في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

وفي ختام السورة يعود السياق إلى الحقيقة الأولى التي تدور عليها السورة . حقيقة الوحي والرسالة . يعود إلى هذه الحقيقة ليكشف عن طبيعة هذا الاتصال بين الله والمختارين من عباده ، وفي أية صورة يكون . ويؤكد أنه قد وقع فعلا إلى الرسول الأخير[ صلى الله عليه وسلم ] لغاية يريدها الله سبحانه . ليهدي من يشاء إلى صراط مستقيم :

( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم . وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض . ألا إلى الله تصير الأمور ) . .

ويقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة . وقد روي عن عائشة رضى الله عنها : " من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية " إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث : ( وحيا )يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله ، ( أو من وراء حجاب ) . . كما كلم الله موسى - عليه السلام - وحين طلب الرؤية لم يجب إليها ، ولم يطق تجلي الله على الجبل ( وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) . . ( أو يرسل رسولاً )وهو الملك ( فيوحي بإذنه ما يشاء )بالطرق التي وردت عن رسول الله - [ صلى الله عليه وسلم ] .

الأولى : ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " . . والثانية : أنه كان [ صلى الله عليه وسلم ] يتمثل له الملك رجلاً ، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول . والثالثة : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس ، وكان أشده عليه ، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد ، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها ، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها . والرابعة : أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها ، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه . وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم .

هذه صور الوحي وطرق الاتصال . . ( إنه علي حكيم ) . . يوحي من علو ، ويوحي بحكمة إلى من يختار . .

وبعد فإنه ما من مرة وقفت أمام آية تذكر الوحي أو حديث ، لأتأمل هذا الاتصال إلا أحسست له رجفة في أوصالي . . كيف ? كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان ، المحيطة بكل شيء ، والتي ليس كمثلها شيء . كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان ، محدودة بحدود المخلوقات ، من أبناء الفناء ? ! ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات ?

وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود ? ولا شكل له معهود ?

وكيف ? وكيف ? . .

ولكني أعود فأقول : وما لك تسأل عن كيف ? وأنت لا تملك أن تتصور إلا في حدود ذاتك المتحيزة القاصرة الفانية ? ! لقد وقعت هذه الحقيقة وتمثلت في صورة . وصار لها وجود هو الذي تملك أن تدركه من وجود .

ولكن الوهلة والرجفة والروعة لا تزول ! إن النبوة هذه أمر عظيم حقاً . وإن لحظة التلقي هذه لعظيمة حقاً . تلقي الذات الإنسانية لوحي من الذات العلوية . . أخي الذي تقرأ هذه الكلمات ، أأنت معي في هذا التصور ? ! أأنت معي تحاول أن تتصور ? ! هذا الوحي الصادر من هناك . أأقول : هناك ? ! كلا . إنه ليس هناك " هناك " ! الصادر من غير مكان ولا زمان ، ولا حيز ولا حد ولا جهة ولا ظرف . الصادر من المطلق النهائي ، الأزلي الأبدي ، الصادر من الله ذي الجلال إلى إنسان . . إنسان مهما يكن نبياً رسولاً ، فإنه هو هذا الإنسان ذو الحدود والقيود . . هذا الوحي . هذا الاتصال العجيب . المعجز . الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعة تتحقق ، ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقق . . أخي الذي تقرأ هذه الكلمات . هل تحس ما أحس من وراء هذه العبارات المتقطعة التي أحاول أن أنقل بها ما يخالج كياني كله ? إنني لا أعرف ماذا أقول عما يخالج كياني كله من الروعة والرجفة وأنا أحاول أن أتصور ذلك الحدث العظيم العجيب الخارق في طبيعته ، والخارق في صورته ، الذي حدث مرات ومرات . وأحس بحدوثه ناس رأوا مظاهره رأي العين ، على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . وهذه عائشة رضي الله عنها تشهد من هذه اللحظات العجيبة في تاريخ البشرية فتروي عن واحدة منها تقول : " قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا عائشة . هذا جبريل يقرئك السلام " قلت : وعليه السلام ورحمة الله . قالت : وهو يرى ما لا نرى " . وهذا زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يشهد مثل هذه اللحظة وفخذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على فخذه ، وقد جاءه الوحي فثقلت حتى كادت ترض فخذه . وهؤلاء هم الصحابة - رضوان الله عليهم - في مرات كثيرة يشهدون هذا الحادث ويعرفونه في وجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فيدعونه للوحي حتى يسرى عنه ، فيعود إليهم ويعودون إليه . . . .

