غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ} (1)

مقدمة السورة:

( سورة الفلق مكية ، وحروفها تسع وتسعون ، كلمها عشر ، آياتها خمس ) .

التفسير : لما أمره بقراءة سورة الإخلاص تنزيهاً له عما لا يليق به في ذاته وصفاته ، وكان ذلك من أشرف الطاعات ، أمره أن يستعيذ به من شر من يصده عن ذلك كالمشركين وكسائر شياطين الإنس والجن .

يروى أن جبرائيل أتاه وقال : إن عفريتاً من الجن يكيدك ، فقل إذا أتيت على فراشك : أعوذ برب الفلق ، أعوذ برب الناس .

وعن سعيد بن المسيب أن قريشاً قالوا : نتجوع فنعين محمداً ، ففعلوا ثم أتوه ، وقالوا : ما أشدّ عضدك ، وأقوى ظهرك ، وأنضر وجهك ! فأنزل الله المعوّذتين .

وقال جمهور المفسرين : إن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة في وتد ، ودسه في بئر ذي أروان ، فمرض النبي صلى الله عليه وسلم واشتدّ ذلك عليه ثلاث ليال ، فنزلت المعوّذتان ، وأخبره جبرائيل بموضع السحر ، فأرسل علياً بطلبه وجاء به ، وقال جبرائيل : اقرأ السورتين . فكان كلما يقرأ آية تنحل عقدة ، فيجد بعض الراحة والخفة ، حتى إذا أتمهما فكأنما أنشط من عقال .

طعنت المعتزلة في هذه الرواية بأنها توجب تسلط الكفار والأشرار على الأنبياء ، وأيضاً لو صححت لصح قولهم { إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } [ الإسراء :47 ] ، والجواب أن التسليط الكلي بحيث يمنعه عن تبليغ الرسالة لا يجوز ، ولكن لا نسلم أن بعض الأضرار في بدنه لا يجوز ، لاسيما وقد تداركه الله تعالى بفضله ، وخصوصاً إذا كان فيه لطف لغيره من أمته حتى يفعلوا في مثل تلك الواقعة كما فعل ، ولهذا استدل أكثر العلماء على أنه يجوز الاستعانة بالرقى والعوذ ، ويؤيده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بسم الله أرقيك ، من كل ما يؤذيك ، والله يشفيك " . وعن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما بقوله : " أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامّه ، ومن كل عين لامّه " ، ويقول هكذا كان أبي إبراهيم يقول لابنيه إسماعيل وإسحاق .

وعنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا من الحمى والأوجاع كلما " بسم الله الكريم ، أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ، ومن شر حرّ النار " ، وعن علي رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض قال : " أذهب البأس رب الناس ، اشف أنت الشافي ، لا شافي إلا أنت " .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فنزل منزلاً يقول " يا أرض ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرّك ، ومن شرّ ما فيك ، وشرّ ما يخرج منك ، ومن شرّ ما يدب عليك ، وأعوذ بالله من شرّ أسد وأسود ، وحية وعقرب ، ومن شرّ ساكن البلد ، ووالد ما ولد " .

وعن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى شيئاً من جسده قرأ { قل هو الله أحد } والمعوّذتين في كفه اليمنى ، ومسح بها المكان الذي يشتكي .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون فعوّذه ب { قل هو الله أحد } وبهاتين السورتين . ثم قال : " تعوّذ بهن ، فما تعوّذت بخير منها " .

وأما قول الكفار : إنه مسحور ، فإنما أرادوا به الجنون والسحر الذي أثر في عقله ، ودام مع فلذلك وقع الإنكار عليهم .

ومن الناس من لم يرخص في الرقى لرواية جابر : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرقية ، وقال : " إن لله عباداً لا يكتوون ولا يسترقون ، وعلى ربهم يتوكلون " ، وأجيب بأن النهي وارد على الرقى المجهولة التي يفهم معناها .

