ولقد مر بنا أن بعض المؤمنين الذين خرجوا مستبشرين برؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد هالهم ألا تتحقق الرؤيا هذا العام ؛ وأن يردوا عن المسجد الحرام . فالله يؤكد لهم صدق هذه الرؤيا ، وينبئهم أنها منه ، وأنها واقعة ولا بد . وأن وراءها ما هو أكبر من دخول المسجد الحرام أيضا :
( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق : لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون . فعلم ما لم تعلموا ، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا . هو الذي أرسل رسوله بالهدى )( ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا ) . .
فأما البشرى الأولى . بشرى تصديق رؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ودخولهم المسجد الحرام آمنين ، وتحليقهم وتقصيرهم بعد انتهاء شعائر الحج أو العمرة ، لا يخافون . . فأما هذه فقد تحققت بعد عام واحد . ثم تحققت بصورة أكبر وأجلى بعد عامين اثنين من صلح الحديبية . إذ تم لهم فتح مكة ، وغلبة دين الله عليها .
ولكن الله سبحانه يؤدب المؤمنين بأدب الإيمان ؛ وهو يقول لهم : " لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - " . . فالدخول واقع حتم ، لأن الله أخبر به . ولكن المشيئة يجب أن تظل في نفوس المسلمين في صورتها الطليقة لا يقيدها شيء ، حتى تستقر هذه الحقيقة في القلوب ، وتصبح هي قاعدة التصور للمشيئة الإلهية . والقرآن يتكئ على هذا المعنى ، ويقرر هذه الحقيقة ، ويذكر هذا الاستثناء في كل موضع ، حتى المواضع التي يذكر فيها وعد الله . ووعد الله لا يخلف . ولكن تعلق المشيئة به أبدا طليق . إنه أدب يلقيه الله في روع المؤمنين ، ليستقر منهم في أعماق الضمير والشعور .
ونعود إلى قصة تحقيق هذا الوعد ؛ فقد ذكرت الروايات أنه لما كان ذو القعدة من سنة سبع - أي العام التالي لصلح الحديبية - خرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية . فأحرم من ذي الحليفة ، وساق معه الهدي - كما أحرم وساق الهدي في العام قبله - وسار أصحابه يلبون . فلما كان [ صلى الله عليه وسلم ] قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه . فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا ، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين ، فذهبوا فأخبروا أهل مكة . فلما جاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن ياجج ، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه . فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص ، فقال : يا محمد ، ما عرفناك تنقض العهد . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " وما ذاك ? " قال : دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لم يكن ذلك ، وقد بعثنا به إلى ياجج " فقال : بهذا عرفناك ، بالبر والوفاء !
وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وإلى أصحابه - رضي الله عنهم - غيظا وحنقا . وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه . فدخلها [ صلى الله عليه وسلم ] وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام الناقة يقودها .
الرؤيا : هي رؤيا منامية رآها صلى الله عليه وسلم في منامه أنه دخل المسجد الحرام معتمرا ، وصدق الله رسوله الرؤيا ، أي : صدقه في رؤياه ولم يكذبه .
لتدخلن : جواب لقسم محذوف ، أي : والله لتدخلن أيها المؤمنون المسجد الحرام في عامكم المقبل .
آمنين : حال كونكم آمنين من كل فزع .
محلقين : حال كون بعضكم يحلق شعر رأسه كله .
ومقصرين : وبعضكم يكتفي بقص جزء منه .
27- { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } .
هذه الآية تأكيد لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه ، وبيان لحكمة العلي القدير في تأخير فتح مكة ، وفي إنجاز صلح الحديبية .
