ثم يواجههم بشاهد قريب ، لشهادته قيمتها ، لأنه من أهل الكتاب الذين يعرفون طبيعة التنزيل :
( قل : أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به ، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ، فآمن واستكبرتم ? إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
وقد تكون هذه واقعة حال ، ويكون واحد أو أكثر من بني إسرائيل ، عرف أن طبيعة هذا القرآن هي طبيعة الكتب المنزلة من عند الله ، بحكم معرفته لطبيعة التوراة . فآمن . وقد وردت روايات أنها نزلت في عبد الله ابن سلام . لولا أن هذه السورة مكية وعبد الله بن سلام إنما أسلم في المدينة . وقد ورد كذلك أن هذه الآية مدنية توكيدا لنزولها في شأن عبد الله - رضي الله عنه - . كما ورد أنها مكية وأنها لم تنزل فيه .
وقد تكون إشارة إلى واقعة أخرى في مكة نفسها . فقد آمن بعض أهل الكتاب على قلة في العهد المكي .
وكان لإيمانهم ، وهم أهل كتاب ، قيمته وحجيته في وسط المشركين الأميين . ومن ثم نوه به القرآن في مواضع متعددة ، وواجه به المشركين الذين كانوا يكذبون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .
وهذا الأسلوب في الجدل : قل : أرأيتم إن كان من عند الله . . . الخ يراد به زعزعة الإصرار والعناد في نفوس أهل مكة ، وإثارة التخوف في نفوسهم والتحرج من المضي في التكذيب . ما دام أن هذا القرآن يحتمل أن يكون من عند الله حقا كما يقول محمد . وفي هذه الحالة تكون العاقبة وخيمة . فأولى لهم أن يحتاطوا لهذا الفرض ، الذي قد يصح ، فيحل بهم كل ما ينذرهم به . ومن الأحوط إذن أن يتريثوا في التكذيب ، وأن يتدبروا الأمر في حرص وفي حذر ، قبل التعرض لتلك العاقبة الوخيمة . وبخاصة إذا أضيف إلى ذلك الاحتمال أن واحدا أو أكثر من أهل الكتاب يشهد بأن طبيعته من طبيعة الكتاب قبله ؛ ويتبع هذا التذوق بالإيمان . بينما هم الذين جاء القرآن لهم ، وبلغتهم ، وعلى لسان رجل منهم ، يستكبرون ويكفرون . . وهو ظلم بين وتجاوز للحق صارخ ، يستحق النقمة من الله وإحباط الأعمال : ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
ولقد سلك القرآن شتى السبل ، واتبع شتى الأساليب ، ليواجه شكوك القلب البشري وانحرافاته وآفاته ؛ ويأخذ عليها المسالك ؛ ويعالجها بكل أسلوب . وفي أساليب القرآن المتنوعة زاد للدعوة والدعاة إلى هذا الدين . . ومع اليقين الجازم بأن هذا القرآن من عند الله فقد استخدم أسلوب التشكيك لا أسلوب الجزم للغرض الذي أسلفنا . وهو واحد من أساليب الإقناع في بعض الأحوال . .
قل أرأيتم : أخبروني ماذا تكون حالكم .
إن كان من عند الله : إن كان القرآن من عند الله .
وشهد شاهد : وشهد عبد الله بن سلام .
على مثله : على مثل ما في القرآن من التوراة من المعاني المصدقة للقرآن المطابقة له ، أو شهد على مثل ذلك وهو كون القرآن من عند الله .
واستكبرتم : تكبرتم عن الإيمان ، ألستم ظالمين ؟
10 – { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
كان عبد الله بن سلام من أحبار اليهود ، ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة جاء إليه عبد الله ابن سلام ، وقال : لما نظرت إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم قلت : ما هذا بوجه كذاب ، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسئلة لا يعلمها إلا نبي :
الثاني : ما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟
الثالث : ما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه ؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه ، وإذا سبق ماء المرأة نزعته ) ، فقال : أشهد أنك رسول الله حقا17 .
أخبروني يا معشر المشركين ، إن كان هذا القرآن من عند الله في الحقيقة ، وأعلنتم كفركم به ، ثم شهد شاهد من أهل الكتاب على صدق القرآن ، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وشهد أن القرآن منزل من عند الله ، وأن القرآن مماثل لما بشرت به التوراة ، ثم آمن هذا الشاهد بالقرآن والإسلام ، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم ، واستكبرتم عن الإيمان بالله ، ألستم ظالمين خاسرين ؟
ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان القرآن الذي أنزل علي من عند الله ، وقد كفرتم به وكذبتموه ، مع أن شاهدا من بني إسرائيل قد شهد أن القرآن مماثل لما في التوراة ، وأن في التوراة بشارة بالنبي محمد ، فآمن هذا الشاهد ودخل في الإسلام ، واستكبرتم عن الدخول فيه ، ألستم ظالمين ؟
إذن فاعلموا : { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . أي : لا يوفقهم إلى الهدى والإيمان .