واختلف في التعليق ؛ فروى أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من علق شيئاً وكل إليه " ، وعن ابن مسعود أنه رأى على أم ولده تميمه مربوطة بعضدها ، فجذبها جذباً عنيفاً فقطعها . ومنهم من جوزه ؛ سئل الباقر رضي الله عنه عن التعويذ يعلق على الصبيان فرخص فيه .

واختلفوا في النفث أيضاً فروي عن عائشة أنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه إذا اشتكى بالمعوذات ويمسح بيده ، فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه صلى الله عليه وسلم بالمعوّذات التي كان ينفث بها على نفسه . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه ، وقرأ فيهما بالمعوّذات ، ثم مسح جسده .

ومنهم من أنكر النفث ؛ عن عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد .

وعن إبراهيم : كانوا يكرهون النفث في الرقى .

وقال بعضهم : دخلت على الضحاك وهو وجع ، فقلت : ألا أعوّذك يا أبا محمد ؟ قال : بلى ، ولكن لا تنفث ، فعوّذته بالمعوّذتين .

قال بعض العلماء : لعلهم كرهوا النفث ؛ لأن الله تعالى جعل النفث مما يستعاذ منه ، فوجب أن يكون منهياً عنه .

وقال بعضهم : النفث في العقد المنهي عنه هو الذي يكون سحراً مضراً بالأرواح والأبدان ، وأما الذي يكون لإصلاح الأرواح والأبدان فيجب أن لا يكون حراماً .

سؤال : كيف قال في افتتاح القراءة { فاستعذ بالله } [ الأعراف :200 ] ، وقال هاهنا { أعوذ برب } دون أن يقول " بالله " ؟ وأجيب بأن المهم الأوّل أعظم من حفظ النفس والبدن عن السحر والوسوسة ، فلا جرم ذكر هناك الاسم الأعظم ، وأيضاً الشيطان يبالغ في منع الطاعة أكثر مما يبالغ في إيصال الضرر إلى النفس ، وأيضاً كأن العبد يجعل تربيته السابقة وسيلة في التربية اللاحقة .

وفي الفلق وجوه ؛ فالأكثرون على أنه الصبح من قوله :{ فالق الإصباح } [ الأنعام :96 ] ، وخص هاهنا بالذكر ؛ لأنه أنموذج من صبح يوم القيامة ، ولأنه وقت الصلاة والجماعة والاستغفار { إن قرآن الفجر كان مشهوداً } ، وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة الظلمة عن وجه الأرض قادر على دفع ظلمة الشرور والآفات عن العبد بصلاح النجاح .

روي أن يوسف عليه السلام حين ألقي في الجبّ وجعت ركبته وجعاً شديداً ، فبات ليلته ساهراً ، فلما قرب طلوع الصبح نزل جبرائيل عليه السلام يسليه ، ويأمره بأن يدعو ربه ، فقال : يا جبرائيل ، ادع أنت ، وأؤمن أنا . فدعا جبرائيل فأمن يوسف ، فكشف الله ما كان به من الضرّ ، فلما حصل له الراحة قال : يا جبرائيل ، أنا أدعو وتؤمن أنت ، فسأل يوسف ربه أن يكشف الضرّ عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت ، فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل . وروي أن دعاءه في الجبّ : يا عدّتي عند شدتي ، ويا مؤنسي في وحشتي ، ويا راحم غربتي ، ويا كاشف كربتي ، ويا مجيب دعوتي ، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، راحم صغر سني ، وضعف ركني ، وقلة حيلتي ، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .

وقيل : هو كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات { إن الله فالق الحب والنوى } [ ألأنعام :95 ] ، والجبال عن العيون{ وإن منها لما يتفجر منه الأنهار }[ البقرة :74 ] ، والسحاب عن المطر ، والأرحام عن الأولاد ، والقبض عن البسط ، والشدّة عن الفرج ، والقلوب عن المعارف .

وقيل : هو واد في جهنم ، إذا فتح صاح جميع من في جهنم من شدّة حره ، كأن العبد قال : يا صاحب العذاب الشديد ، أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأكمل وأسبق وأقدم من عذابك .

/خ5