جزيرة العرب عبارة عن صحراء واسعة ، تعتمد هذه الصحراء على المدن القريبة منها في بيع منتجاتها ، من الألبان واللحوم والزراعة والخضر والفاكهة ، ويشتري الأعراب من هذه المدن ما يلزمهم من الكساء والفراش وغير ذلك ، وقد كانت فتوحات الرسول صلى الله عليه وسلم وغزواته أفعالا منظمة مرتبة لحكم عالية ، وضعت في حسبانها أن تتم السيطرة على المدينة وما حولها ، وأن يتم قطع الطريق على تجارة مكة ، حتى تضطر إلى التسليم بالإسلام ، أو مهادنته رهبة أو رغبة ، والمتأمل في تاريخ السرايا والغزوات يرى أنها حققت ذلك .
وفي أول حياة المسلمين بالمدينة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرايا استطلاعية لتعرف أحوال مكة وأخبار تجارتها ، خصوصا المتحركة إلى الشام ، حيث تمر بطريق المدينة ، فمكة في جنوب الجزيرة ، والشام في شمالها ، والمدينة في الوسط ، وكانت بدر الصغرى وبدر الكبرى دروسا موجهة إلى أهل مكة ، وتمت غزوة أحد وغزوة الخندق ، وفي أعقاب غزوة الخندق قال صلى الله عليه وسلم : ( سنغزو مكة ولا تغزونا بعد ذلك ) ، ثم تم صلح الحديبية ، وبحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم تم فتح خيبر بعد شهرين من صلح الحديبية ، ومن يسيطر على خيبر يمكنه التحكم في الأعراب المحيطة بها ، وكان من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحرم مكة من حلفائها ، أو ممن ينسِّقون معها في حرب المسلمين ، وأخذ صلى الله عليه وسلم يعقد معاهدات ومصالحات ، ويستقبل وفودا من العرب ، حتى سمى العام السابع الهجري بعام الوفود ، من كثرة الوفود التي قدمت من حول مكة ، آمنة على نفسها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي عمرة القضاء شاهد الصبيان والنساء بمكة المسلمين في نسكهم وعبادتهم ، وناقشوهم في مبادئ الإسلام ، وتهيأت مكة لاستقبال الإسلام رغبة أو رهبة ، لقد حَرَم الرسول صلى الله عليه وسلم مكة من عدد من الحلفاء ، وعقد معاهدات ومصالحات مع عدد من العرب في أنحاء الجزيرة ، ورأى أهل مكة أن الإسلام هو دين الغد ، وأن مكة ستسقط في يد المسلمين عاجلا أم آجلا ، وقد كان صلح الحديبية أعظم فتح في تاريخ المسلمين ، فقد تضاعف به عدد المسلمين ، ويسّر الطريق لفتح خيبر ، ثم لعمرة القضاء ، ثم لفتح مكة بقليل من الجهد ، مع الحفاظ على حرمة البيت الحرام وحرمة مكة ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما أباحها الله لي ساعة من نهار ) .
ومن ذلك نعلم أن الغزوات لم تكن ردود أفعال كما يتوهم بعض كتاب السيرة ، وإنما كانت خطة محكمة ، اعتمدت على تدريب الرجال ، وإرسال السرايا ، وإعداد المخابرات والعيون ، وتوقيع المعاهدات ، والاستيلاء على الأماكن المؤثّرة ، والالتفاف حول مكة ، والتأثير على تجارتها ، وإفهامها أن مصلحتها في مهادنة الإسلام ، ثم التمهيد لفتح مكة بأقل التضحيات ، ثم فتح الطائف ، ثم توجيه المسلمين إلى تبوك ، وتهيئة الصحابة ليقودوا معارك في بلاد الفرس وبلاد الروم في مستقبل أمرهم ، حتى أنه لم تمض على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عشر سنوات حتى ورث المسلمون ممالك الفرس والروم .
مع يقيننا بأن قدرة الله القادرة وتوفيقه العظيم ، وهدايته لرسوله ، وبشارته بالنصر ، ومعونة الله له بالملائكة والهداية والتوفيق ، كانت من أهم أسباب النصر .
قال تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر } . ( المدثر : 31 ) .
وقال تعالى : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم * ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } . ( الأنفال : 17 ، 18 ) .
