في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

18

ولقد مر بنا أن بعض المؤمنين الذين خرجوا مستبشرين برؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد هالهم ألا تتحقق الرؤيا هذا العام ؛ وأن يردوا عن المسجد الحرام . فالله يؤكد لهم صدق هذه الرؤيا ، وينبئهم أنها منه ، وأنها واقعة ولا بد . وأن وراءها ما هو أكبر من دخول المسجد الحرام أيضا :

( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق : لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون . فعلم ما لم تعلموا ، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا . هو الذي أرسل رسوله بالهدى )( ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا ) . .

فأما البشرى الأولى . بشرى تصديق رؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ودخولهم المسجد الحرام آمنين ، وتحليقهم وتقصيرهم بعد انتهاء شعائر الحج أو العمرة ، لا يخافون . . فأما هذه فقد تحققت بعد عام واحد . ثم تحققت بصورة أكبر وأجلى بعد عامين اثنين من صلح الحديبية . إذ تم لهم فتح مكة ، وغلبة دين الله عليها .

ولكن الله سبحانه يؤدب المؤمنين بأدب الإيمان ؛ وهو يقول لهم : " لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - " . . فالدخول واقع حتم ، لأن الله أخبر به . ولكن المشيئة يجب أن تظل في نفوس المسلمين في صورتها الطليقة لا يقيدها شيء ، حتى تستقر هذه الحقيقة في القلوب ، وتصبح هي قاعدة التصور للمشيئة الإلهية . والقرآن يتكئ على هذا المعنى ، ويقرر هذه الحقيقة ، ويذكر هذا الاستثناء في كل موضع ، حتى المواضع التي يذكر فيها وعد الله . ووعد الله لا يخلف . ولكن تعلق المشيئة به أبدا طليق . إنه أدب يلقيه الله في روع المؤمنين ، ليستقر منهم في أعماق الضمير والشعور .

ونعود إلى قصة تحقيق هذا الوعد ؛ فقد ذكرت الروايات أنه لما كان ذو القعدة من سنة سبع - أي العام التالي لصلح الحديبية - خرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية . فأحرم من ذي الحليفة ، وساق معه الهدي - كما أحرم وساق الهدي في العام قبله - وسار أصحابه يلبون . فلما كان [ صلى الله عليه وسلم ] قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه . فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا ، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين ، فذهبوا فأخبروا أهل مكة . فلما جاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن ياجج ، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه . فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص ، فقال : يا محمد ، ما عرفناك تنقض العهد . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " وما ذاك ? " قال : دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لم يكن ذلك ، وقد بعثنا به إلى ياجج " فقال : بهذا عرفناك ، بالبر والوفاء !

وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وإلى أصحابه - رضي الله عنهم - غيظا وحنقا . وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه . فدخلها [ صلى الله عليه وسلم ] وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام الناقة يقودها .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

27

المفردات :

الرؤيا : هي رؤيا منامية رآها صلى الله عليه وسلم في منامه أنه دخل المسجد الحرام معتمرا ، وصدق الله رسوله الرؤيا ، أي : صدقه في رؤياه ولم يكذبه .

لتدخلن : جواب لقسم محذوف ، أي : والله لتدخلن أيها المؤمنون المسجد الحرام في عامكم المقبل .

آمنين : حال كونكم آمنين من كل فزع .

محلقين : حال كون بعضكم يحلق شعر رأسه كله .

ومقصرين : وبعضكم يكتفي بقص جزء منه .

التفسير :

27- { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } .

هذه الآية تأكيد لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه ، وبيان لحكمة العلي القدير في تأخير فتح مكة ، وفي إنجاز صلح الحديبية .

