رواية مثلها -ولم يذكر ابن مسعود- عن عبد الله بن حبيب قال : " أصابنا طش وظلمة فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا ، فخرج فقال : قلت : ما أقول ؟ قال :{ قل هو الله أحد الله الصمد } ، والمعوذتين ، حين تمسي وحين تصبح ، تكفيك كل شيء " ، وفي رواية " قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق مكة ، فأصبت خلوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدنوت منه ، فقال : قل ؟ قلت : ما أقول ؟ قال :{ قل أعوذ برب الفلق } ، حتى تختمها ، ثم { قل أعوذ برب الناس } ، حتى تختمها ، ثم قال : ما تعوذ بالناس بأفضل منهما " ، أخرجه النسائي عن جابر بمثله ، ومعنى الطش الطشيش المطر الضعيف ، وهو قول أبي الدرداء .

قوله عز وجل : { قل أعوذ برب الفلق } قال ابن عباس وعائشة : " كان غلام من اليهود يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فدبت إليه اليهود ، فلم يزالوا به حتى أخذ من مشاطة رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدة من أسنان مشطه ، فأعطاها اليهود ، فسحروه فيها ، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود ، فنزلت السورتان فيه " .

( ق ) عن عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل إليه أن يصنع الشيء ولم يصنعه " ، وفي رواية " أنه يخيل إليه فعل الشيء ، وما فعله ، حتى إذا كان يوم ، وهو عندي دعا الله ، ودعاه ، ثم قال : " أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه " ؟ قلت : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : " قد جاءني رجلان ، فجلس أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، ثم قال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب . قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق . قال : فيما ذا ؟ قال : في مشط ومشاطة ، وجف طلعة ذكر . قال : فأين هو ؟ قال : في بئر ذروان " . ومن الرواة من قال : في بئر بني زريق ، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل ، ثم رجع إلى عائشة فقال : والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين . قلت : يا رسول الله ، فأخرجه . قال : " أما أنا فقد عافاني الله وشفاني ، وخفت أن أثير على الناس منه شراً " . وفي رواية للبخاري " أنه كان يرى أنه يأتي النساء ، ولا يأتيهن . قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك " .

عن زيد بن أرقم قال : " سحر رجل من اليهود النبي صلى الله عليه وسلم ، فاشتكى ذلك أياماً ، فأتاه جبريل فقال : إن رجلاً من اليهود سحرك ، وعقد لك عقداً في بئر كذا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فاستخرجها ، فجاء بها فحلها ، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال ، فما ذكر ذلك لليهودي ، ولا رآه في وجهه قط " ، أخرجه النسائي ، وروي " أنه كان تحت صخرة في البئر ، فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة ، فإذا فيه مشاطة من رأسه صلى الله عليه وسلم وأسنان من مشطه " ، وقيل : كان في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة ، وقيل : كان مغروزاً بالإبر ، فأنزل الله هاتين السورتين ، وهما إحدى عشرة آية : سورة الفلق خمس آيات ، وسورة الناس ست آيات ، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة ، حتى انحلت العقد كلها ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال . وروي " أنه لبث ستة أشهر ، واشتد عليه ذلك ثلاث ليال ، فنزلت المعوذتان " .

( م ) عن أبي سعيد الخدري " أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، اشتكيت ؟ قال : نعم . قال : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك . بسم الله أرقيك " .

( فصل وقبل الشروع في التفسير نذكر معنى الحديث ، وما قيل فيه ، وما قيل في السحر ، وما قيل في الرقى ) :

قولها : في الحديث " إن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشيء ، ولم يصنعه " .

قال الإمام المازري : مذهب أهل السّنة ، وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر ، وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثّابتة ، خلافاً لمن أنكر ذلك ، ونفى حقيقته ، وأضاف : ما يقع منه إلا خيالات باطلة لا حقائق لها ، وقد ذكره الله في كتابه ، وذكر أنه مما يتعلم ، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به ، وأنه يفرق بين المرء وزوجه ، وهذا كله لا يمكن أن يكون مما لا حقيقة له ، وهذا الحديث الصحيح مصرح بإثباته ، ولا يستنكر في العقل أن الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق ، أو تركيب أجسام ، أو المزج بين قوى لا يعرفها إلا الساحر ، وأنه لا فاعل إلا الله تعالى ، وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى على يد من يشاء من عباده .