والله لقد صَدَق الله رسوله وما كذبه ، فالله هو الذي أراه الرؤيا بالحق ، وكانت الرؤيا سببا في صلح الحديبية ، وقال بعض الناس أو بعض المنافقين : لم ندخل المسجد الحرام ، فنزلت هذه الآية : { لتدخلن المسجد الحرام . . . } أي في عمرة القضاء ، { إن شاء الله . . . } تأكيد من الله العليم بكل شيء ، وتعليم لنا ونحن لا علم لنا ، أي : ستدخلن المسجد الحرام بمشيئة الله وتوفيقه ، لا بسبب قوتكم أو أسلحتكم .
{ آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين . . . }
حال كونكم آمنين من عدوان أهل مكة ، تتمتعون بالأمن وأداء العمرة ، بعضكم يتحلل من إحرامه بالحلق لرأسه كاملا ، وبعضكم يتحلل من إحرامه بتقصير شعر رأسه ، والحلق أفضل بالنسبة للرجل ، أما المرأة فليس لها إلا التقصير .
تأكيد للأمن ، ولتكفّل الله بإلقاء الرعب في قلوب أهل مكة ، ولتطمين المسلمين بأنهم سيؤدون عمرة القضاء آمنين لا يخافون ، وهو تأكيد مقصود في أعقاب غزوات متعددة ، وتعنت من أهل مكة في معاهدة الحديبية .
{ فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } .
إن حكمة الله أن تسير الأمور في أسبابها ، وسقوط خيبر في يد المسلمين حرم كفار مكة من حلفاء أشداء ، وحرم اليهود في خيبر من حرية الحركة ، وألقى الرعب في قلوب أهل مكة ، ويسر فتح مكة على المسلمين في الوقت المناسب ، والله تعالى عالم الغيب لذلك جعل فتح خيبر قبل فتح مكة ، أو جعل صلح الحديبية قبل فتح مكة .
الرؤيا : ما يراه النائم . صدَق الله رسوله الرؤيا : صدقه فيما رآه في نومه ولم يكذبه .
محلّقين رؤوسكم ومقصرين : بعضكم يحلق شعره كله ، وبعضكم يقصر منه . رأى النبي عليه الصلاة والسلام في منامه وهو في المدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية رؤيا أنه يدخلُ المسجدَ الحرام هو وأصحابه آمنين ، منهم من يحلق شعره كله ، ومنهم من يقصّر منه . فأخبر بذلك أصحابه آمنين ، منهم من يحلق شعره كله ، ومنهم من يقصّر منه . فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا وحسبوا أنهم داخلون مكة في ذلك العام الذي خرجوا فيه إلى الحديبية . فلما انصرفوا ولم يدخلوا مكة شقَّ ذلك عليهم ، وقال المنافقون : أين رؤيا النبي التي رآها ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية . ودخلوا في العام المقبل . وهذا معنى { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام . . . } الآية { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } هو صلح الحديبية وفتح خيبر .
{ 27-28 } { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }
يقول تعالى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه ، أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت ، فلما جرى يوم الحديبية ما جرى ، ورجعوا من غير دخول لمكة ، كثر في ذلك الكلام منهم ، حتى إنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ فقال : " أخبرتكم أنه العام ؟ " قالوا : لا ، قال : " فإنكم ستأتونه وتطوفون به " قال الله هنا : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } أي : لا بد من وقوعها وصدقها ، ولا يقدح في ذلك تأخر تأويلها ، { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } أي : في هذه الحال المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام ، وأدائكم للنسك ، وتكميله بالحلق والتقصير ، وعدم الخوف ، { فَعَلِمَ } من المصلحة والمنافع { مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ } الدخول بتلك الصفة { فَتْحًا قَرِيبًا }
ولما كانت هذه الواقعة مما تشوشت بها قلوب بعض المؤمنين ، وخفيت عليهم حكمتها ، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها ، وهكذا سائر أحكامه الشرعية ، فإنها كلها ، هدى ورحمة .