في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ} (68)

62

ثم يأخذ في مشهد من مشاهد القيامة يبدأ بالنفخة الأولى ، وينتهي بانتهاء الموقف ، وسوق أهل النار إلى النار . وأهل الجنة إلى الجنة . وتفرد الله ذي الجلال . وتوجه الوجود لذاته بالتسبيح والتحميد .

وهو مشهد رائع حافل ، يبدأ متحركاً ، ثم يسير وئيداً ، حتى تهدأ كل حركة ، وتسكن كل نأمة ، ويخيم على ساحة العرض جلال الصمت ، ورهبة الخشوع ، بين يدي الله الواحد القهار !

ها هي ذي الصيحة الأولى تنبعث ، فيصعق من يكون باقياً على ظهر الأرض من الأحياء ، ومن في السماوات كذلك - إلا من شاء الله - ولا نعلم كم يمضي من الوقت حتى تنبعث الصيحة الثانية :

( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله . ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) . .

ولا تذكر الصيحة الثالثة هنا . صيحة الحشر والتجميع . ولا تصور ضجة الحشر وعجيج الزحام . لأن هذا المشهد يرسم هنا في هدوء ، ويتحرك في سكون .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ} (68)

67

المفردات :

الصور : القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل .

صعق : مات .

ينظرون : ينتظرون ماذا يفعل بهم .

التفسير :

68-{ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } .

تعرض الآية مشاهد القيامة ، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن من علامات الساعة ظهور المسيخ الدجال ، ثم ظهور المسيح عيسى ابن مريم ، فيقتل المسيخ بإذن الله ، ثم يسود الوئام بين الناس سبعين سنة ، ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحا طيبة تنزع أرواح المؤمنين الصالحين ، ولا تقوم القيامة إلا على لكع ابن لكع ، أي لئيم بن لئيم .

وقد تحدث القرآن أن هناك ثلاث صيحات ، الأولى صيحة الفزع ، والثانية صيحة الصعق والموت ، حيث يموت الناس جميعا ، ويكون ملك الموت آخر من يموت ، ويمكث الناس بعد نفخة الصعق أربعين سنة ، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولا ، وهو الباقي آخرا . ويقول : { لمن الملك اليوم . . . } ثم يجيب نفسه فيقول : { لله الواحد القهار } . ( غافر : 16 ) .

ثم يُحيى الله أول من يُحيى إسرافيل ، ويأمره أن ينفخ في الصور نفخة أخرى ، وهي نفخة البعث {[613]} ، قال تعالى : { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } .

أي : ينفخ إسرافيل بعد أن يحييه الله تعالى قبل الخلائق ، فينفخ نفخة أخرى وهي نفخة البعث والإحياء ، فإذا جميع الخلائق الأموات يقومون من القبور ينظرون أهوال يوم القيامة .

قال تعالى : { فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة } . ( النازعات : 13 ، 14 ) .

وقال سبحانه : { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } . ( الروم : 25 ) .

وقال تعالى : { يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } . ( الإسراء : 52 ) .


[613]:أورد ابن كثير في تفسيره طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة عن الحشر، والنفخات الأولى والثانية والثالثة، كما عُنى مختصر تفسير ابن كثير للصابوني بتخريج هذه الأحاديث.
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ} (68)

قوله تعالى : " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى " بين ما يكون بعد قبض الأرض وطي السماء وهو النفخ في الصور ، وإنما هما نفختان ، يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون في الثانية وقد مضى الكلام في هذا في " النمل " {[13339]} و " الأنعام " {[13340]} أيضا . والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام . وقد قيل : إنه يكون معه جبريل لحديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن صاحبي الصور بأيديهما - أو في أيديهما - قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران ) خرجه ابن ماجة في السنن . وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال : ذكر رسول الله صاحب الصور ، وقال : ( عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل ) . واختلف في المستثنى من هم ؟ فقيل : هم الشهداء متقلدين أسيافهم حول العرش . روي مرفوعا من حديث أبي هريرة فيما ذكر القشيري ، ومن حديث عبد الله بن عمر فيما ذكر الثعلبي . وقيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام . وروي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا : " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله " فقالوا : يا نبي الله من هم الذين استثنى الله تعالى ؟ قال : ( هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت فيقول الله تعالى لملك الموت يا ملك الموت من بقي من خلقي وهو أعلم فيقول : يا رب بقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وعبدك الضعيف ملك الموت فيقول الله تعالى : خذ نفس إسرافيل وميكائيل فيخران ميتين كالطودين العظيمين فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول الله تعالى لجبريل يا جبريل من بقي فيقول تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني فيقول الله تعالى يا جبريل لا بد من موتك فيقع ساجدا يخفق بجناحيه يقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على الظَّرِب{[13341]} من الظِّرَابِ ) ذكره الثعلبي . وذكره النحاس أيضا من حديث محمد بن إسحاق ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله جل وعز : " فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله " قال : ( جبريل وميكائيل وحملة العرش وملك الموت وإسرافيل ) وفي هذا الحديث : ( إن آخرهم موتا جبريل عليه وعليهم السلام ) وحديث أبي هريرة في الشهداء أصح على ما تقدم في " النمل " {[13342]} . وقال الضحاك : هو رضوان والحور ومالك والزبانية . وقيل : عقارب أهل النار وحياتها . وقال الحسن : هو الله الواحد القهار وما يدع أحدا من أهل السماء والأرض إلا أذاقه الموت . وقال قتادة : الله أعلم بثنياه . وقيل : الاستثناء في قوله : " إلا من شاء الله " يرجع إلى من مات قبل النفخة الأولى ، أي فيموت من في السماوات والأرض إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا .

