السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، ومدنية في قول ابن عباس وقتادة ، وهي خمس آيات ، وثلاث وعشرون كلمة ، وأربعة وسبعون حرفاً .

{ بسم الله } الذي له جميع الحول ، { الرحمن } الذي استجمع كمال الطول ، { الرحيم } الذي أتم على أهل ودّه جميع النول .

واختلف في سبب نزول سورة { قل أعوذ برب الفلق } ، فقال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم : كان غلام من اليهود يخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فدنت إليه اليهود ، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعدّة أسنان من مشطه ، وأعطاها اليهود ، فسحروه فيها ، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود ، فنزلت هذه و{ قل أعوذ برب الناس } فيه .

وعن عائشة رضي الله عنها «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم طب- أي : سحر- حتى كأنه يخيل إليه أنه صنع شيئاً وما صنعه ، وأنه دعا ربه ، ثم قال : أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ فقالت عائشة رضي الله عنها : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : «جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ فقال الآخر : مطبوب ، قال : من طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم ، قال : فيماذا ؟ قال : في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر ، قال : فأين هو ؟ قال : في ذروان- وذروان بئر بني زريق- قالت عائشة رضي الله عنها : فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى عائشة ، فقال : «والله لكأنّ ماءها نقاعة الحناء ، ولكأنّ نخلها رؤوس الشياطين » . قالت : فقلت : يا رسول الله هل أخرجته ؟ قال : أما أنا فقد شفاني الله وكرهت أن أثير على الناس منه شراً » .

وعن زيد بن أرقم قال : «سحر النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود ، فاشتكى ذلك أياماً ، فأتاه جبريل عليه السلام فقال : إن رجلاً من اليهود سحرك ، وعقد لك عقداً في بئر كذا وكذا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فاستخرجها فجاء بها ، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال ، قال : فما ذكر ذلك اليهودي ، ولا أرى وجهه قط » . وروي «أنه كان تحت صخرة في البئر ، فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة ، فإذا فيها مشاطة من رأسه صلى الله عليه وسلم ، وأسنان مشطه » .

وعن مقاتل والكلبي : كان ذلك في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة ، وقيل : كانت مغروزة بالإبرة ، فأنزل الله هاتين السورتين ، وهما إحدى عشر آية : سورة الفلق خمس آيات ، وسورة الناس ست آيات ، كلما قرأ آية انحلت عقدة ، حتى انحلت العقد كلها ، فقام صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال . وروي : أنه لبث فيه ستة أشهر ، اشتدّ عليه بثلاث ليال ، فنزلت المعوّذتان ، وروي : أنه كان يخيل له أنه يطأ زوجاته ، وليس بواطئ ، قال سفيان : وهذا أشدّ ما يكون من السحر .

وعن أبي سعيد الخدري : «أنّ جبريل عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، اشتكيت ، قال : نعم ، قال : بسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، ومن شرّ كل نفس أو عين حاسد ، والله يشفيك بسم الله أرقيك » .

فإن قيل : المستعاذ منه هل هو بقضاء الله وقدره ، أو لا فإن كان بقضاء الله وقدره فكيف أمر بالاستعاذة مع أن ما قدر لا بدّ واقع ؟ وإن لم يكن بقضاء الله وقدره فذلك قدح في القدرة ؟ أجيب : بأنّ كل ما وقع في الوجود فهو بقضاء الله وقدره ، والاستشفاء بالتعوّذ والرقي من قضاء الله ، يدل على صحة ذلك ما روى الترمذي عن أبي خزامة عن أبيه قال : «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أرأيت رقى نسترقي بها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها هل يردّ من قضاء الله شيئاً ؟ قال : هو من قدر الله » . قال الترمذي : هذا حديث حسن . وعن عمر : نفرّ من قدر الله إلى قدر الله .

ومعنى أعوذ : أستجير وأعتصم وأحترز ، والفلق : الصبح في قول الأكثرين ، ومنه قوله تعالى : { فالق الإصباح } [ الأنعام : 96 ] ؛ لأنه ظاهر في تغير الحال ، ومحاكاة يوم القيامة الذي هو أعظم فلق يشق ظلمة الفناء ، والهلاك بالبعث والأحياء . وقال الملوي : الفلق -بالسكون والحركة- كل شيء انفلق عنه ظلمة العدم ، وأوجد من الكائنات جميعاً . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سجن في جهنم . وقال الكلبي : واد في جهنم . وقال الضحاك : يعني الخلق ، وقيل : المطمئن من الأرض ، وجمعه فلقان ، مثل خلق وخلقان ، وقيل : الفلق الجبال والصخور وتنفلق بالمياه ، أي : تنشق ، وقيل : هو التفليق بين الجبال ؛ لأنها تنشق من خوف الله تعالى . ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه تعالى ؛ لأن الإعادة من المشارّ تربية .