في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

ويمضي معهم في مناقشة القضية - قضية الوحي - من زاوية أخرى واقعية مشهودة . فماذا ينكرون من أمر الوحي والرسالة ؛ ولم يعجلون بتهمة السحر أو تهمة الافتراء ? وليس في الأمر غريب ولا عجيب :

( قل : ما كنت بدعا من الرسل . وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . وما أنا إلا نذير مبين ) . .

إنه[ صلى الله عليه وسلم ] ليس أول رسول . فقد سبقته الرسل . وأمره كأمرهم . وما كان بدعا من الرسل . بشر يعلم الله أنه أهل للرسالة فيوحي إليه ، فيصدع بما يؤمر . هذا هو جوهر الرسالة وطبيعتها . . والرسول حين يتصل قلبه لا يسأل ربه دليلا ، ولا يطلب لنفسه اختصاصا إنما يمضي في سبيله ، يبلغ رسالة ربه ، حسبما أوحي بها إليه : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) . . فهو لا يمضي في رسالته لأنه يعلم الغيب ؛ أو لأنه يطلع على ما يكون من شأنه وشأن قومه وشأن الرسالة التي يبشر بها . إنما هو يمضي وفق الإشارة وحسب التوجيه . واثقا بربه ، مستسلما لإرادته ، مطيعا لتوجيهه ، يضع خطاه حيث قادها الله . والغيب أمامه مجهول ، سره عند ربه . وهو لا يتطلع إلى السر من وراء الستر لأن قلبه مطمئن ، ولأن أدبه مع ربه ينهاه عن التطلع لغير ما فتح له . فهو واقف أبدا عند حدوده وحدود وظيفته : ( وما أنا إلا نذير مبين ) . .

وإنه لأدب الواصلين ، وإنها لطمأنينة العارفين ، يتأسون فيها برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيمضون في دعوتهم لله . لا لأنهم يعرفون مآلها ، أو يعلمون مستقبلها . أو يملكون فيها قليلا أو كثيرا . ولكن لأن هذا واجبهم وكفى . وما يطلبون من ربهم برهانا فبرهانهم في قلوبهم . وما يطلبون لأنفسهم خصوصية فخصوصيتهم أنه اختارهم . وما يتجاوزون الخط الدقيق الذي خطه لهم ، ورسم لهم فيه مواقع أقدامهم على طول الطريق .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

المفردات :

بدعا : البدع بالكسر : الشيء المبتدع .

قال الرازي : والبدع والبديع من كل شيء المبدع ، والبدعة ما اخترع مما لم يكن موجودا قبله بحكم السنة .

إن أتبع : ما أتبع .

التفسير :

9- { قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين } .

لقد أرسل الله الرسل قبلي ، وأنزل عليهم الكتب ، واتخذ الله إبراهيم خليلا ، وكلم موسى تكليما ، وبشر عيسى قومه برسالة أحمد صلى الله عليه وسلم ، فرسالتي إليكم ليست بالأمر البديع أو الغريب .

أما الغيب فعلمه عند الله ، وكان المشركون قد اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم الإتيان بمعجزات ، والإخبار عن مغيبات ، فأنزل الله عليه هذه الآية لتفيد الآتي :

- لست أول من أرسله الله رسولا .

- أنا بشر يوحى إلي ، أؤدي واجبي في تبليغ الرسالة والجهاد في سبيلها ، أما الغيب فعلمه عند الله ، والمعجزات يأتي بها الله حين يشاء هو ، لا تلبية لطلب المشركين .

- أنا أتبع الوحي وأبلغه ، وأنفذ ما يدعوني إليه ربي .

- رسالتي لا تقوم على المعجزات المادية ، فالقرآن أسلوب يخاطب العقل والفطرة ، ويحذر من معصية الله ، وأنا أحذركم عقاب الله تعالى ، على نحو واضح لكل عاقل .