وفي الصحيحين وابن ماجة واللفظ له عن أبي هريرة قال : قال رجل من اليهود بسوق المدينة ، والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه ، قال : تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( قال الله عز وجل : " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب ) وخرجه الترمذي أيضا وقال فيه : حديث حسن صحيح . قال القشيري : ومن حمل الاستثناء على موسى والشهداء فهؤلاء قد ماتوا غير أنهم أحياء عند الله . فيجوز أن تكون الصعقة بزوال العقل دون زوال الحياة ، ويجوز أن تكون بالموت ، ولا يبعد أن يكون الموت والحياة فكل ذلك مما يجوزه العقل ، والأمر في وقوعه موقوف على خبر صدق .

قلت : جاء في بعض طرق أبي هريرة أنه عليه السلام قال : ( لا تخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش{[13343]} فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله ) خرجه مسلم . ونحوه عن أبي سعيد الخدري ، والإفاقة إنما تكون عن غشية وزوال عقل لا عن موت برد الحياة . والله أعلم .

قوله تعالى : " فإذا هم قيام ينظرون " أي فإذا الأموات من أهل الأرض والسماء أحياء بعثوا من قبورهم ، وأعيدت إليهم أبدانهم وأرواحهم ، فقاموا ينظرون ماذا يؤمرون . وقيل : قيام على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذي وعدوا به . وقيل : هذا النظر بمعنى الانتظار ، أي ينتظرون ما يفعل بهم . وأجاز الكسائي قياما بالنصب ، كما تقول : خرجت فإذا زيد جالسا .


[13339]:راجع ج 13 ص 239 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
[13340]:راجع ج 7 ص 20 طبعة أولى أو ثانية.
[13341]:الظرب: ككتف الجبل الصغير والجمع ظراب. وقد يجمع في القلة على أظرب.
[13342]:راجع ج 13 ص 241 طبعة أولى أو ثانية.
[13343]:باطش بجانب العرش: أي متعلق به بقوّة.
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ} (68)

{ ونفخ في الصور } هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وهذه النفخة نفخة الصعق وهو الموت وقد قيل : إن قبلها نفخة الفزع ولم تذكر في هذه الآية .

{ إلا من شاء الله } قيل : يعني جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت ثم يميتهم الله بعد ذلك وقيل : استثناء الأنبياء وقيل : الشهداء .

{ ثم نفخ فيه أخرى } هي نفخة القيام .

{ قيام ينظرون } قيل : إنه من النظر وقيل : من الانتظار أي : ينتظرون ما يفعل بهم .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ} (68)

ولما دل على عظيم قدره بعض ما يكون يوم القيامة ، أتبعه ما لا يحتمله القوي من أحوال ذلك اليوم دليلاً آخر ، فقال دالاً على عظيم قدرته وعزه وعظمته بالبناء للمفعول : { ونفخ في الصور } أي القرن العاطف للأشياء المقبل بها نحو صوته المميل لها عن أحوالها العالي عليها في ذلك اليوم بعد بعث الخلائق وهي النفخة الأولى بعد البعث التي هي بعد نفختي الموت والبعث المذكورتين في سورة يس ، والمراد بها - والله أعلم - إلقاء الرعب والمخافة والهول في القلوب إظهاراً للعظمة وتردياً بالكبرياء والعز في عزة يوم المحشر ليكون أول ما يفجأهم يوم الدين ما لا يحتمله القوي ، ولا تطيقه الأحلام والنهى ، كما كان آخر ما فجأهم في يوم الدنيا وإن افترقا في التأثير ، فإن تلك أثرت الموت ، وهذه أثرت الغشي لأنه لا موت بعد البعث ، وهي الثالثة من النفخات { فصعق } أي مغشياً عليه { من في السماوات } ولما كان المقام التهويل ، وكان التصريح أهول ، أعاد الفاعل بلفظه فقال : { ومن في الأرض } .