ثم . . أية طبيعة . طبيعة هذه النفس التي تتلقى ذلك الاتصال العلوي الكريم ? أي جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتصل بهذا الوحي ، ويختلط بذلك العنصر ، ويتسق مع طبيعته وفحواه ?

إنها هي الأخرى مسألة ! إنها حقيقة . ولكنها تتراءى هنالك بعيداً على أفق عال ومرتقى صاعد ، لا تكاد المدارك تتملاه .

روح هذا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] روح هذا الإنسان . كيف يا ترى كانت تحس بهذه الصلة وهذا التلقي ? كيف كانت تتفتح ? كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض ? كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلى فيها الله على الوجود ؛ والتي تتجاوب جنباته كلها بكلمات الله ?

ثم . . أية رعاية ? وأية رحمة ? وأية مكرمة ? . . والله العلي الكبير يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان . فيوحي إليها لإصلاح أمرها ، وإنارة طريقها ، ورد شاردها . . وهي أهون عليه من البعوضة على الإنسان ، حين تقاس إلى ملكه الواسع العريض ? .

إنها حقيقة . ولكنها أعلى وأرفع من أن يتصورها الإنسان إلا تطلعاً إلى الأفق السامق الوضيء :

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

49

المفردات :

وحيا : إلقاء في القلب .

أو من وراء حجاب : أو يكلمه من وراء حجاب .

أو يرسل رسولا : أو يبعث الله الملك للأنبياء ليبلغهم ما أمر الله به .

التفسير :

51- { وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم } .

سبب النزول :

ذكر غير واحد من المفسرين أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا ، كما كلمه موسى ؟ فنزلت هذه الآية ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لم ينظر موسى إلى الله تعالى ) .

الوحي نعمة من نعم الله على عباده ، وطريق إلى الهداية ، وفضل إلهي ترسله السماء إلى الأرض بواسطة مَلَك يختاره الله ليوحي إلى رسول مصطفى ومختار من عباد الله ، فما أجلّها من نعمة ، أن يتفضل الإله العلي الحكيم بإنزال هدايات السماء ؛ ليهدي العباد إلى الصراط المستقيم .

الوحي

ذكر الوحي في كتب علوم القرآن والتفسير على أنه الوسيلة التي يبلغ الله بها عباده التشريع والهداية ، بواسطة اختيار ملك كجبريل ينزل على رسول كمحمد صلى الله عليه وسلم .

ثلاث طرق

تفيد الآية الكريمة أن ما يبلغه الله إلى عباده يتم عن طريق واحدة من ثلاث طرق :

الأولى : إلقاء المعنى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق رؤيا منامية ، كما حدث لإبراهيم عليه السلام ، حين أمره الله بذبح ولده إسماعيل ، وأحيانا يلقي المعنى في قلب الرسول يقظة ، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب )22 .

الثانية : سماع الرسول كلام الله من وراء حجاب ، بأن يسمعه الرسول من الله بدون واسطة ، متيقنا أنه كلام الله من حيث لا يُرى سبحانه وتعالى ، كما كلم موسى عليه السلام ، وسمى الله ذلك وحيا ، فقال : { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } . ( طه : 13 ) ، وقال سبحانه : { وكلّم الله موسى تكليما } . ( النساء : 164 ) . وكان موسى قد طلب الرؤية بعد التكلم فحجب عليها .

قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } . ( الأعراف : 143 ) .

الثالثة : أن يرسل الله تعالى ملكا من الملائكة إما جبريل أو غيره ، فيوحى ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء الله أن يوحى إليه ، كما كان جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة ينزلون على الأنبياء عليهم السلام ، والقرآن الكريم جميعه نزل عن طريق الوحي الجليّ في هذه الصورة الثالثة ، بواسطة جبريل عليه السلام يتلقاه عنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم متيقنا أن ذلك من عند الله ، وهو وحي الله إلى رسوله ليبلغه إلى عباده .

قال تعالى : { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } . ( الشعراء : 193-195 ) .

وقال تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . . . } ( المائدة : 67 ) .

وقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى } . ( النجم : 3-7 ) .

وقد أفاد النبي صلى الله عليه وسلم أن الوحي كان يأتيه مثل صلصلة الجرس23 ، حيث يغيب النبي صلى الله عليه وسلم عمن حوله ، ويتفرغ بروحه وكل شئونه لاستقبال ذلك الوحي ، فإذا انتهى الوحي عاد إلى من حوله ، وأحيانا يتمثل الملك رجلا فيكلم الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويعي الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله الملك .

قالت عائشة : ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ، أي : يسيل عرقا .

من تفسير ابن كثير :

هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الرب جل وعلا ، فتارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم وحيا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل .

وقوله تعالى : { أو من وراء حجاب . . . } أي : كما كلم موسى عليه السلام ، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها .

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما : ( ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحا )24 ، كذا جاء في الحديث ، وكان قد قتل يوم أحد ، ولكن هذا في عالم البرزخ ، والآية إنما هي في الدار الدنيا .

وقوله عز وجل : { أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء . . . } كما ينزل جبريل عليه السلام ، وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

{ إنه علي حكيم } . فهو علي عليم ، خبير حكيم .

من فتح القدير للشوكاني :

{ وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلا وحيا . . . }

يوحي إليه فيلهمه ويقذف ذلك في قلبه ، كما أوحى إلى أم موسى ، وإلى إبراهيم في ذبح ولده ، والوحي هو الإخبار بسرعة على وجه الخفية .

{ أو من وراء حجاب . . . } كما كلم موسى عليه السلام ، يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى .

{ أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء . . }

أي : يرسل ملكا فيوحي ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحى إليه .

{ إنه علي حكيم } .

أي : متعال عن صفات النقص ، حكيم في كل أحكامه .

ثم إن هذه الأنواع من الوحي كلها قد حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم . اه .

( أ ) أي أن الله قد قذف في قلبه أن الإنسان لن يموت حتى يستوفي أجله ورزقه .

( ب ) وقد كلمه الله من وراء حجاب ليلة الإسراء والمعراج .

( ج ) وقد نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم خلال ثلاثة وعشرين عاما من عمره الشريف ، حيث بدأ نزول الوحي عليه في مكة وعمره أربعون عاما ، واستمر الوحي ينزل عليه ثلاثة عشر عاما في مكة قبل الهجرة ، ثم نزل عليه الوحي عشرة أعوام بالمدينة ، وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وعمره ثلاثة وستون عاما .

وما نزل من القرآن بمكة يسمى مكيا ، وما نزل بالمدينة بعد الهجرة سمي مدنيا ، ونجد في كتب علوم القرآن بحوثا مستفيضة عن الوحي المكي والمدني ، المحكم والمتشابه ، فواتح السور ، كتابة القرآن في الألواح ، وجمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق ، وكتابة القرآن الكريم على لغة قريش في عهد عثمان ، والمصحف العثماني نقطه وتشكيله ، وتجويد كتابته ، ووضع علامات الربع والحزب والجزء ، وعلامات الوقف والوصل والسجدة ، ووضع إطار حول كل صفحة ، واستمرار تحسين خط المصحف عبر العصور الإسلامية ، فالمصحف القرآني أصدق وثيقة وأنقى نص عرفه التاريخ 25 ، لأن الله تعالى تعهد بحفظه فقال : { إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون } . ( الحجر : 9 ) .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