فائدة

جزيرة العرب عبارة عن صحراء واسعة ، تعتمد هذه الصحراء على المدن القريبة منها في بيع منتجاتها ، من الألبان واللحوم والزراعة والخضر والفاكهة ، ويشتري الأعراب من هذه المدن ما يلزمهم من الكساء والفراش وغير ذلك ، وقد كانت فتوحات الرسول صلى الله عليه وسلم وغزواته أفعالا منظمة مرتبة لحكم عالية ، وضعت في حسبانها أن تتم السيطرة على المدينة وما حولها ، وأن يتم قطع الطريق على تجارة مكة ، حتى تضطر إلى التسليم بالإسلام ، أو مهادنته رهبة أو رغبة ، والمتأمل في تاريخ السرايا والغزوات يرى أنها حققت ذلك .

وفي أول حياة المسلمين بالمدينة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرايا استطلاعية لتعرف أحوال مكة وأخبار تجارتها ، خصوصا المتحركة إلى الشام ، حيث تمر بطريق المدينة ، فمكة في جنوب الجزيرة ، والشام في شمالها ، والمدينة في الوسط ، وكانت بدر الصغرى وبدر الكبرى دروسا موجهة إلى أهل مكة ، وتمت غزوة أحد وغزوة الخندق ، وفي أعقاب غزوة الخندق قال صلى الله عليه وسلم : ( سنغزو مكة ولا تغزونا بعد ذلك ) ، ثم تم صلح الحديبية ، وبحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم تم فتح خيبر بعد شهرين من صلح الحديبية ، ومن يسيطر على خيبر يمكنه التحكم في الأعراب المحيطة بها ، وكان من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحرم مكة من حلفائها ، أو ممن ينسِّقون معها في حرب المسلمين ، وأخذ صلى الله عليه وسلم يعقد معاهدات ومصالحات ، ويستقبل وفودا من العرب ، حتى سمى العام السابع الهجري بعام الوفود ، من كثرة الوفود التي قدمت من حول مكة ، آمنة على نفسها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي عمرة القضاء شاهد الصبيان والنساء بمكة المسلمين في نسكهم وعبادتهم ، وناقشوهم في مبادئ الإسلام ، وتهيأت مكة لاستقبال الإسلام رغبة أو رهبة ، لقد حَرَم الرسول صلى الله عليه وسلم مكة من عدد من الحلفاء ، وعقد معاهدات ومصالحات مع عدد من العرب في أنحاء الجزيرة ، ورأى أهل مكة أن الإسلام هو دين الغد ، وأن مكة ستسقط في يد المسلمين عاجلا أم آجلا ، وقد كان صلح الحديبية أعظم فتح في تاريخ المسلمين ، فقد تضاعف به عدد المسلمين ، ويسّر الطريق لفتح خيبر ، ثم لعمرة القضاء ، ثم لفتح مكة بقليل من الجهد ، مع الحفاظ على حرمة البيت الحرام وحرمة مكة ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما أباحها الله لي ساعة من نهار ) .

ومن ذلك نعلم أن الغزوات لم تكن ردود أفعال كما يتوهم بعض كتاب السيرة ، وإنما كانت خطة محكمة ، اعتمدت على تدريب الرجال ، وإرسال السرايا ، وإعداد المخابرات والعيون ، وتوقيع المعاهدات ، والاستيلاء على الأماكن المؤثّرة ، والالتفاف حول مكة ، والتأثير على تجارتها ، وإفهامها أن مصلحتها في مهادنة الإسلام ، ثم التمهيد لفتح مكة بأقل التضحيات ، ثم فتح الطائف ، ثم توجيه المسلمين إلى تبوك ، وتهيئة الصحابة ليقودوا معارك في بلاد الفرس وبلاد الروم في مستقبل أمرهم ، حتى أنه لم تمض على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عشر سنوات حتى ورث المسلمون ممالك الفرس والروم .

مع يقيننا بأن قدرة الله القادرة وتوفيقه العظيم ، وهدايته لرسوله ، وبشارته بالنصر ، ومعونة الله له بالملائكة والهداية والتوفيق ، كانت من أهم أسباب النصر .

