التفسير : لما أمره بقراءة سورة الإخلاص تنزيهاً له عما لا يليق به في ذاته وصفاته ، وكان ذلك من أشرف الطاعات ، أمره أن يستعيذ به من شر من يصده عن ذلك كالمشركين وكسائر شياطين الإنس والجن .
يروى أن جبرائيل أتاه وقال : إن عفريتاً من الجن يكيدك ، فقل إذا أتيت على فراشك : أعوذ برب الفلق ، أعوذ برب الناس .
وعن سعيد بن المسيب أن قريشاً قالوا : نتجوع فنعين محمداً ، ففعلوا ثم أتوه ، وقالوا : ما أشدّ عضدك ، وأقوى ظهرك ، وأنضر وجهك ! فأنزل الله المعوّذتين .
وقال جمهور المفسرين : إن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة في وتد ، ودسه في بئر ذي أروان ، فمرض النبي صلى الله عليه وسلم واشتدّ ذلك عليه ثلاث ليال ، فنزلت المعوّذتان ، وأخبره جبرائيل بموضع السحر ، فأرسل علياً بطلبه وجاء به ، وقال جبرائيل : اقرأ السورتين . فكان كلما يقرأ آية تنحل عقدة ، فيجد بعض الراحة والخفة ، حتى إذا أتمهما فكأنما أنشط من عقال .
طعنت المعتزلة في هذه الرواية بأنها توجب تسلط الكفار والأشرار على الأنبياء ، وأيضاً لو صححت لصح قولهم { إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } [ الإسراء :47 ] ، والجواب أن التسليط الكلي بحيث يمنعه عن تبليغ الرسالة لا يجوز ، ولكن لا نسلم أن بعض الأضرار في بدنه لا يجوز ، لاسيما وقد تداركه الله تعالى بفضله ، وخصوصاً إذا كان فيه لطف لغيره من أمته حتى يفعلوا في مثل تلك الواقعة كما فعل ، ولهذا استدل أكثر العلماء على أنه يجوز الاستعانة بالرقى والعوذ ، ويؤيده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بسم الله أرقيك ، من كل ما يؤذيك ، والله يشفيك " . وعن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما بقوله : " أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامّه ، ومن كل عين لامّه " ، ويقول هكذا كان أبي إبراهيم يقول لابنيه إسماعيل وإسحاق .
وعنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا من الحمى والأوجاع كلما " بسم الله الكريم ، أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ، ومن شر حرّ النار " ، وعن علي رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض قال : " أذهب البأس رب الناس ، اشف أنت الشافي ، لا شافي إلا أنت " .
وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فنزل منزلاً يقول " يا أرض ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرّك ، ومن شرّ ما فيك ، وشرّ ما يخرج منك ، ومن شرّ ما يدب عليك ، وأعوذ بالله من شرّ أسد وأسود ، وحية وعقرب ، ومن شرّ ساكن البلد ، ووالد ما ولد " .
وعن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى شيئاً من جسده قرأ { قل هو الله أحد } والمعوّذتين في كفه اليمنى ، ومسح بها المكان الذي يشتكي .
وروي أنه صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون فعوّذه ب { قل هو الله أحد } وبهاتين السورتين . ثم قال : " تعوّذ بهن ، فما تعوّذت بخير منها " .
وأما قول الكفار : إنه مسحور ، فإنما أرادوا به الجنون والسحر الذي أثر في عقله ، ودام مع فلذلك وقع الإنكار عليهم .
ومن الناس من لم يرخص في الرقى لرواية جابر : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرقية ، وقال : " إن لله عباداً لا يكتوون ولا يسترقون ، وعلى ربهم يتوكلون " ، وأجيب بأن النهي وارد على الرقى المجهولة التي يفهم معناها .
واختلف في التعليق ؛ فروى أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من علق شيئاً وكل إليه " ، وعن ابن مسعود أنه رأى على أم ولده تميمه مربوطة بعضدها ، فجذبها جذباً عنيفاً فقطعها . ومنهم من جوزه ؛ سئل الباقر رضي الله عنه عن التعويذ يعلق على الصبيان فرخص فيه .
