الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ} (1)

مقدمة السورة:

( سورة الفلق ) والناس والمعوذتين )

مدنية ، وهي أربع وسبعون حرفاً ، وثلاث وعشرون كلمة ، وخمس آيات .

أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال : أخبرنا أبو موسى قال : أخبرنا مكي بن عيدان قال : حدّثنا سليمان بن داود قال : حدّثنا أحمد بن نصر قال : حدّثنا أبو معاذ ، عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم ، عن زيد العمي ، عن أبي نصرة ، عن ابن عباس ، عن أُبيّ بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ المعوذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلّها " .

وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد العدل قال : حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال : أخبرنا العباس بن الوليد بن مريد قال : أخبرني أبي قال : حدّثنا الأوزاعي قال : حدّثني يحيى بن أبي كثير قال : حدّثني محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي ، عن عقبة بن عامر الجهني ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ألا أخبرك بأفضل ما تعوذت " ؟ قلت : بلى ، قال : { قل أعوذ برب الفلق } و{ قل أعوذ برب الناس } " .

وأخبرنا الحباري قال : حدّثنا ابن عدي قال : حدّثنا إبراهيم بن رحيم قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا هشام بن الغانم ، عن يزيد بن يزيد بن جابر ، عن القاسم أبي عبد الرحمن ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عقبة ، ألا أعلمك سورتين هما أفضل القرآن أو من أفضل القرآن " . قلت : بلى يارسول الله ، فعلّمني المعوذتين ، ثم قرأهما في صلاة الغداة ، وقال : لي " إقرأهما كلما قمت ونمت " .

وأخبرنا أبو العباس أحمد بن عمرو العصفري قال : حدّثنا عمر بن عبد المجيد قال : حدّثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح بن أبي غريب ، عن كثير بن مرّة ، عن عبد العزيز بن مروان قال : سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنك لن تقرأ سورة أحب إلى الله

عزّ وجلّ ولا أقرب عنده من { قل أعوذ برب الفلق } فإن استطعت أن لا تدعها في صلاة فافعل " .

وأخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب المزكى قال : أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي قال : حدّثنا معاذ بن نجدة بن العريان قال : حدّثنا خلاد يعني ابن يحيى قال : حدّثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن قيس بن أبي حازم ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزل علي الله سورتين لم أسمع لمثلهن ، ولم أرى مثلهن : المعوذتين " .

القصة : قال ابن عباس وعائشة رضى الله عنهما دخل حديث بعضهما في بعض : كان غلام اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدّبت إليه اليهود ، فلم يزلوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدّة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود ، فسحروه فيها ، وكان الذي تولى ذلك رجل منهم يقال له : لبيد بن أعصم ، ثم دسّها في بئر لبني زريق يقال له : ذروان ، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانتثر شعر رأسه ، ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، وجعل يذوب ولا يدري ما عراه ، فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فقعد أحدهم عند رأسه ، والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : ما بال الرجل ؟ قال : طُب . قال : وما طُب ؟ قال : سُحر ، قال : ومن سحره ؟ قال : لبيد بن أعصم اليهودي . قال : وبم طبّه ؟ قال : بمشط ومشاطة . قال : وأين هو ؟ قال : في ( جفّ طلعة ذكر ) تحت راعوفة في بئر ذروان .

والجُف : قشر الطلع ، والراعوفة : حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح .

فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مذعوراً وقال : " يا عائشة ، أما شعرت أن الله سبحانه أخبرني بدائي " ؟ ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً والزبير وعمار بن ياسر فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحنّاء ، ثم رفعوا الصخرة ، وأخرجوا الجف ، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطة ، وإذا فيه وتر معقود فيه اثنا عشر عقدة مغروزة بالإبر ، فأنزل الله سبحانه هاتين السورتين ، فجعل كلّما يقرأ آية انحلت عقدة ، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفّة حين انحلت العقدة الأخيرة ، فقام كأنما أنشط من عقال ، وجعل جبرائيل ( عليه السلام ) يقول : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ، من حاسد وعين ، والله يشفيك . قال : فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نأخذ الخبيث فنقلته ، فقال صلى الله عليه وسلم " أما أنا فقد شفاني الله ، وأكره أن أُثير على الناس شراً " .

قالت عائشة : ما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً ينتقم من أحد لنفسه قط ، إلاّ أن يكون شيئاً هو لله سبحانه ، فيغضب لله سبحانه وتعالى وينتقم .

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } قال ابن عباس : هو سجن في جهنم .

وحدّثنا يعقوب عن هشيم قال : أخبرنا العوام ، عن عبد الجبار الخولاني قال : قدم رجل من أصحاب النبي عليه السلام الشام ، فنظر إلى دور أهل الذمة ، وما فيها من العيش والنضارة ، وما وسع عليهم في دنياهم ، فقال : لا أُبالي ، أليس من ورائهم الفلق ؟ قال : قيل : وما الفلق ؟ قال : بيت إذا انفتح صاح جميع أهل النار من شدَّة حرَّه .

وقال أبو عبد الرحمن الحبلي : الفلق هي جهنم ، وقال جابر بن عبد الله والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والقرظي وابن زيد : الفلق : الصبح ، وإليه ذهب ابن عباس ، ودليل هذا التأويل قوله تعالى :

{ فَالِقُ الإِصْبَاحِ } [ الأنعام : 96 ] .

الضحّاك والوالبي عن ابن عباس : معنى الفلق : الخلق . وهب : هو باب في جهنم .

الكلبي : هو واد في جهنم ، وقال عبد الله بن عمرو : شجرة في النار ، وقيل : الفلق الجبال والصخور تنفلق بالمياه ، أي تتشقق ، وقيل : هو الرحم تنفلق عن الحيوان ، وقيل : الحبَّ والنوى تنفلق عن التراب ، دليله قوله سبحانه وتعالى :{ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } [ الأنعام : 95 ] ، والأصل فيه الشق .

وقال محمد بن علي الترمذي في هذه : كشف الله تعالى على قلوب خواص عباده ، فقذف النور فيها ، فانفلق الحجاب ، وانكشف الغطاء .