فإن قلت : المستعاذ منه ، هل هو بقضاء الله وقدره فذلك قدح في القدرة ؟

قلت : كل ما وقع في الوجود هو بقضاء الله وقدره ، والاستشفاء بالتّعوذ والرّقى من قضاء الله وقدره ، يدل على صحة ذلك ما روى التّرمذي عن ابن أبي خزامة عن أبيه قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أرأيت رقى نسترقي بها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ قال : هي من قدر الله تعالى . " قال التّرمذي : هذا حديث حسن ، وعن عمر : نفر من قدر الله إلى قدر الله تعالى .

( فصل ) :

وقد أنكر بعض المبتدعة حديث عائشة المتفق عليه ، وزعم أنه يحط منصب النّبوة ، ويشكك فيها ، وأن تجويزه يمنع الثّقة بالشّرع .

ورد على هذا المبتدع بأن الذي ادعاه باطل ؛ لأن الدّلائل القطعية والنقلية قد قامت على صدقه صلى الله عليه وسلم ، وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ ، والمعجزة شاهدة بذلك ، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل .

وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا ، وهو ما يعرض للبشر ، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له .

وقد قيل : إنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ، وليس واطئ ، وهذا مثل ما يتخيله الإنسان في المنام . فلا يبعد أن يتخيله في اليقظة ، ولا حقيقة له ، وقيل : إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله ، ولكن لا يعتقد ما تخيله فتكون اعتقاداته على السّداد . قال القاضي : وقد جاءت في بعض روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما سلط على بدنه وظواهر جوارحه ، لا على قلبه وعقله واعتقاده ، وليس في ذلك ما يوجب لبساً على الرسالة ، ولا طعناً لأهل الزّيغ والضّلالة .

وقوله : " ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب " أي مسحور . قوله : " وجف طلعة ذكر " يروى بالباء ، ويروى بالفاء ، وهو وعاء طلع النخل . وأما الرّقى والتّعاويذ فقد اتفق الإجماع على جواز ذلك إذا كان بآيات من القرآن ، أو إذا كانت وردت في الحديث ، ويدل على صحته الأحاديث الواردة في ذلك : منها حديث أبي سعيد المتقدم أن جبريل رقى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنها ما روي عن عبيد بن رفاعة الزرقي " أن أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله ، إن ولد جعفر تسرع إليهم العين . أفأسترقي لهم . قال : نعم ، فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين " ، أخرجه التّرمذي ، وقال : حديث صحيح .

وعن أبي سعيد الخدري " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ ويقول : " أعوذ بالله من الجان ، وعين الإنسان " ، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما ، وترك ما سواهما " أخرجه التّرمذي ، وقال : حديث حسن غريب .

فهذه الأحاديث تدل على جواز الرّقية ، وإنما المنهي عنه منها ما كان فيه كفر أو شرك ، أو ما لا يعرف معناه مما ليس بعربي ، لجواز أن يكون فيه كفر ، والله أعلم .

فقوله عز وجل { قل أعوذ برب الفلق } ، أراد بالفلق الصبح ، وهو قول الأكثرين ، ورواية عن ابن عباس ؛ لأن الليل ينفلق عن الصبح ، وسبب تخصيصه في التعوذ أن القادر على إزالة هذه الظلمة عن العالم قادر على أن يدفع عن المستعيذ ما يخافه ، ويخشاه .

وقيل : إن طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج ، كما أن الإنسان ينتظر طلوع الصّباح ، فكذلك الخائف يترقب مجيء النجاح . وقيل إن تخصيص الصبح بالذكر في هذا الموضع ؛ لأنه وقت دعاء المضطرين ، وإجابة الملهوفين ، فكأنه يقول : قل أعوذ برب الوقت ، الذي يفرج فيه هم المهمومين والمغمومين . وروي عن ابن عباس أن الفلق سجن في جهنم ، وقيل : هو واد في جهنم إذا فتح استعاذ أهل النار من حره ، ووجهه أن المستعيذ قال : أعوذ برب هذا العذاب ، القادر عليه من شر عذابه وغيره .

وروي عن ابن عباس أيضاً أن الفلق الخلق ، ووجه هذا التأويل ، أن الله تعالى فلق ظلمات بحر العدم بإيجاد الأنوار ، وخلق منه الخلق ، فكأنه قال : قل أعوذ برب جميع الممكنات ، ومكون جميع المحدثات .