{ 51-53 } { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ }

لما قال المكذبون لرسل الله ، الكافرون بالله : { لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } من كبرهم وتجبرهم ، رد الله عليهم بهذه الآية الكريمة ، وأن تكليمه تعالى لا يكون إلا لخواص خلقه ، للأنبياء والمرسلين ، وصفوته من العالمين ، وأنه يكون على أحد هذه الأوجه .

إما أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ وَحْيًا بأن يلقي الوحي في قلب الرسول ، من غير إرسال ملك ، ولا مخاطبة منه شفاها .

{ أَوْ } يكلمه منه شفاها ، لكن { مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } كما حصل لموسى بن عمران ، كليم الرحمن .

{ أَوْ } يكلمه الله بواسطة الرسول الملكي ، ف { يُرْسِلَ رَسُولًا } كجبريل أو غيره من الملائكة .

{ فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ } أي : بإذن ربه ، لا بمجرد هواه ، { إِنَّهُ } تعالى علي الذات ، علي الأوصاف ، عظيمها ، علي الأفعال ، قد قهر كل شيء ، ودانت له المخلوقات . حكيم في وضعه كل شيء في موضعه ، من المخلوقات والشرائع .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

ولما تم القسم الأول مما بنى على العلم والقدرة ، والقدرة فيه أظهر وفاقاً لما ختمت به الآية ، وكان قد يكون خلقه إياه إبداعاً من غير توسط سبب ، وقد يكون بتوسيط سبب ، أتبعه القسم الآخر الأعلى الذي العلم فيه أظهر وهو الوحي الذي ختمت آيته أول السورة بالحكمة التي هي سر العلم ، وقسمه أيضاً إلى ما هو بواسطة وإلى ما هو بغير واسطة ، ولكن سر التقدير في القسم الأول الكلام وهو الذي شرف به ، وكان لا يمكن أحداً أن يتكلم إلا بتكليم الله له أي إيجاده الكلام في قلبه قال : { وما } أي وهو سبحانه تام العلم شامل القدرة غرز في البشر غريزة العلم وأقدره على النطق به بقدرته وحياً منه إليه كما أوحى إلى النحل ونحوها والحال أنه ما { كان لبشر } من الأقسام المذكورة ، وحل المصدر الذي هو اسم " كان " ليقع التصريح بالفاعل والمفعول على أتم وجوهه فقال : { أن يكلمه } وأظهر موضع الإضمار إعظاماً للوحي وتشريفاً لمقداره بجلالة إيثاره قفال : { الله } أي يوجد الملك الأعظم الجامع لصفات الكمال في قلبه كلاماً { إلا وحياً } أي كلاماً خفياً يوجده فيه بغير واسطة بوجه خفي لا يطلع عليه أحد إلا بخارق العادة إما بإلهام أو برؤيا منام أو بغير ذلك سواء خلق الله في المكلم به قوة السماع له وهو أشرف هذه الأقسام مطلقاً سواء كان ذلك مع الرؤية ليكون قسيماً لما بعده أولاً أو يخلق فيه ذلك ومن هذا القسم الأخير{ وأوحينا إلى أم موسى }[ القصص : 7 ]

{ وأوحى ربك إلى النحل }[ النحل : 68 ] { وأوحى في كل سماء أمرها }[ فصلت : 12 ] فإن إيداعها القوى التي يحصل بها المنافع مثل إيداع الإنسان قوة الكلام ثم قوة التعبير عنه - والله أعلم . وهذا معنى قول القاضي عياض في الشفاء في آخر الفصل الثاني من الباب الرابع في الإعجاز : وقد قيل في قوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } الآية أي ما يلقيه في قلبه دون واسطة ، ومعنى قول الإمام شهاب الدين السهروردي في الباب السادس والعشرين من عوارفه : والعلوم اللدنية في قلوب المنقطعين إلى الله ضرب من المكالمة .