ولما كان منهم من لا يصعق ليعرف دائماً أنه في كل فعل من أفعاله مختار قادر جبار ، استثناه فقال : { إلا من شاء الله } أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز ، فيجعل الشيء الواحد هلاكاً لقوم دون قوم ، وصعقاً لقوم دون قوم ، يجعل ذلك الذي كان به الهلاك به الحياة وذلك الذي كان به الغشي به الإفاقة وإن كان بالنسبة إليهم على حد سواء ، إعلاماً بأن الفاعل المؤثر الفعال لما يريد لا الأثر ، قيل : المستثنون الشهداء وقيل : غيرهم { ثم نفخ فيه أخرى } أي نفخة ثانية من هذه ، وهي رابعة من النفخة المميتة ، ودل على سرعة تأثيرها بالفجاءة في قوله : { فإذا هم قيام } أي قائمون كلهم { ينظرون * } أي يقلبون أبصارهم أو ينتظرون ما يأتي بعد ذلك من أمثاله من دلائل العظمة ، وهاتان النفختان هما المرادتان في حديث تخاصم اليهود مع المسلم الذي لطم وجهه ، وفي آخره : " يصعق الناس يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور " - وقد رواه البخاري في الخصومات في موضعين ، وفي أحاديث الأنبياء في موضعين ، وفي الرقاق وفي التوحيد ومسلم في الفضائل ، وأبو داود في السنة ، والنسائي في التفسير والنعوت ، وبتفصيل رواياته وجمع ألفاظها يعلم أن ما ذكرته هو المراد ، روى البخاري ومسلم في أحاديث الأنبياء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " بينما يهودي يعرض سلعة له - وقال البخاري : سلعته - أعطى بها شيئاً كرهه أو لم يرضه ، قال : لا والذي اصطفى موسى على البشر ! فسمعه رجل من الأنصار فلطم - وقال البخاري : فقام فلطم وجهه ، قال : تقول : والذي اصطفى موسى على البشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهداً ، وقال : فلان لطم وجهي ، - وقال البخاري : فما بال فلان لطم وجهي ؟ - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم لطمت وجهه ؟ قال : قال يا رسول الله " والذي اصطفى موسى على البشر " وأنت بين أظهرنا ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه ، ثم قال : لا تفضلوا بين أنبياء الله فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث "

- وفي رواية لمسلم : " أو في أول من بعث - فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطور أو بعث قبلي ولا أقول : إن أحداً أفضل من يونس بن متى ، " وفي رواية للبخاري في تفسير الزمر : " إني من أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش فلا أدري أكذلك كان أم بعد النفخة ، " وفي رواية للبخاري في الخصومات والرقاق وأحاديث الأنبياء وهي لمسلم أيضاً قالا : استب رجلان : رجل من المسلمين ورجل من اليهود - وفي رواية لمسلم : رجل من اليهود ورجل من المسلمين - فقال المسلم : والذي اصفطى محمداً صلى الله عليه وسلم على العالمين ، قال البخاري في كتاب التوحيد وأحاديث الأنبياء : في قسم يقسم به ، فقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين ، قال البخاري : فغضب المسلم عند ذلك فلطم وجه اليهودي ، وقال مسلم وكذلك البخاري في التوحيد والخصومات وأحاديث الأنبياء : فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي ، فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم ، قال البخاري في الخصومات : فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره - ثم اتفقا : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون " قال البخاري في الرقاق والخصومات وأحاديث الأنبياء ونسخة في التوحيد : " يوم القيامة فأكون في أول من يفيق " ، وفي رواية له في الخصومات ؛ " فأصعق معهم " ، وفي رواية له في الرقاق وفي رواية في التوحيد وهي رواية لمسلم وأبي داود : " فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى باطش بجانب العرش " ، وقال أبو داود : " في جانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله " ، وفي رواية : " فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أو اكتفى بصعقة الطور "

