فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفلق

هي خمس آيات وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة ، وأخرج أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق . قال السيوطي : صحيحة عن ابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين في المصحف يقول : لا تخلطوا القرآن بما ليس منه إنهما ليستا من كتاب الله ، إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوّذ بهما ، وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما . قال البزار : لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف . وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم عن زر بن حبيش قال «أتيت المدينة فلقيت أبيّ بن كعب ، فقلت له : أبا المنذر إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه ، فقال : أما والذي بعث محمداً بالحق لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما وما سألني عنهما أحد منذ سألته غيرك ، قال : قيل لي : قل ، فقلت فقولوا فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » . وأخرج الطبراني عن ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هاتين السورتين ، فقال : قيل لي ، فقلت فقولوا كما قلت » . وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنزلت علي الليلة آيات لم أر مثلهن قط { قل أعوذ برب الفلق } و{ قل أعوذ برب الناس } » . وأخرج ابن الضريس وابن الأنباري والحاكم وصححه وابن مردويه في الشعب عن عقبة بن عامر قال «قلت يا رسول الله : أقرئني سورة يوسف وسورة هود ، قال : يا عقبة اقرأ بقل أعوذ برب الفلق ، فإنك لن تقرأ سورة أحب إلى الله وأبلغ منها ، فإذا استطعت أن لا تفوتك فافعل » . وأخرج ابن سعد والنسائي والبغوي والبيهقي عن أبي حابس الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يا أبا حابس أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون ؟ قال بلى يا رسول الله ، قال : { قل أعوذ برب الفلق } و{ قل أعوذ برب الناس } هما المعوذتان » . وأخرج الترمذي وحسنه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين الجان ومن عين الإنس ، فلما نزلت سورة المعوذتين أخذ بهما وترك ما سوى ذلك » . وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال ، ومنها أنه كان يكره الرقى إلا بالمعوذتين » . وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أحب السور إلى الله { قل أعوذ برب الفلق } و{ قل أعوذ برب الناس } » . وأخرج النسائي وابن الضريس وابن حبان في صحيحه وابن الأنباري وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : «أخذ بمنكبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : اقرأ ، قلت : ما أقرأ بأبي أنت وأمي ؟ قال : { قل أعوذ برب الفلق } ثم قال : اقرأ ، بأبي أنت وأمي ما أقرأ ؟ قال : { قل أعوذ برب الناس } ، ولم تقرأ بمثلهما » . وأخرج مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث ، فلما اشتدّ وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده عليه رجاء بركتهما » . وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من طريق مالك بالإسناد المذكور . وأخرج عبد بن حميد في مسنده عن زيد بن أرقم قال «سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود ، فاشتكى فأتاه جبريل ، فنزل عليه بالمعوّذتين ، وقال : إن رجلاً من اليهود سحرك ، والسحر في بئر فلان ، فأرسل علياً فجاء به فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية ويحل حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال » . وأخرجه ابن مردويه والبيهقي من حديث عائشة مطولا ، وكذلك أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عباس . وقد ورد في فضل المعوذتين ، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما في الصلاة وغيرهما أحاديث ، وفيما ذكرناه كفاية . وأخرج الطبراني في الصغير عن علي بن أبي طالب قال «لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقرب وهو يصلي ، فلما فرغ قال : لعن الله العقرب لا تدع مصلياً ولا غيره ، ثم دعا بماء وملح وجعل يمسح عليها ويقرأ : قل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس » .

{ الفلق } الصبح ، يقال : هو أبين من فلق الصبح ، وسمي فلقاً لأنه يفلق عنه الليل . وهو فعل بمعنى مفعول . قال الزجاج : لأن الليل ينفلق عنه الصبح ، ويكون بمعنى مفعول . يقال : هو أبين من فلق الصبح ، ومن فرق الصبح ، وهذا قول جمهور المفسرين ، ومنه قول ذي الرّمة :

حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق *** هادئة في أخريات الليل منتصب

وقول الآخر :

يا ليلة لم أنمها بتّ مرتفقا *** أرعى النجوم لي أن نوّر الفلق

وقيل : هو سجن في جهنم . وقيل : هو اسم من أسماء جهنم . وقيل : شجرة في النار . وقيل : هو الجبال والصخور ، لأنها تفلق بالمياه : أي تشقق . وقيل : هو التفليق بين الجبال ، لأنها تنشق من خوف الله . قال النحاس : يقال لكل ما اطمأنّ من الأرض فلق ، ومنه قول زهير :

ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت *** أيدي الركاب بهم من راكس فلقا

والراكس : بطن الوادي ، ومثله قول النابغة :

ودوني راكس فالضواجع *** . . .

وقيل : هو الرحم تنفلق بالحيوان ، وقيل : هو كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحبّ والنوى وكلّ شيء من نبات وغيره قاله الحسن والضحاك . قال القرطبي : هذا القول يشهد له الانشقاق ، فإن الفلق الشقّ ، فلقت الشيء فلقاً : شققته ، والتفليق مثله ، يقال فلقته فانفلق وتفلق ، فكلّ ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحبّ ونوى وماء فهو فلق . قال الله سبحانه : { فَالِقُ الإصباح } [ الأنعام : 96 ] وقال : { فَالِقُ الحب والنوى } [ الأنعام : 95 ] انتهى . والقول الأوّل أولى لأن المعنى وإن كان أعمّ منه وأوسع مما تضمنه لكنه المتبادر عند الإطلاق . وقد قيل في وجه تخصيص الفلق الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كلّ هذا العالم يقدر أيضاً أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه . وقيل : طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرح ؛ فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظراً لطلوع الصباح ، كذلك الخائف يكون مترقباً لطلوع صباح النجاح ، وقيل : غير هذا مما هو مجرّد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير .

/خ5