وجمهور المفسرين على أن الآية نزلت في عبد الله بن سلام ، لكن عبد الله بن سلام لم يدخل في الإسلام إلا في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها ، وسورة الأحقاف مكية ، لذلك قال علماء القرآن : هذه الآية مدنية نزلت بالمدينة ، أمر الله أن توضع في سورة مكية ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه الآية قال : ( ضعوا هذه الآية في سورة كذا ) ، وعنوان السورة مكتوب في المصحف هكذا : ( سورة الأحقاف مكية ، إلا الآيات : 10 ، 15 ، 35 فمدنية ) .
وأفاد الإمام القرطبي في تفسير الآية أن جمهور المفسرين على أنه عبد الله بن سلام ، وقد نزل فيه قوله تعالى : { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } . ( الرعد : 43 ) .
وبعض المفسرين ذكر أن الشاهد من بني إسرائيل هو موسى عليه السلام ، فقد بشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذكرت التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم اه .
ويمكن لنا أن نقول : إن موسى عليه السلام بشر برسالة محمد ، كما وردت صفته في التوراة ، كما صدق برسالة محمد بعض علماء بني إسرائيل في المدينة ، فأراد الله أن يزلزل إصرار أهل مكة على الكفر ، فأخبرهم بأن هذا كتاب صادق ، وأن محمدا نبي صادق ، قد أيده موسى رسول الله ، وسيؤيده بعض علماء بني إسرائيل ، وتكون الآية من المبشرات .
وقد أفاد القاسمي في تفسيره ( محاسن التأويل ) أن الآية من باب الإخبار قبل الوقوع ، كقوله تعالى : { ونادى أصحاب الأعراف . . . } ( الأعراف : 48 ) .
ويرشحه أن الفعل : { وشهد } ، معطوف على الشرط الذي يصير به للماضي مستقبلا ، فلا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها ، ويكون تفسيره بها بيانا للواقع ، أي أن الآية يمكن أن تنطبق على إسلام عبد الله بن سلام في المستقبل18 .
يقول معظم المفسّرين : إن هذه الآية بالذات مدنية ، قد نزلت في عبدِ الله بن سَلام ، وكان من أكبرِ علماءِ بني إسرائيل ، أسلم بالمدينة ، وأحدثَ إسلامُه ضَجّةً عند اليهود ، وقصتُه طويلة يُرجَع إليها في كتب الحديث والسيرة .
ويكون المعنى : قل لهم أيها الرسول : أخبِروني إن ثبتَ أنّ القرآنَ حقٌّ من عند الله ، وآمن به عالِمٌ من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام الذي يُدرك أسرارَ الوحي ويشهد أن القرآن من عند الله كالتوراة التي أَنزلها على موسى . . . ماذا يكون حالُكم إذا بقيتم على ضلالِكم وكفركم ؟ أفلا تكونون من الظالمين ؟ .
وقال جماعة من المفسرين : إن الشاهدَ موسى بن عمران ، وإن التوراة مثلُ القرآن كلاهما من عند الله ، وإن موسى شهِدَ على التوراة ، ومحمدٌ شهِدَ على القرآن صلى الله عليهما وسلم . وهذا ما يُرجِّحه الطبري ، لأن السورة مكية ، فيما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة بعد الهجرة .
قوله تعالى : " قل أرأيتم إن كان من عند الله " يعني القرآن . " وكفرتم به " وقال الشعبي : المراد محمد صلى الله عليه وسلم . " وشهد شاهد من بني إسرائيل " قال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد : هو عبد الله بن سلام ، شهد على اليهود أن رسول الله صلى الله مذكور في التوراة ، وأنه نبي من عند الله . وفي الترمذي عنه : ونزلت في آيات من كتاب الله ، نزلت في : " وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين " . وقد تقدم في آخر سورة " الرعد " {[13824]} . وقال مسروق : هو موسى والتوراة ، لا ابن سلام ؛ لأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية . وقال : وقول : " وكفرتم به " مخاطبة لقريش . الشعبي : هو من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوراة ؛ لأن ابن سلام إنما أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين ، والسورة مكية . قال القشيري : ومن قال الشاهد موسى قال السورة مكية ، وأسلم ابن سلام قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعامين . ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وتوضع في سورة مكية ، فإن الآية كانت تنزل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم ضعوها في سورة كذا . والآية في محاجة المشركين ، ووجه الحجة أنهم كانوا يراجعون اليهود في أشياء ، أي شهادتهم لهم وشهادة نبيهم لي من أوضح الحجج . ولا يبعد أن تكون السورة في محاجة اليهود ، ولما جاء ابن سلام مسلما من قبل أن تعلم اليهود بإسلامه قال : يا رسول الله ، اجعلني حكما بينك وبين اليهود ، فسألهم عنه : [ أي رجل هو فيكم ] قالوا : سيدنا وعالمنا . فقال : [ إنه قد آمن بي ] فأساؤوا القول فيه . . . الحديث ، وقد تقدم{[13825]} . قال ابن عباس : رضيت اليهود بحكم ابن سلام ، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : إن يشهد لك آمنا بك ، فسئل فشهد ثم أسلم . " على مثله " أي على مثل ما جئتكم به ، فشهد موسى على التوراة ومحمد على القرآن . وقال الجرجاني . " مثل " صلة ، أي وشهد شاهد عليه أنه من عند الله . " فآمن " أي هذا الشاهد . " واستكبرتم " أنتم عن الإيمان . وجواب " إن كان " محذوف تقديره : فآمن أتؤمنون ، قاله الزجاج . وقيل : " فآمن واستكبرتم " أليس قد ظلمتم ، يبينه " إن الله لا يهدي القوم الظالمين " وقيل : " فآمن واستكبرتم " أفتأمنون عذاب الله . و " أرأيتم " لفظ موضوع للسؤال والاستفهام ، ولذلك لا يقتضي مفعولا . وحكى النقاش وغيره : أن في الآية تقديما وتأخيرا ، وتقديره : قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن هو وكفرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .
ولما أثبت أنه من عند الله بشهادة الله نفسه بعجزهم عن المعارضة ، قبح عليهم إصرارهم على التكذيب على تقدير شهادة أحد ممن يثقون{[58646]} بهم يسألونهم عنه من أهل الكتاب فقال تعالى : { قل أرءيتم } أي أخبروني {[58647]}وبينوا لي وأقيموا ولو ببعض حجة أو برهان{[58648]} { إن كان } أي هذا الذي{[58649]} يوحى إليّ وآتيكم به وأنذركم وأعلمكم أنه من الله فإنه { من عند الله } أي الملك الأعظم .
ولما كان مقصود السورة إنذار الكافرين الذين لا ينظرون في علم ، بل شأنهم تغطية المعارف والعلوم ، عطف بالواو الدالة على مطلق الجمع الشامل لمقارنة الأمرين المجموعين من غير مهلة{[58650]} فيدل على الإسراع في الكفر من غير تأمل قال-{[58651]} : { وكفرتم به } أي على هذا التقدير { وشهد شاهد } أي واحد وأكثر { من بني إسرائيل } الذين جرت عادتكم أن تستفتوهم وتثقوا بهم { على مثله } أي مثل ما في القرآن من أن من وحد فقد آمن ، ومن أشرك فقد كفر ، وأن الله أنزل ذلك في التوراة والإنجيل وجميع أسفارهم ، فطابقت عليه كتبهم ، وتظافرت به رسلهم ، وتواترت على الدعاء إليه-{[58652]} والأمر به أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام ، ثم سبب عن شهادته وعقب وفصل فقال : { فآمن } أي هذا الذي شهد هذه الشهادة بهذا القرآن عندما رآه{[58653]} مصدقاً لما ذكر وعلم أنه الكتاب الذي بشرت به كتبهم ، فاهتدى إلى وضع الشيء في محله فوضعه ولم يستكبر .
ولما كان الحامل لهم-{[58654]} بعد هذه الأدلة على التمادي على الكفر إنما هو الشماخة والأنفة قال : { واستكبرتم } أي أوجدتم الكبر بالإعراض عنه طالبين بذلك الرئاسة والفخر والنفاسة ، فكنتم بعد شهادة هذا الشاهد معاندين من غير شبهة أصلاً فضللتم فكفرتم-{[58655]} فوضعتم الشيء في غير موضعه{[58656]} فانسد عليكم باب الهداية .
ولما كانوا يدعون أنهم أهدى الناس وأعدلهم ، وكان من رد شهادة الخالق والخلق ظالماً شديد الظلم ، فكان ضالاً على علم ، قال الله تعالى {[58657]}مستأنفاً دالاً{[58658]} على أن تقدير الجواب : أفلم تكونوا بتخلفكم عن الإيمان بعد العلم قد ظلمتم ظلماً عظيماً بوضع الكفران موضع الإيمان ، فتكونوا ضالين تاركين للطريق الموصل على عمد { إن الله } أي الملك الأعظم ذا العزة والحكمة { لا يهدي القوم } أي الذين لهم قدرة على القيام بما يريدون محاولته { الظالمين * } أي الذين من شأنهم وضع الأمور غير مواضعها ، فلأجل ذلك لا يهديكم لأنه{[58659]} لا أحد أرسخ منكم في الظلم الذي تسبب عنه ضلالكم ، أما من كان {[58660]}منكم عالماً{[58661]} فالأمر فيه واضح ، وأما من كان منكم{[58662]} جاهلاً فهو كالعالم لعدم تدبره مثل هذه الأدلة التي ما بين العالم بلسان العرب وبين انكشافها له إلا تدبها مع ترك الهوى ، وقال الحسن - كما نقله البغوي{[58663]} - الجواب : فمن أضل منكم كما قال في " فصلت "
( قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد }[ فصلت : 52 ] فالآية من الاحتباك : ذكر الإيمان أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والاستكبار والظلم وعدم الهداية ثانياً دليلاً على أضدادها أولاً ، وسره أنه شكر سببي السعادة ترغيباً وترهيباً .