قال تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر } . ( المدثر : 31 ) .

وقال تعالى : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم * ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } . ( الأنفال : 17 ، 18 ) .

عود إلى التفسير

معنى الآية :

والله لقد صَدَق الله رسوله وما كذبه ، فالله هو الذي أراه الرؤيا بالحق ، وكانت الرؤيا سببا في صلح الحديبية ، وقال بعض الناس أو بعض المنافقين : لم ندخل المسجد الحرام ، فنزلت هذه الآية : { لتدخلن المسجد الحرام . . . } أي في عمرة القضاء ، { إن شاء الله . . . } تأكيد من الله العليم بكل شيء ، وتعليم لنا ونحن لا علم لنا ، أي : ستدخلن المسجد الحرام بمشيئة الله وتوفيقه ، لا بسبب قوتكم أو أسلحتكم .

{ آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين . . . }

حال كونكم آمنين من عدوان أهل مكة ، تتمتعون بالأمن وأداء العمرة ، بعضكم يتحلل من إحرامه بالحلق لرأسه كاملا ، وبعضكم يتحلل من إحرامه بتقصير شعر رأسه ، والحلق أفضل بالنسبة للرجل ، أما المرأة فليس لها إلا التقصير .

{ لا تخافون . . . }

تأكيد للأمن ، ولتكفّل الله بإلقاء الرعب في قلوب أهل مكة ، ولتطمين المسلمين بأنهم سيؤدون عمرة القضاء آمنين لا يخافون ، وهو تأكيد مقصود في أعقاب غزوات متعددة ، وتعنت من أهل مكة في معاهدة الحديبية .

{ فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } .

إن حكمة الله أن تسير الأمور في أسبابها ، وسقوط خيبر في يد المسلمين حرم كفار مكة من حلفاء أشداء ، وحرم اليهود في خيبر من حرية الحركة ، وألقى الرعب في قلوب أهل مكة ، ويسر فتح مكة على المسلمين في الوقت المناسب ، والله تعالى عالم الغيب لذلك جعل فتح خيبر قبل فتح مكة ، أو جعل صلح الحديبية قبل فتح مكة .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

الرؤيا : ما يراه النائم . صدَق الله رسوله الرؤيا : صدقه فيما رآه في نومه ولم يكذبه .

محلّقين رؤوسكم ومقصرين : بعضكم يحلق شعره كله ، وبعضكم يقصر منه . رأى النبي عليه الصلاة والسلام في منامه وهو في المدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية رؤيا أنه يدخلُ المسجدَ الحرام هو وأصحابه آمنين ، منهم من يحلق شعره كله ، ومنهم من يقصّر منه . فأخبر بذلك أصحابه آمنين ، منهم من يحلق شعره كله ، ومنهم من يقصّر منه . فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا وحسبوا أنهم داخلون مكة في ذلك العام الذي خرجوا فيه إلى الحديبية . فلما انصرفوا ولم يدخلوا مكة شقَّ ذلك عليهم ، وقال المنافقون : أين رؤيا النبي التي رآها ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية . ودخلوا في العام المقبل . وهذا معنى { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام . . . } الآية { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } هو صلح الحديبية وفتح خيبر .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

{ 27-28 } { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }

يقول تعالى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه ، أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت ، فلما جرى يوم الحديبية ما جرى ، ورجعوا من غير دخول لمكة ، كثر في ذلك الكلام منهم ، حتى إنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ فقال : " أخبرتكم أنه العام ؟ " قالوا : لا ، قال : " فإنكم ستأتونه وتطوفون به " قال الله هنا : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } أي : لا بد من وقوعها وصدقها ، ولا يقدح في ذلك تأخر تأويلها ، { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } أي : في هذه الحال المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام ، وأدائكم للنسك ، وتكميله بالحلق والتقصير ، وعدم الخوف ، { فَعَلِمَ } من المصلحة والمنافع { مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ } الدخول بتلك الصفة { فَتْحًا قَرِيبًا }

