فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفلق

هي خمس آيات وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة قيل : وهو الصحيح ، وعن ابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين من المصحف ، يقول : لا تخلطوا القرن بما ليس منه أنهما ليستا من كتاب الله ، إنما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتعوذ بهما ، وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما ، أخرجه أحمد الطبراني وابن مردويه من طرق . قال السيوطي : صحيحة ، قال البزار : لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة ، وأثبتتا في المصحف .

وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم عن زر بن حبيش قال : أتيت المدينة ، فلقيت أبيّ بن كعب فقلت له : أبا المنذر ، إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه ، فقال : أما والذي بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالحق ، لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهما ، وما سألني عنهما أحد منذ سألته غيرك ، قال : " قيل لي : قل ، فقلت ، فقولوا " ، فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " .

قال القرطبي : زعم ابن مسعود أن هاتين السورتين دعاء يتعوذ به ، وليستا من القرآن ، وقد خالف الإجماع من الصحابة وأهل البيت .

وقال ابن قتيبة : لم يكتب ابن مسعود المعوذتين في مصحفه ؛ لأنه كان يسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعوذ الحسن والحسين بهما ، فقدر أنهما بمنزلة " أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة " .

قال أبو بكر بن الأنباري : وهذا مردود على ابن قتيبة ؛ لأن المعوذتين من كلام رب العالمين المعجز لجميع المخلوقين ، وأعيذكما إلخ من كلام البشر ، وكلام الخالق الذي هو آية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وحجة له باقية على جماعة الكافرين ، لا يلتبس بكلام الآدميين ، فضلا عن مثل عبد الله ين مسعود الفصيح اللسان ، العالم باللغة ، العارف بأجناس الكلام ، وأفانين القول .

وقال بعض الناس : لم يكتب عبد الله المعوذتين ؛ لأنه أمن عليهما من النسيان ، فأسقطهما وهو يحفظهما ، كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه .

وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزلت عليّ الليلة آيات لم أر مثلهن قط{ قل أعوذ برب الفلق ، و{ قل أعوذ برب الناس } " .

وأخرج الترمذي وحسنه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين الجان ، ومن عين الإنس ، فلما نزلت سورة المعوذتين أخذ بهما ، وترك ما سوى ذلك " .

وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يكره عشر خصال ، ومنها أنه كان يكره الرقي إلا بالمعوذتين " أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه .

وعن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب السور إلى الله { قل أعوذ برب الفلق } و{ قل أعوذ برب الناس } " أخرجه ابن مردويه .

وعن عائشة قالت :إن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين ، وينفث ، فما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه ، وأمسح بيده عليه رجاء بركتها " ، أخرجه مالك في الموطأ ، وهو في الصحيحين من طريق مالك .

وعن زيد ابن أرقم قال : " سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى ، فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين ، وقال : إن رجلا من اليهود سحرك ، والسحر في بئر فلان ، فأرسل عليا فجاء به ، فأمره أن يحل العقد ، ويقرأ بآية ويحل ، حتى قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كأنما نشط من عقال " ، أخرجه عبد بن حميد في مسنده ، وأخرجه ابن مردويه من حديث عائشة مطولا ، وكذلك من حديث ابن عباس .

قيل : وكانت مدة سحره صلى الله عليه وسلم أربعين يوما ، وقيل : ستة أشهر ، وقيل : عاما . قال الحافظ ابن حجر : وهو المعتمد .

قال الراغب : تأثير السحر في النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من حيث أنه نبي ، وإنما كان في بدنه حيث أنه إنسان أو بشر ، كما كان يأكل ، ويتغوط ، ويغضب ، ويشتهي ، ويمرض ، فتأثيره فيه من حيث هو بشر ، لا من حيث هو نبي .

وإنما يكون ذلك قادحا في النبوة لو وجد للسحر تأثير في أمر يرجع للنبوة ، كما أن جرحه وكسر ثنيته يوم أحد لم يقدح فيما ضمن الله له من عصمته في قوله { والله يعصمك من الناس } ، وكما لا اعتداد بما يقع في الإسلام من غلبة بعض المشركين على بعض النواحي فيما ذكر من كمال الإسلام في قوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } .

قال القاضي : ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في أنه مسحور ؛ لأنهم أرادوا به أنه مجنون بواسطة السحراء .

ومذهب أهل السنة أن السحر حق ، وله حقيقة ، ويكون بالقول والفعل ، ويؤلم ، ويمرض ، ويقتل ، ويفرق بين الزوجين ، وتمام الكلام على هذا في حاشية سليمان الجمل فارجع إليه .

وقد ورد في فضل المعوذتين وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما في الصلاة وغيرها أحاديث ، وفيما ذكرناه كفاية .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ قل أعوذ برب الفلق } الفلق الصبح ، يقال : هو أبين من فلق الصبح ، وسمي فلقا ؛ لأنه يفلق عنه الليل ، وهو فعل بمعنى مفعول ، قال الزجاج : لأن الليل ينفلق عنه الصبح ، ويكون بمعنى مفعول ، وهذا قول جمهور المفسرين . وقيل : هو سجن في جهنم ، وقيل : هو اسم من أسماء جهنم ، وقيل : شجرة في النار ، وقيل : هو الجبال والصخور ؛ لأنها تفلق بالمياه أي تشقق ، وقيل : هو التفليق بين الجبال ؛ لأنها تنشق من خوف الله .

قال النحاس : يقال لكل ما اطمأن من الأرض : فلق .

وقيل : هو كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحب والنوى ، وكل شيء من نبات وغيره ، قاله الحسن والضحاك .

قال القرطبي : هذا القول يشهد له الانشقاق ، فإن الفلق الشق ، يقال : فلقت الشيء فلقا شققته ، والتفليق مثله ، يقال : فلقته فانفلق وتفلق ، فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق ، قال سبحانه :{ فالق الأصباح } ، وقال :{ فالق الحب والنوى } انتهى .

والقول الأول أولى ؛ لأن المعنى وإن كان أعم منه وأوسع مما تضمنه ، لكنه المتبادر عند الإطلاق ، وقد قيل في وجه تخصيص الفلق : الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضا أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه ، وقيل : طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج ، فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظرا لطلوع الصباح ، كذلك الخائف يكون مترقبا لطلوع صباح النجاح .

وقيل غير هذا ، مما هو مجرد بيان مناسبة ليس فيها فائدة تتعلق بالتفسير .

عن عمرو بن عبسة قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ { قل أعوذ برب الفلق } ، وقال : " يا ابن عبسة أتدري ما الفلق " ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " بئر في جهنم " أخرجه ابن مردويه ، وأخرجه ابن أبي حاتم موقوفا عليه غير مرفوع .

وعن عقبة بن عامر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " اقرأ { قل أعوذ برب الفلق } هل تدري ما الفلق ؟ باب في النار ، إذا فتح سعرت جهنم " أخرجه ابن مردويه .

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل { قل أعوذ برب الفلق } فقال : هو سجن في جهنم ، يحبس فيه الجبارون والمستكبرون ، وأن جهنم لتتعوذ بالله منه " ، أخرجه ابن مردويه والديلمي .

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " الفلق جب في جهنم " أخرجه ابن جرير .

وهذه الأحاديث لو كانت صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان المصير إليها واجبا ، والقول بها متعينا .

وعن ابن عباس قال : الفلق سجن في جهنم .

وعن جابر بن عبد الله قال : الفلق الصبح .

وعن ابن عباس أيضا : الفلق الخلق .