اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، وجابر{[1]} ، ومدنية في قول ابن عباس ، وقتادة{[2]} ، وهي خمس آيات ، وثلاث وعشرون كلمة ، وأربعة وسبعون حرفا .

قوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق } هذه السورة ، وسورة «النَّاس » ، و «الإخلاص » نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سحرته اليهود ، وزعم ابن مسعود أنهما دعاء ، وليستا من القرآن ، وخالف به الإجماع من الصحابة ، وأهل البيت .

قال ابن قتيبة : لم يكتب عبد الله بن مسعود في مصحفه المعوِّذتين ؛ لأنه كان يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين بهما ، فقدر أنهما بمنزلة : «أعوذُ بكَلمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ من كُلِّ شيطانٍ وهَامَّةٍ ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ » .

قال ابن الأنباري : وهذا مردود على ابن قتيبة ؛ لأن المعوذتين من كلام ربِّ العالمين ؛ المعجز لجميع المخلوقين ، و«أعِيذُكما بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامةِ » من قول البشر ، وكلام الخالق الذي هو آية ، وحجة لمحمد صلى الله عليه وسلم على جميع الكافرين ، لا يلتبس بكلام الآدميين على مثل عبد الله بن مسعود ، الفصيح اللسان ، العالم باللغة ، العارف بأجناس الكلام .

وقال بعضُ الناس : لم يكتب عبد الله المعوذتين ؛ لأنه أمن عليهما من النسيان ، فأسقطهما وهو يحفظهما كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه ، وما يشك في إتقانه ، وحفظه لهما ، ورد هذا القول على قائله ، واحتج عليه بأنه قد كتب : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } [ النصر : 1 ] و { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر } [ الكوثر : 1 ] و { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] وهن يجرين مجرى المعوذتين في أنهن غير طوال ، والحفظ إليهن أسرع ، والنسيان مأمون ، وكلهن يخالف فاتحة الكتاب ؛ إذ الصلاة لا تتم إلا بقراءتها ، وسبيل كل ركعة أن تكون المقدمة فيها قبل ما يقرأ من بعدها ، فإسقاط فاتحة الكتاب من المصحف على معنى الثقة ببقاء حفظها ، والأمن من نسيانها ، صحيح ، وليس من السور في هذا المعنى مجراها ، ولا يسلك به طريقها .

فصل في تفسير السورة

تقدم الكلام على الاستعاذة ، و«الفلقُ » : هو الصبح ، وهو فعل بمعنى مفعول ، أي : مفلوق ، وفي الحديث : «الرُّؤيَا مثلُ فلقِ الصُّبْحِ » .

قال الشاعر : [ البسيط ]

5360- يَا ليْلَةً لَمْ أنمْهَا بِتُّ مُرتفقاً *** أرْعَى النُّجُومَ إلى أن نَوَّرَ الفلقُ{[3]}

وقال ذو الرمة يصف الثور الوحشي : [ البسيط ]

5361- حتَّى إذَا ما انْجَلَى عَنْ وجْههِ فلقٌ *** هَاديهِ فِي أخريَاتِ اللَّيْلِ مُنتَصِبُ{[4]}

يعني بالفلق هنا : الصبح بعينه .

وقيل : الفلق : الجبال ، والصخور ، تنفلق بالمياه ، أي : تتشقق ، وقيل : هو التفليق بين الجبال ؛ لأنها تنشق من خوف الله تعالى .

قال زهير : [ البسيط ]

5362- مَا زِلتُ أرْمُقهُمْ حتَّى إذَا هَبطَتْ *** أيْدِي الرِّكابِ بِهِمْ من راكِسٍ فَلقَا{[5]}

والراكس : بطن الوادي .

وكذلك هو في قول النابغة : [ الطويل ]

5363- . . . *** أتَانِي ودُونِي رَاكِسٌ فالضَواجِعُ{[6]}

والراكس أيضاً : الهادي ، وهو الثور وسط البيدرِ تدور عليه الثيران في الدِّياسة .

وقيل : الرحم تنفلق بالحيوان .

وقيل : إنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان ، والصبح ، والحب ، والنوى ، وكل شيء من نبات وغيره . قاله الحسن وغيره .

قال الضحاك : الفلق : الخلق كله ، قال : [ الرجز ]

5364- وسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصاً ربِّ الفَلق *** سِرَّا وقَدْ أوَّنَ تَأوين العَقَقْ{[7]}

قال القرطبيُّ{[8]} : «وهذا القول يشهد له الاشتقاقُ ، فإن الفلق : الشَّق ، يقال : فلقت الشيء فلقاً ، أي : شققته ، والتفليق مثله ، يقال : فلقته فانفلق وتفلق ، فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق : قال تعالى : { فَالِقُ الإصباح } [ الأنعام : 96 ] وقال - عز وجل - : { فَالِقُ الحب والنوى } [ الأنعام : 95 ] .

[ والفلق مقطرة السمّان ، فأما الفِلق بالكسر فهو الداهية ، والأمر العجيب يقال منه : أفلق الرجل وافتلق ، وشاعر مفلق ، وقد جاء بالفلق ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]

5365- واعجَبَاً لِهَذِهِ الفَليقهْ *** هَلْ يُذْهِبَنَّ القُوَبَاءَ الريقَهْ

والفِلْقُ أيضاً : القضيب يشق باثنين ، فيعمل منه قوسان ، يقال لكل منهما : فِلْق ، وقولهم : جاء بعُلق فلق وهي الداهيةِ ، يقال منه أعلقت وأفلقت . أي جئت بعُلق فلق ، ومر يفتلق في عدوه أي بالعجب من شدته ]{[9]} .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[6]:سقط من: ب.
[7]:تقدم.
[8]:ينظر: تفسير القرطبي (20/93).
[9]:سقط من: ب.