وقد أورد ابن كثير في تفسيره طائفة من الأحاديث الصحيحة عند تفسيره لهذه الآية ، منها ما رواه أحمد ، والبخاري ، عن أم العلاء -وهي امرأة من نساء الأنصار- قالت : لما مات عثمان بن مظعون ، قلت : رحمك الله أبا السائب ، شهادتي عليك لقد أكرمك الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وما يدريك أن الله أكرمه ؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه ، وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ، ما يفعل بي ولا بكم ) ، قالت أم العلاء : فوالله لا أزكي بعده أحدا3 .

قال المفسرون :

وفيه دليل على أنه لا يقطع لشخص معين بالجنة ، إلا الذين نص الشارع على تعيينهم ، كالعشرة المبشرين بالجنة4 ، وعبد الله بن سلام ، والعميصاء ، وبلال ، وسراقة ، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة ، وزيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة ، ومن أشبه هؤلاء رضي الله عنهم .

من تفسير القرطبي

ذكر القرطبي تعليقا طويلا على قوله تعالى في هذه الآية :

{ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . . . }

ثم قال القرطبي : والصحيح في الآية قول الحسن ، كما قرأ علي بن محمد ، عن الحسن : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا } .

قال أبو جعفر الطبري : وهذا أصح قول وأحسنه ، لا يدري ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة ، ورخص وغلاء ، وغنى وفقر .

ومثله قوله تعالى : { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير . . . } ( الأعراف : 188 ) .

وقال المهايمي :

{ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . . . }

أي : فيما لم يوح إلي ، والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي ، ولم يكن لي أن أضم إلى الوحي كذبا من عندي5 .

من تفسير ابن كثير

قال عكرمة والحسن وقتادة6 :

إن قوله تعالى : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . . . } منسوخ بقوله تعالى : { ليفغر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . . . } ( الفتح : 2 ) .

ولما نزلت هذه الآية قالوا : هنيئا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فأنزل الله تعالى : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما } . ( الفتح : 5 ) .

قال المفسرون :

وفي هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري ما يئول إليه أمره وأمر المشركين في دار الدنيا ، أما في الآخرة فهو صلى الله عليه وسلم جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه ، وذلك في الجملة7 اه .

خاطرة

ورد في الأحاديث النبوية الشريفة أن الله تعالى زوى الأرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي من الأرض ، وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار ، بعز عزيز أو بذل ذليل ) . 8

وفي البخاري ما يفيد أن رجلا من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يركبون ثبج البحر غزاة في سبيل الله ، كأنهم الملوك على الأسرة9 .

وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر أمته بفتح القطر المصري ، وقال : ( سيفتح عليكم بعدي بلد يذكر فيه القيراط ، فاستوصوا بأهله خيرا فإن لهم ذمة ورحما )10 .

وروح الأحاديث النبوية تبشر بنصر هذه الأمة ، وفي غزوة الخندق اعترضت المسلمين صخرة لم يستطيعوا كسرها ، فاستعانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول المعول وضرب الصخرة فصارت كثيبا أهيل ، وقال للمسلمين : ( إن الله أضاء لي منها كنوز كسرى وقيصر )11 .

كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم سراقة بن مالك بن جشعم ، وقال له : ( أسلم يا سراقة ولك سوار كسرى )12 ، وكل هذا يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر بالنصر ، وبشر أمته بذلك .

وخلاصة الأمر : أن القضاء والقدر في علم الله ، ولا يعلم الغيب إلا الله ، والرسول صلى الله عليه وسلم بشر يوحى إليه ، وهو لا يعلم الغيب ، كما قال القرآن الكريم : { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء . . . } ( الأعراف : 188 ) .

لكن الله تعالى بشره في الجملة بنصره على المشركين ، وبشر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بنصر الإسلام على بلاد الفرس والروم والحيرة ومصر وغيرها .

وفي القرآن الكريم طائفة من هذه البشارات ، مثل قوله تعالى : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } . ( الصف : 8 ، 9 ) .

ومثل قوله سبحانه : { ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم } . ( الروم : 4 ، 5 ) .

وقوله عز شأنه : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } . ( المجادلة : 21 ) .