واختلفوا في النفث أيضاً فروي عن عائشة أنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه إذا اشتكى بالمعوذات ويمسح بيده ، فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه صلى الله عليه وسلم بالمعوّذات التي كان ينفث بها على نفسه . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه ، وقرأ فيهما بالمعوّذات ، ثم مسح جسده .
ومنهم من أنكر النفث ؛ عن عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد .
وعن إبراهيم : كانوا يكرهون النفث في الرقى .
وقال بعضهم : دخلت على الضحاك وهو وجع ، فقلت : ألا أعوّذك يا أبا محمد ؟ قال : بلى ، ولكن لا تنفث ، فعوّذته بالمعوّذتين .
قال بعض العلماء : لعلهم كرهوا النفث ؛ لأن الله تعالى جعل النفث مما يستعاذ منه ، فوجب أن يكون منهياً عنه .
وقال بعضهم : النفث في العقد المنهي عنه هو الذي يكون سحراً مضراً بالأرواح والأبدان ، وأما الذي يكون لإصلاح الأرواح والأبدان فيجب أن لا يكون حراماً .
سؤال : كيف قال في افتتاح القراءة { فاستعذ بالله } [ الأعراف :200 ] ، وقال هاهنا { أعوذ برب } دون أن يقول " بالله " ؟ وأجيب بأن المهم الأوّل أعظم من حفظ النفس والبدن عن السحر والوسوسة ، فلا جرم ذكر هناك الاسم الأعظم ، وأيضاً الشيطان يبالغ في منع الطاعة أكثر مما يبالغ في إيصال الضرر إلى النفس ، وأيضاً كأن العبد يجعل تربيته السابقة وسيلة في التربية اللاحقة .
وفي الفلق وجوه ؛ فالأكثرون على أنه الصبح من قوله :{ فالق الإصباح } [ الأنعام :96 ] ، وخص هاهنا بالذكر ؛ لأنه أنموذج من صبح يوم القيامة ، ولأنه وقت الصلاة والجماعة والاستغفار { إن قرآن الفجر كان مشهوداً } ، وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة الظلمة عن وجه الأرض قادر على دفع ظلمة الشرور والآفات عن العبد بصلاح النجاح .
روي أن يوسف عليه السلام حين ألقي في الجبّ وجعت ركبته وجعاً شديداً ، فبات ليلته ساهراً ، فلما قرب طلوع الصبح نزل جبرائيل عليه السلام يسليه ، ويأمره بأن يدعو ربه ، فقال : يا جبرائيل ، ادع أنت ، وأؤمن أنا . فدعا جبرائيل فأمن يوسف ، فكشف الله ما كان به من الضرّ ، فلما حصل له الراحة قال : يا جبرائيل ، أنا أدعو وتؤمن أنت ، فسأل يوسف ربه أن يكشف الضرّ عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت ، فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل . وروي أن دعاءه في الجبّ : يا عدّتي عند شدتي ، ويا مؤنسي في وحشتي ، ويا راحم غربتي ، ويا كاشف كربتي ، ويا مجيب دعوتي ، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، راحم صغر سني ، وضعف ركني ، وقلة حيلتي ، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
وقيل : هو كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات { إن الله فالق الحب والنوى } [ ألأنعام :95 ] ، والجبال عن العيون{ وإن منها لما يتفجر منه الأنهار }[ البقرة :74 ] ، والسحاب عن المطر ، والأرحام عن الأولاد ، والقبض عن البسط ، والشدّة عن الفرج ، والقلوب عن المعارف .
وقيل : هو واد في جهنم ، إذا فتح صاح جميع من في جهنم من شدّة حره ، كأن العبد قال : يا صاحب العذاب الشديد ، أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأكمل وأسبق وأقدم من عذابك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.