ولما كان الحجاب الحسي يخفي ما وراءه عن العيان ، استعير لمطلق الخفاء فقال : { أو من } أي كلاماً كائناً بلا واسطة ، لكنه مع السماع لعين كلام الله كائن صاحبه من { وراء حجاب } أي من وجه لا يرى فيه المتكلم مع السماع للكلام على وجه الجهر ، قال القشيري : والمحجوب العبد لا الرب ، والحجاب أن يخلق في محل الرؤية ضد الرؤية ، وتعالى الله أن يكون من وراء حجاب لأن ذلك صفة الأجسام - انتهى .

والآية يمكن تنزيلها على الاحتباك بأن يكون ذكر الحجاب ثانياً دليلاً على نفيه أولاً ، وذكر الوحي الدال على الخفاء أولاً دليلاً على الجهر ثانياً ، والحجاب ثانياً دليلاً على الرؤية أولاً ، وسره أن ترك التصريح بالرؤية والدلالة عليها بالحجاب أولى بسياق العظمة .

ولما كان الذي بلا واسطة مع كونه أخفى الأقسام ليس فيه صوت ولا ترتب في كلمات ، عبر فيه بالمصدر وعبر بما يلقيه الملك بما يدل على التجدد فقال : { أو يرسل } وهو عطف على المصدر بعد تقدير حله { رسولاً } أي من الملائكة . ولما كان الوحي مسبباً عن الإرسال ومرتباً عليه قال : { فيوحي } أي على سبيل التجديد والترتيب ، وقرأ نافع برفع يرسل ويوحي بتقدير : أو هو يرسل . ولما كان ربما ظن أن للواسطة فعلاً يخرج عن فعله ، رد ذلك بقوله : { بإذنه } أي بإقداره وتمكينه ، فذلك المبلغ إنما هو آلة . ولما كان رسوله لا يخرج عما حده له بوجه قال : { ما يشاء } أي لا يتعدى مراده وإقداره أصلاً فهو المكلم في الحقيقة وقد بان أنها ثلاثة أقسام : أولها فيه قسمان ، خص الأول بقسميه بالتصريح باسم الوحي لأنه كما مر أخفاها وهو أيضاً يقع دفعة ، والوحي يدور معناه على الخفاء والسرعة .

ولما كانت الأقسام الثلاثة دالة على العظمة الباهرة ، وكانت للروح البدني لأن روح الوحي يكسب الروح البدني حياة العلم كما أفاد الروح البدن حياة الحركة بالإرادة والحس ، كانت النتيجة مؤكدة لتضمن طعنهم في الرسول والقرآن والتوحيد طعنهم في مضمون الجملة : { إنه } أي الذي له هذا التصرف العظيم في هذا الوحي الكريم { عليّ } أي بالغ العلو حداً مما لا يليق به من الأوصاف وبما يكون للخلق عن جنابه من السفول بما عليهم من الحجب فلا يلبس شيء مما يعبر به تقريباً للعقول فيحمل على ما يوهم نقصاً ، فإن المجازات في لسان العرب شهيرة { حكيم * } يتقن ما يفعله إتقاناً لا تحيط العقول بإدراكه فيسكن روح العلم الذي هو من ألطف أسراره في روح البدن المدبر له فيكون سراً في سر كما كان براً بعد بر ، ويجعل ذلك تارة بواسطة وتارة بغير واسطة على حسب ما يقتضيه الحال ، ويعبر عن كل معنى بما يقتضيه حاله في ذلك السياق ، ومهما أوهم شيء من ذلك نقصاً فرد المستبصر إلى المحكم بضرب من التأويل على ما يقتضيه الشائع من استعمالات العرب رجع رجوعاً بيناً متقناً بحيث يصير في غاية الجلاء .