وقوله عز شأنه : { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } . { الروم : 47 ) .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

ما كنتُ بدعا من الرسُل : هناك قبلي رسل كثير ، فما أنا أول رسول لا مثيل لي .

ثم يأمر رسولَه الكريم أن يقول لهم : إني لستُ أول رسول من عند الله فتنكروا رسالتي ، ولست أعلمُ ما يفعل الله بي ولا بكم ، وما أتّبع فيما أقول أو أفعل إلاّ

ما يوحيه إليّ الله { وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

قوله تعالى : " قل ما كنت بدعا من الرسل " أي أول من أرسل ، قد كان قبلي رسل ، عن ابن عباس وغيره . والبدع : الأول . وقرأ عكرمة وغيره " بدعا " بفتح الدال ، على تقدير حذف المضاف ، والمعنى : ما كنت صاحب بدع . وقيل : بدع وبديع بمعنى ، مثل نصف ونصيف . وأبدع الشاعر : جاء بالبديع . وشيء بدع ( بالكسر ) أي مبتدع . وفلان بدع في هذا الأمر أي بديع . وقوم أبداع ، عن الأخفش . وأنشد قطرب قول عدي بن زيد :

فلا أنا بِدْعٌ من حوادثَ تعتَرِي *** رجالاً غدت من بعد بُؤْسى بأسعد{[13817]}

" وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " يريد يوم القيامة . ولما نزلت فرح المشركون واليهود والمنافقون وقالوا : كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا ، وأنه لا فضل له علينا ، ولو لا أنه ابتدع الذي يقول من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به ، فنزلت : " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " {[13818]} [ الفتح : 2 ] فنسخت هذه الآية ، وأرغم الله أنف الكفار . وقالت الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، لقد بين الله لك ما يفعل بك يا رسول الله ، فليت شعرنا ما هو فاعل بنا ؟ فنزلت : " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار " {[13819]} [ الفتح : 5 ] الآية . ونزلت : " وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا " {[13820]} [ الأحزاب : 47 ] . قاله أنس وابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة والضحاك . وقالت أم العلاء امرأة من الأنصار : اقتسمنا المهاجرين فصار لنا عثمان بن مظعون بن حذافة بن جمح ، فأنزلناه أبياتنا فتوفي ، فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب إن الله أكرمك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ وما يدريك أن الله أكرمه ] ؟ فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله فمن ؟ قال : [ أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيرا فوالله إني لأرجو له الجنة ووالله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ] . قالت : فوالله لا أزكي بعده أحدا أبدا . ذكره الثعلبي ، وقال : وإنما قال هذا حين لم يعلم بغفران ذنبه ، وإنما غفر الله له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بأربع سنين .

قلت : حديث أم العلاء خرجه البخاري ، وروايتي فيه : " وما أدري ما يفعل به " ليس فيه " بي ولا بكم " وهو الصحيح إن شاء الله ، على ما يأتي بيانه . والآية ليست منسوخة ، لأنها خبر . قال النحاس : محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ من جهتين : أحدهما أنه خبر ، والآخر أنه من أول السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين واحتجاج عليهم وتوبيخ لهم ، فوجب أن يكون هذا أيضا خطابا للمشركين كما كان قبله وما بعده ، ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين " ما أدري ما يفعل بي ولا بكم " في الآخرة ، ولم يزل صلى الله عليه وسلم من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار ، ومن مات على الإيمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة ، فقد رأى صلى الله عليه وسلم ما يفعل به وبهم في الآخرة . وليس يجوز أن يقول لهم ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، فيقولون كيف نتبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خفض ودعة أم إلى عذاب وعقاب .