ولما كانت هذه الواقعة مما تشوشت بها قلوب بعض المؤمنين ، وخفيت عليهم حكمتها ، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها ، وهكذا سائر أحكامه الشرعية ، فإنها كلها ، هدى ورحمة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

قوله تعالى : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أرى في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين ، ويحلقون رؤوسهم ويقصرون ، فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا حسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك ، فلما انصرفوا ولم يدخلوا شق عليهم ذلك ، فأنزل الله هذه الآية .

وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري : " قال شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر ، فقال بعضهم : ما بال الناس ؟ فقالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فخرجنا نوجف ، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته عند كراع الغميم ، فلما اجتمع إليه الناس قرأ : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده " . ففيه دليل على أن المراد بالفتح صلح الحديبية ، وتحقق الرؤيا كان في العام المقبل ، فقال جل ذكره : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } أخبر أن الرؤية التي أراها إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق . قوله : { لتدخلن } يعني : وقال : لتدخلن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه ، فأخبر الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك ، وإنما استثنى مع علمه بدخولها بإخبار الله تعالى ، تأدباً بآداب الله ، حيث قال له : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله } ( الكهف-23 ) . وقال أبو عبيدة : " إن " بمعنى " إذ " ، مجازه : إذ شاء الله ، كقوله : { إن كنتم مؤمنين } . وقال الحسين بن الفضل : يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول ، لأن بين الرؤيا وتصديقها سنة ، ومات في تلك السنة ناس فمجاز الآية : لتدخلن المسجد الحرام كلكم إن شاء الله . وقيل الاستثناء واقع على الأمر لا على الدخول ، لأن الدخول لم يكن فيه شك ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المقبرة : " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " ، فالاستثناء راجع إلى اللحوق بأهل لا إله إلا الله لا إلى الموت . { محلقين رؤوسكم } كلها ، { ومقصرين } بأخذ بعض شعورها ، { لا تخافون فعلم ما لم تعلموا } أن الصلاح كان في الصلح وتأخير الدخول ، وهو قوله تعالى : { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } ( الفتح-25 ) . { فجعل من دون ذلك } أي من قبل دخولكم المسجد الحرام ، { فتحاً قريباً } وهو صلح الحديبية عند الأكثرين ، وقيل : فتح خيبر .

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

{ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون ، وروي : أنه أتاه ملك في النوم فقال له : { لتدخلن المسجد الحرام } الآية : فأخبر الناس برؤياه ذلك فظنوا أن ذلك يكون في ذلك العام فلما صده المشركون عن العمرة عام الحديبية قال المنافقون : أين الرؤيا ، ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك فأنزل الله تعالى : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } أي : تلك الرؤيا الصادقة وسيخرج تأويلها بعد ذلك فاطمأنت قلوب المؤمنين وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل هو وأصحابه فدخلوا مكة واعتمروا وأقاموا بمكة ثلاثة أيام وظهر صدق رؤياه وتلك عمرة القضية ثم فتح مكة بعد ذلك ثم حج هو وأصحابه وصدق في هذا الموضع يتعدى إلى مفعولين ، وبالحق يتعلق بصدق أو بالرؤيا على أن يكون حالا منها .

{ إن شاء الله } لما كان الاستثناء بمشيئة الله يقتضي الشك في الأمر ، وذلك محال على الله ، اختلف في هذا الاستثناء على خمسة أقوال :

الأول : أنه استثناء قاله الملك الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فحكى الله مقالته كما وقعت .

الثاني : أنه تأديب من الله لعباده ليقولون إن شاء الله في أمر مستقبل .

الثالث : أنه استثناء بالنظر إلى كل إنسان على حدته لأنه يمكن أن يتم له الأمر أو يموت أو يمرض فلا يتم له .