وفي رواية للبخاري في أحاديث الأنبياء : " فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق أو كان ممن استثنى الله " - ولم يذكر قبلي وروى الحديث الترمذي في تفسير سورة الزمر وابن ماجه في الزهد : قال : قال اليهودي ، وقال ابن ماجه : رجل من اليهود بسوق المدينة : والذي اصطفى وموسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يداً فصك بها وجهه - وقال ابن ماجه : فلطمه - قال : تقول هذا وفينا نبي الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ونفخ في الصور " - وقال ابن ماجه : تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " قال الله تعالى : ونفخ في الصور - فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، فأكون أول من رفع رأسه فإذا موسى آخذ " - وقال ابن ماجه : " فإذا أنا بموسى آخذ - بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أرفع رأسه قبلي أم كان ممن استثنى الله ، ومن قال : أنا خير من يونس بن متى فقد كذب " ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وفي رواية للبخاري في الرقاق : " يصعق الناس حين يصعقون ، فأكون أول من قام ، فإذا موسى آخذ بالعرش ، فما أدري أكان فيمن صعق " ، قال : ورواه أبو سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه ، وللبخاري في الخصومات عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس جاء يهودي فقال : يا أبا القاسم ! ضرب وجهي رجل من أصحابك ، قال : من ؟ قال : رجل من الأنصار ، قال : ادعوه ، قال : ضربته ؟ قال : سمعته بالسوق يحلف " والذي اصطفى موسى على البشر " قلت : أي خبيث على محمد ، فأخذتني غضبة ضربت وجهه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تخيروا بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض " - وفي رواية في أحاديث الأنبياء : " فأكون أول من يفيق - فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقته الأولى " ، وفي رواية في أحاديث الأنبياء : " فلا أدري أفاق قبلي أو حوسب بصعقة الطور " والله أعلم - هذا ما رأيته من ألفاظ الحديث في الكتب الستة ، وأما معنى صعق فإنه صاح ومات فجأة أو غشي عليه ، قال في القاموس : الصاعقة الموت وكل عذاب مهلك وصيحة العذاب ، وصعق كسمع صعقاً ويحرك وصعقة وتصعاقاً : غشي عليه . والصعق محركة : شدة الصوت ، وككتف : الشديد الصوت ، وقال عبد الحق في الواعي : الأزهري : الصاعقة –صوت الرعد الشديد الذي يصعق منه الإنسان أي يغشى عليه يقال : صعقتهم الصاعقة _ يعني بالفتح - وأصعقتهم - إذا أصابتهم فصعقوا وصعقوا ، ومنه حديث الحسن : ينتظر بالمصعوق ثلاثاً ما لم يخافوا عليه نتناً - يعني الذي مات فجأة ، قال : والصاعقة مصدر جاء على فاعلة ، تقول : سمعت صاعقة الرعد وثاغية الشاء ، وقوله :وخر موسى صعقاً }[ الأعراف : 143 ] أي مغشياً عليه ، دل على ذلك قوله سبحانه { فلما أفاق } إنما يقال : أفاق من العلة والغشية وبعث من الموت ، قال : وجملة الصاعقة الصوت مع النار ، وقال أبو عبد الله يعني القزاز : الصعق هو أن يسمع الإنسان صوت الهدة الشديدة فيصعق لذلك عقله ، واشتقاق الصاعقة من هذا ، سميت صاعقة لشدة صوتها وتقول : إنه لصعق ، أي شديد الصوت ، وكذا هو صعاق - انتهى .