والصحيح في الآية قول الحسن ، كما قرأ علي بن محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدثنا وكيع قال حدثنا أبو بكر الهذلي عن الحسن : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا " قال أبو جعفر : وهذا أصح قول وأحسنه ، لا يدري صلى الله عليه وسلم ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة ورخص وغلاء وغنى وفقر . ومثله : " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير " {[13821]} [ الأعراف : 188 ] . وذكر الواحدي وغيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ، فقصها على أصحابه به فاستبشروا بذلك ، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين ، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا : يا رسول الله ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا . ثم قال : [ إنما هو شيء رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يوحى إلي ] أي لم يوح إلي ما أخبرتكم به . قال القشيري : فعلى هذا لا نسخ في الآية . وقيل : المعنى لا أدري ما يفرض علي وعليكم من الفرائض . واختار الطبري أن يكون المعنى : ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا ، أتؤمنون أم تكفرون ، أم تعاجلون بالعذاب أم تؤخرون .

قلت : وهو معنى قول الحسن والسدي وغيرهما . قال الحسن : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، أما في الآخرة فمعاذ الله قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ، ولكن قال ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي ، أو أقتل كما قتلت الأنبياء قبلي ، ولا أدري ما يفعل بكم ، أأمتي المصدقة أم المكذبة ، أم أمتى المرمية بالحجارة من السماء قذفا ، أو مخسوف بها خسفا ، ثم نزلت : " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله " {[13822]} [ التوبة : 33 ] . يقول : سيظهر دينه على الأديان . ثم قال في أمته : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " {[13823]} [ الأنفال : 33 ] فأخبره تعالى بما يصنع به وبأمته ، ولا نسخ على هذا كله ، والحمد لله . وقال الضحاك أيضا : " ما أدري ما يفعل بي ولا بكم " أي ما تؤمرون به وتنهون عنه . وقيل : أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للمؤمنين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في القيامة ، ثم بين الله تعالى ذلك في قوله : " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [ الفتح : 2 ] وبين فيما بعد ذلك حال المؤمنين ثم بين حال الكافرين .

قلت : وهذا معنى القول الأول ، إلا أنه أطلق فيه النسخ بمعنى البيان ، وأنه أمر أن يقول ذلك للمؤمنين ، والصحيح ما ذكرناه عن الحسن وغيره . و " ما " في " ما يفعل " يجوز أن تكون موصولة ، وأن تكون استفهامية مرفوعة .

قوله تعالى : " إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين " وقرئ " يوحي " أي الله عز وجل . تقدم في غير موضع .


[13817]:هذا رواية البيت كما في نسخ الأصل. والذي في شعراء النصرانية: فلست بمن يخشى حوادث تعتري *** رجالا فبادوا بعد بؤس وأسعد.
[13818]:آية 2 سورة الفتح.
[13819]:آية 5 سورة الفتح.
[13820]:آية 47 سورة الأحزاب.
[13821]:آية 188 سورة الأعراف.
[13822]:آية 33 سورة التوبة.
[13823]:آية 33 سورة الأنفال.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

ولما كان من-{[58596]} أعظم الضلال أن ينسب {[58597]}الإنسان إلى الكذب{[58598]} من غير دليل في شيء لم يبتدعه ، بل تقدمه بمثله ناس قد ثبت صدقهم في مثل ذلك ومضت عليه{[58599]} الأزمان وتقرر غاية التقرر{[58600]} في القلوب والأذهان ، قال تعالى : { قل } أي لهؤلاء الذين نسبوك إلى الافتراء : { ما كنت } أي كوناً ما { بدعاً } أي منشئاً مبتدعاً محدثاً مخترعاً بحيث أكون أجنبياً منقطعاً { من الرسل } لم يتقدم لي منهم مثال في أصل ما جئت به ، وهو الحرف الذي طال النزاع بيني وبينكم فيه وعظم الخطب وهو التوحيد ومحاسن الأخلاق بل قد تقدمني رسل كثيرون أتوا بمثل ما أتيت به ودعوا إليه كما دعوت وصدقهم الله-{[58601]} بمثل ما صدقني به ، فثبتت بذلك رسالاتهم{[58602]} وسعد بهم من صدقهم من قومهم ، وشقي بهم من كذبهم ، فانظروا إلى آثارهم ، واسألوا عن سيرهم من أتباعهم وأنصارهم وأشياعهم-{[58603]} ، قال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه : والبدعة الاسم لما ابتدع{[58604]} وضد البدعة السنة ، لأن{[58605]} السنة ما تقدم له إمام ، والبدعة ما اخترع على غير مثال ، وفي الحديث

" كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار " معناه - والله أعلم - أن يبتدع ما يخالف السنة إذ كانت البدعة ضد السنة ، فإذا أحدث ما يخالفها كان بإحداثه لها ضالاً مشركاً ، وكان ما أحدث{[58606]} في النار ، ولم يدخل تحت هذا ما يخترع الإنسان من أفعال البر يسمى بدعة لعدم فعله قبل ذلك فيخرج عما ذكرنا إن كان له نظير في الأصول ، وهو الحض على كل أفعال البر ما علم منها وما لم يعلم ، فإن{[58607]} أحدث محدث من ذلك شيئاً فكأنه زيادة فيما تقدم من البر وليس بضد لما تقدمه من{[58608]} السنة ، بل هو باب من أبوابها ، ويقولون : ما فلان ببدع{[58609]} في هذا الأمر أي ليس هو-{[58610]} بأول من أصابه ذلك {[58611]}ولكن سبقه غيره أيضاً{[58612]} ، قال الشاعر :

ولست ببدع من النائبات *** ونقض الخطوب و{[58613]}إمرارها{[58614]}

ويقال : أبدع بالرجل - إذا كلت{[58615]} راحلته ، وأبدعت الركاب{[58616]} إذا كلت وعطبت ، وقيل : كل من عطبت{[58617]} ركابه فانقطع به فقد أبدع به ، وقال في القاموس : والبدعة الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث بعده صلى الله عليه وسلم من الأهواء والأعمال ، وأبدع بالرجل : عطبت ركابه-{[58618]} ، وبقي منقطعاً به ، وأبدع فلان بفلان : قطع به وخذله ، ولم يقم بحاجته ، وحجته بطلت ، وقال الصغاني في مجمع البحرين : وشيء بدع - بالكسر أي مبتدع ، وفلان بدع في هذا الأمر أي بديع ، وقوم أبداع ، عن{[58619]} الأخفش : و-{[58620]} البديع المبتدع والبديع المبتدع أيضاً ، وأبدعت حجة فلان - إذا بطلت وأبدعت : أبطلت - يتعدى ولا يتعدى .

ولما أثبت بموافقته صلى الله عليه وسلم للرسل أصل الكلام وبقي أن يقال : إن التكذيب في أن الله أرسله به ، قام الدليل على صدقه في دعواه ، وذلك بأنه مماثل لهم في أصل الخلقة ليس له من ذاته من العلم إلا ما لهم ، وليس منهم أحد يصح له حكم على المغيبات ، فلولا أن الله أرسله-{[58621]} لما صح كل شيء حكم به على المستقبلات ولم يتخلف من ذلك شيء فقال : { وما أدري } أي في هذا الحال بنوع حيلة وعمل واجتهاد{[58622]} { ما } أي الذي-{[58623]} { يفعل } أي من أيّ فاعل كان-{[58624]} سواء كان هو الله تعالى بلا واسطة أو بواسطة غيره-{[58625]} { بي } وأكد النفي ليكون ظاهراً في الاجتماع {[58626]}وكذلك{[58627]} في الانفراد أيضاً{[58628]} فقال-{[58629]} : { ولا } أي ولا أدري الذي يفعل-{[58630]} { بكم } هذا في أصل الخلقة وأنتم ترونني أحكم على نفسي بأشياء لا يختل شيء منها مثل أن أقول : إني {[58631]}آتيكم من القرآن{[58632]} بما يعجزكم ، فلا تقدرون كلكم على معارضة شيء منه فيضح ذلك على سبيل التكرار لا يتخلف أصلاً ، فلولا أن الله أرسلني به لم أقدر وحدي على ما لا-{[58633]} تقدرون عليه كلكم ، وإن قدرت على شيء كنتم أنتم أقدر مني عليه ، وفي الآية بعمومها دليل على أن لله أن يفعل ما يشاء ، فله أن يعذب الطائع وينعم العاصي ، ولو فعل ذلك لكان عدلاً وحقاً وإن كنا نعتقد أنه لا يفعله .