الرابع : أن الاستثناء راجع إلى قوله آمنين لا لدخول المسجد .

الخامس : أن إن شاء الله بمعنى إذا شاء الله .

{ محلقين رؤوسكم ومقصرين } الحلق والتقصير من سنة الحج والعمرة . والحلق أفضل من التقصير ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحم الله المحلقين ثلاثا ثم قال في المرة الأخيرة : والمقصرين " .

{ فعلم ما لم تعلموا } يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة فإنه لما انعقد الصلح وارتفعت الحرب ورغب الناس في الإسلام فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية في ألف وخمسمائة وقيل : ألف وأربعمائة وغزا غزوة الفتح بعدها بعامين ومعه عشرة آلاف { فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } يعني : فتح خيبر ، وقيل : بيعة الرضوان وقيل : صلح الحديبية ، وهذا هو الأصح لأن عمر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أفتح هو يا رسول الله ، قال : " نعم " وقيل : هو فتح مكة وهذا ضعيف ، لأن معنى قوله : { من دون ذلك } قبل دخول المسجد الحرام وإنما كان فتح مكة بعد ذلك فإن الحديبية كانت عام ستة من الهجرة وعمرة القضية عام سبعة وفتح مكة عام ثمانية .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

ولما {[60478]}قرر سبحانه وتعالى علمه{[60479]} بالعواقب لإحاطة علمه ووجه أسباب كفه أيدي الفريقين وبين ما فيه من المصالح وما في التسليط من المفاسد من قتل{[60480]} من حكم بإيمانه من المشركين وإصابة من لا يعلم{[60481]} من المؤمنين - وغير ذلك إلى أن ختم بإحاطة علمه المستلزم لشمول قدرته . أنتج ذلك قوله لمن توقع الإخبار عن الرؤيا التي أقلقهم أمرها وكاد بعضهم أن يزلزله ذكرها على سبيل التأكيد : { لقد } .

ولما كان للنظر إلى الرؤيا اعتباران : أحدهما من جهة الواقع وهو غيب{[60482]} عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين : والآخر من جهة الإخبار وهو مع الرؤيا شهادة بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ، عبر بالصدق والحق فقال تعالى : { صدق الله } أي الملك الذي لا كفوء له المحيط بجميع صفات الكمال { رسوله } صلى الله عليه وسلم الذي هو أعز الخلائق عنده وهو غني عن الإخبار عما لا يكون أنه يكون ، فكيف إذا كان المخبر رسوله { الرؤيا } التي هي من الوحي لأنه سبحانه يرى الواقع ويعلم مطابقتها في أنكم تدخلون المسجد الحرام آمنين يحلق بعض ويقصر{[60483]} آخرون ، متلبساً خبره ورؤيا رسوله صلى الله عليه وسلم { بالحق } لأن مضمون الخبر إذا وقع فطبق بين الواقع وبينه ، وكان الواقع يطابقه لا يخرم {[60484]}شيء منه{[60485]} عن شيء منه{[60486]} ، والحاصل أنك إذا نسبتها للواقع طابقته فكان صدقاً ، وإذا نسبت الواقع إليها طابقها فكانت{[60487]} حقاً .

ولما أقسم لأجل التأكيد لمن كان يتزلزل ، أجابه بقوله مؤكداً بما يفهم القسم أيضاً إشارة إلى عظم الزلزال : { لتدخلن } أي بعد هذا دخولاً قد-{[60488]} تحتم أمره { المسجد } أي الذي يطاف {[60489]}فيه بالكعبة{[60490]} ولا يكون دخوله إلى بدخول الحرم { الحرام } أي{[60491]} الذي أجاره الله من امتهان الجبابرة ومنعه من كل ظالم .