فتحرر من هذا أن الصعق يطلق على الموت فجأة ، وعلى الغشي كذلك ، وأن الإفاقة لا تكون إلا عن غشي لا عن موت ، فعلم أن الصعقة في هذه الآية إنما هي غشي لأن الثانية عنها إفاقة ، وأيضاً فمن الأمر المحقق أنه لا يموت أحد من أهل البرزخ فكيف بالأنبياء عليهم السلام ، فالصواب حمل الصعقة المذكورة في الحديث على الغشي أو ما يشبهه ، ويؤيده التجويز لأن تكون صعقة الطور جزاء عنها ، وعلى تقدير أن تكون غشياً إن قلنا إنه يكون بنفخة الإماتة يلزم عليه أن لا يكون للغشي ولا لعدمه مدخل في الشك في أن موسى عليه السلام أفاق قبل أو لم يحصل له غشي أصلاً ، لأن الذي يكون به بطشه بالعرش - وهو بروحه وجسده - إنما هو البعث من الموت لا الإفاقة من الغشي ولا عدم الغشي قبل البعث ، فالذي يوضح الأمر ولا يدع فيه لبساً أن يكون ذلك بعد البعث ، وتكون حينئذ النفخات أربعاً : الأولى لإماتة الأحياء ، الثانية لإحياء جميع الموتى ، وهاتان هما المذكورتان في سورة يس ، ولذلك لما ذكرهما صرح في أمرهما بما لا يحتمل غيره { ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } الثالثة لابتدائهم بعد البعث بالهول الشديد ، والحال يقتضيه لأن ذلك اليوم يوم الأهوال والارعاب والارهاب ، وإظهار العظمة والجلال لتقطيع الأسباب ، والذي يدل عليه في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في كثير من رواياته : " فإن الناس يصعقون يوم القيامة " فإن يوم القيامة اسم للوقت الذي أوله البعث وآخره تكامل دخول كل فريق إلى داره ومحل استقراره ، وأما صعقة الموت فإنها في دار الدنيا وهي للإنامة لا للإقامة ، ويضعف حمله على ما قبل البعث الروايات الصحيحة الجازمة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض ، وما حكاه الكرماني من الإجماع على ذلك ولا فخر فيه إلا بحصول البعث لا بإظهار الجسد من غير بعث ، فهذا الجزم ينافي ذلك الشك ، فإذا كان المراد بما في الحديث الغشي كانت نفخة أخرى للإيقاظ منه ، وهاتان المرادتان بما في هذه السورة كما في رواية الترمذي وما في النمل ، ولذلك عبر عنها بالفزع ، ويؤيد ذلك التعبير في رواية البخاري في التفسير بالنفخة الآخرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم ، واختصر له الكلام اختصاراً ، ولو أنهما نفختان فقط كان التعبير بالآخرة قاصراً عما تفيده الثانية مع المساواة في عدة الحروف ، وهو مما لا يظن ببليغ ، فكيف بأبلغ الخلق المؤيد بروح القدس صلى الله عليه وسلم فكان العدول عن الثانية إلى الآخرة مفيداً أنها أربع ، ولعل ذلك معنى أمتنا اثنتين وأحيينا اثنتين }[ غافر : 11 ] وسميت إماتة لشدة الغشي بها لعظم أمرها ومعنى زلزلة الساعة التي تسكر ، ويؤيده التعبير عن القيام منها بالإفاقة لا بالبعث ، ولا يعكر على هذا شيء إلا رواية البخاري في الخصومات : " فأكون أول من تنشق عنه الأرض فإذا أنا بموسى " - إلى آخره ، فالظاهر أن راويها وهم ، أو روي بالمعنى فما وفى بالغرض ، والراجح روايات من قالوا : " فأكون أول من يفيق " - بالكثرة وبزوال الإشكال ، هذا ما كان ظهر لي في النظر في المعنى وتطبيق الآيات والأحاديث عليه ، ثم رأيت شيخنا حافظ عصره أحمد بن علي بن حجر الكناني العسقلاني المصري رحمه الله نقل ما جمعت به بين الروايات في كتاب الأنبياء من شرحه للبخاري عن القاضي عياض فقال : وقال عياض : يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض . وأقره على ذلك ثم نقل عن ابن حزم عين ما قلته في النفخات فقال ما نصه : تكميل : زعم ابن حزم أن النفخات يوم القيامة أربع : الأولى نفخة إماتة يموت فيها من بقي في الأرض ، حياً ، ثانيها نفخة إحياء فيقوم كل ميت ، والثالثة نفخة فزع وصعق يفيقون منها كالمغشي عليهم ، لا يموت منها أحد ، والرابعة إفاقة من ذلك الغشي ، ثم رده شيخنا بأن الصعقات أربع ، ولا يستلزم كون النفخات أكثر من اثنتين ، وذلك أنه ينفخ في الصور النفخة الأولى فيموت من كان حياً ويغشى على من كان ميتاً ، فهاتان صعقتان في النفخة الأولى ، وينفخ النفخة الثانية فيفيق من كان مغشياً عليه ويحيى من كان ميتاً ، فهاتان اثنتان في النفخة الثانية ، وهذا الرد مردود لمن حقق ما قلته بأدنى تأمل ، ويلزم عليه أن يكون أصفياء الله أشد حالاً وفزعاً ممن تقوم عليهم الساعة وهم شر عباد الله ، والعجب أن الذي رده على ابن حزم سلّمه لعياض - والله الموفق .