ولما سوى نفسه الشريفة بهم في أصل الخلقة ، وكان قد ميزه الله عنهم بما خصه من النبوة والرسالة ، أبرز له ذلك -{[58634]} سبحانه وتعالى على وجه النتيجة فقال : { إن } أي ما { أتبع } أي -{[58635]} بغاية جهدي وجدي { إلا ما } أي الذي { يوحى } أي يجدد{[58636]} إلقاؤه ممن لا يوحي بحق {[58637]}إلا هو{[58638]} { إليّ } على سبيل التدريج سراً ، لا يطلع عليه حق اطلاعه غيري ، ومنه ما أخبر فيه عن المغيبات فيكون كما قلت ، فلا يرتاب في أني لا أقدر على ذلك بنفسي فعلم{[58639]} أنه من الله .

ولما نسبوه إلى الافتراء تارة{[58640]} والجنون أخرى ، وكان السبب الأعظم في نسبتهم له {[58641]}إلى ذلك{[58642]} صدعهم بما يسوءهم على غير عادته السالفة وعادة أمثاله ، قال على سبيل القصر القلبي : { وما أنا } أي بإخباري{[58643]} لكم عما يوحى إليّ { إلا نذير } أي لكم ولكل من بلغه القرآن { مبين * } أي ظاهر{[58644]} أني كذلك في نفسه مظهر له - أي كوني نذيراً - ولجميع{[58645]} الجزئيات التي أنذر منها بالأدلة القطعية .


[58596]:زيد من م ومد.
[58597]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: إلى الإنسان.
[58598]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: إلى الإنسان.
[58599]:من ظ ومد، وفي الأصل و م: عليهم.
[58600]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: التقرير.
[58601]:زيد من م ومد.
[58602]:من مد، وفي الأصل و ظ و م: رسالتهم.
[58603]:زيد من ظ و م ومد.
[58604]:زيد في الأصل: والبدعة، ولم تكن الزيادة في ظ و م ومد فحذفناها.
[58605]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: إلا أن.
[58606]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: أشرك.
[58607]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: فإذا.
[58608]:من ظ و م ومد، وفي الأصل:لمن.
[58609]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: بدع.
[58610]:زيد من م ومد.
[58611]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد.
[58612]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد.
[58613]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: فمن.
[58614]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: أمراوها.
[58615]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: أكلت.
[58616]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: الركات.
[58617]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: كلت.
[58618]:زيد من مد.
[58619]:من مد، وفي الأصل و ظ و م: وعن.
[58620]:زيد من ظ ومد.
[58621]:زيد من م ومد.
[58622]:زيد في الأصل: ولو بتكلف وعدمه، ولم تكن الزيادة في ظ و م ومد فحذفناها.
[58623]:زيد من م ومد.
[58624]:زيد من م ومد.
[58625]:زيد من ظ و م ومد.
[58626]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد.
[58627]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد.
[58628]:سقط من ظ و م ومد.
[58629]:زيد من ظ و م ومد.
[58630]:زيد من ظ ومد.
[58631]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: آتيتكم بقرآن.
[58632]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: آتيتكم بقرآن.
[58633]:زيد من م ومد.
[58634]:زيد من ظ و م ومد.
[58635]:زيد من ظ و م ومد.
[58636]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: يتجدد.
[58637]:في م ومد: سواه.
[58638]:في م ومد: سواه.
[58639]:من ظ و م ومد، وفي الأصل:فلم.
[58640]:زيد في الأصل:إلى، ولم تكن الزيادة في ظ و م ومد فحذفناها.
[58641]:من م ومد، وفي الأصل و ظ:في ذلك.
[58642]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: في ذلك.
[58643]:من ظ و م ومد، وفي الأصل:بإخباركم.
[58644]:زيد في الأصل و ظ:في، ولم تكن الزيادة في م ومد فحذفناها.
[58645]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: جميع.