ولما كان لا يجب عليه سبحانه وتعالى شيء وإن وعد به ، أشار إلى ذلك بقوله تأديباً لهم أن يقول أحد منهم بعد ذلك : ألم يقل أننا ندخل البيت ونحو ذلك ، ولغيرهم{[60492]} أن يقول : نحن ندخل : { إن شاء الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ، حال كونكم { آمنين } لا تخشون إلا-{[60493]} الله منقسمين بحسب التحليق والتقصير إلى قسمين { محلقين رءوسكم } ولعله أشار بصيغة التفعيل إلى أن فاعل الحلق{[60494]} كثير ، وكذا { ومقصرين } غير أن التقديم يفهم أن الأول أكثر .

ولما كان الدخول حال الأمن لا يستلزم الأمن بعده قال تعالى : { لا تخافون } أي لا يتجدد لكم خوف بعد ذلك إلى أن تدخلوا عليهم عام الفتح قاهرين {[60495]}لهم بالنصر{[60496]} . ولما كان من المعلوم أن سبب هذا الإخبار إحاطة العلم ، فكان التقدير ، هذا أمر حق يوثق غاية الوثوق لأنه إخبار عالم الغيب والشهادة ، صدق سبحانه فيه ، وما ردكم عنه هذه الكرة على هذا الوجه إلا لأمور دبرها وشؤون أحكمها وقدرها ، قال عاطفاً على { صدق{[60497]} } مسبباً عنه أو معللاً : { فعلم } أي بسبب ، أو لأنه علم من أسباب الفتح وموانعه وبنائه{[60498]} على الحكمة { ما لم تعلموا } أي أيها{[60499]} الأولياء { فجعل } أي{[60500]} بسب إحاطة علمه { من دون } أي أدنى رتبة من-{[60501]} { ذلك } أي الدخول العظيم في هذا العام { فتحاً قريباً * } يقويكم به من فتح خيبر ووضع الحرب بين العرب بهذا الصلح ، واختلاط بعض الناس بسبب{[60502]} ذلك ببعض ، الموجب لإسلام{[60503]} بشر كثير تتقوون بهم ، فتكون تلك الكثرة والقوة سبب هيبة الكفار المانعة لهم من القتال ، فتقل القتلى رفقاً بأهل حرم الله تعالى إكراماً لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عن إغارة قومه وإصابة من عنده{[60504]} من المسلمين المستضعفين من غير علم .


[60478]:من ظ ومد، وفي الأصل: تقرر علمه سبحانه وتعالى.
[60479]:من ظ ومد، وفي الأصل: تقرر علمه سبحانه وتعالى.
[60480]:من ظ ومد، وفي الأصل: قبل.
[60481]:من مد، وفي الأصل و ظ: علم له.
[60482]:من مد، وفي الأصل و ظ: غيبا.
[60483]:من ظ ومد، وفي الأصل: تقصير.
[60484]:من مد، وفي الأصل و ظ: منه شيء.
[60485]:من مد، وفي الأصل و ظ: منه شيء.
[60486]:زيد في الأصل: انتهى، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[60487]:زيد في الأصل: في الحقيقة، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[60488]:زيد من مد.
[60489]:من مد، وفي الأصل و ظ: به بالكعبة.
[60490]:من مد، وفي الأصل و ظ: به بالكعبة.
[60491]:سقط من ظ.
[60492]:من مد، وفي الأصل و ظ: لغيره.
[60493]:زيد من ظ ومد.
[60494]:في الأصل و ظ بياض ملأناه من مد.
[60495]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[60496]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[60497]:زيد في الأصل: الوعد، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[60498]:من مد، وفي الأصل و ظ: بيانه.
[60499]:سقط من ظ ومد.
[60500]:سقط من ظ ومد.
[60501]:زيد من مد.
[60502]:زيد في الأصل: عن، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[60503]:من ظ ومد، وفي الأصل: بإسلام.
[60504]:زيد في الأصل: عن، ولم تكن الزيادة في ظ ومد، وفي الأصل: عندهم.