في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة سبأ مكية وآياتها أربع وخمسون

موضوعات هذه السورة المكية هي موضوعات العقيدة الرئيسية : توحيد الله ، والإيمان بالوحي ، والاعتقاد بالبعث . وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية . وبيان أن الإيمان والعمل الصالح - لا الأموال ولا الأولاد - هما قوام الحكم والجزاء عند الله . وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله وما من شفاعة عنده إلا بإذنه .

والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء ؛ وعلى إحاطة علم الله وشموله ودقته ولطفه . وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة ، وأساليب شتى ؛ وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية .

فعن قضية البعث يقول : ( وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة . قل : بلى وربي لتأتينكم ) . .

وعن قضية الجزاء يقول : ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أولئك لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ) . .

وفي موضع آخر قريب في سياق السورة : ( وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ? أفترى على الله كذبا أم به جنة ? بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ) .

ويورد عدة مشاهد للقيامة ، وما فيها من تأنيب للمكذبين بها ، ومن صور العذاب الذي كانوا يكذبون به ، أو يشكون في وقوعه كهذا المشهد : ( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول . يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا : لولا أنتم لكنا مؤمنين . قال الذين استكبروا للذين استضعفوا : أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ? بل كنتم مجرمين . وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا : بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً . وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ? ) . .

وتتكرر هذه المشاهد وتتوزع في السورة وتختم بها كذلك : ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب . وقالوا : آمنا به . وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ? وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل . إنهم كانوا في شك مريب .

وعن قضية العلم الإلهي الشامل يرد في مطلع السورة : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) . .

ويرد تعقيباً على التكذيب بمجيء الساعة : ( قل : بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .

ويرد قرب ختام السورة : ( قل : إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ) . .

وفي موضوع التوحيد تبدأ السورة بالحمد لله ( الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ) . .

ويتحداهم مرات في شأن الشركاء الذين يدعونهم من دون الله : ( قل : ادعوا الذين زعمتم من دون الله ، لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، وما لهم فيهما من شرك ، وما له منهم من ظهير ) . .

وتشير الآيات إلى عبادتهم للملائكة وللجن وذلك في مشهد من مشاهد القيامة : ( ويوم يحشرهم جميعاًثم يقول للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ? قالوا : سبحانك ! أنت ولينا من دونهم . بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) .

وينفي ما كانوا يظنونه من شفاعة الملائكة لهم عند ربهم : ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ، حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق وهو العلي الكبير ) . .

وبمناسبة عبادتهم للشياطين ترد قصة سليمان وتسخير الجن له ، وعجزهم عن معرفة موته : ( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته . فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) . .

وفي موضوع الوحي والرسالة يرد قوله : ( وقال الذين كفروا : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ) . . وقوله : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا : ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم . وقالوا : ما هذا إلا إفك مفترى ، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم : إن هذا إلا سحر مبين ) . .

ويرد عليهم بتقرير الوحي والرسالة : ( ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ) . . ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً . ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .

وفي موضوع تقرير القيم يرد قوله : ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها : إنا بما أرسلتم به كافرون . وقالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين . قل : إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً ، فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون . والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون ) . .

ويضرب على هذا أمثلة من الواقع التاريخي في هذه الأرض : قصة آل داود الشاكرين على نعمة الله . وقصة سبأ المتبطرين الذين لا يشكرون . وما وقع لهؤلاء وهؤلاء . وفيه مصداق مشهود للوعد والوعيد .

هذه القضايا التي تعالجها السور المكية في صور شتى ، تعرض في كل سورة في مجال كوني ، مصحوبة بمؤثرات منوعة ، جديدة على القلب في كل مرة . ومجال عرضها في سورة سبأ هذه هو ذلك المجال ، ممثلاً في رقعة السماوات والأرض الفسيحة ، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب . وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة . وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة . وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة ، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة . وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري ، موقظ له من الغفلة والضيق والهمود .

فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح على هذا الكون الهائل ؛ وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله ، وعلى مجالي علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) . . ( وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة . قل : بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .

والذين يكذبون بالآخرة يتهددهم بأحداث كونية ضخمة : ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ? إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء . إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) . .

والذين يعبدون من دون الله ملائكة أو جناً يقفهم وجهاً لوجه أمام الغيب المرهوب في الملأ الأعلى : ( ولاتنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له . حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق . وهو العلي الكبير ) . .

أو يواجههم بالملائكة في ساحة الحشر حيث لا مجال للمواربة والمجادلة : ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) . . . الخ .

والمكذبون لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الذين يتهمونه بالافتراء أو أن به جنة يقفهم أمام فطرتهم ، وأمام منطق قلوبهم بعيداً عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة : ( قل : إنما أعظكم بواحدة . أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة . إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . .

وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في تلك المجالات المتنوعة ، وتواجهه بتلك المؤثرات الموحية الموقظة . حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة كما أسلفنا . .

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في تلك المجالات وتحت تلك المؤثرات في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة ؛ يمكن تقسيمها إلى خمسة أشواط لتيسير عرضها وشرحها . وإلا فإنه ليس بينها فواصل تحددها تحديداً دقيقاً . . وهذا هو طابع السورة الذي يميزها . .

تبدأ السورة بالحمد لله ، المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير . وتقرر علمه الشامل الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها . وتحكي إنكار الذين كفروا لمجيء الساعة ورد الله عليهم بتوكيد مجيئها ، وعلم الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . ليتم جزاء المؤمنين وجزاء الذين يسعون في آيات الله معاجزين ، عن علم دقيق . وتثبت رأي أولي العلم الحقيقي الذين يشهدون أن ما أنزل الله لنبيه هو الحق . وتحكي عجب الذين كفروا من قضية البعث ، وترد عليهم بأنهم في العذاب والضلال البعيد ؛ وتهددهم بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفاً عليهم . .

وبذلك ينتهي الشوط الأول .

فأما الشوط الثاني فيتناول طرفاً من قصة آل داود الشاكرين لله على نعمته ، بتسخير قوى كثيرة لداود وسليمان بإذن الله . غير متبطرين ولا مستكبرين ، ومن هذه القوى المسخرة الجن الذين كان يعبدهم بعض المشركين ، ويستفتونهم في أمر الغيب . وهم لا يعلمون الغيب . وقد ظلوا يعملون لسليمان عملاً شاقاً مهيناً بعد موته وهم لا يعلمون . . . وفي مقابل قصة الشكر تجيء قصة البطر . قصة سبأ . وما كانوا فيه من نعيم لم يشكروه : ( فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ) . . وذلك أنهم اتبعوا الشيطان ، وما كان له عليهم من سلطان ، لولا أنهم أعطوه قيادهم مختارين !

ويبدأ الشوط الثالث بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمونهم آلهة من دون الله . وهم ( لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ) . . وهم لا يملكون لهم شفاعة عند الله - ولو كانوا من الملائكة - فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف ؛ ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق . . ويسألهم عمن يرزقهم من السماوات والأرض . والله مالك السماوات والأرض ، وهو الذي يرزقهم بلا شريك . . ثم يفوض أمره وأمرهم إلى الله ، وهو الذي يفصل فيما هم مختلفون . . ويختم هذا الشوط بالتحدي كما بدأه ، أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء . ( كلا بل هو الله العزيز الحكيم ) . .

والشوط الرابع والشوط الخامس يعالجان معاً قضية الوحي والرسالة ، وموقفهم منها ، وموقف المترفين من كل دعوة ، واعتزازهم بأموالهم وأولادهم ؛ ويقرران القيم الحقيقية التي يكون عليها الحساب والجزاء ، وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد . ويعرضان مصائر المؤمنين والمكذبين في عدة مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة ، يتبرأ فيها التابعون من المتبوعين . كما يتبرأ فيها الملائكة من عبادة الضالين المشركين . . ويدعوهم بين هذه المشاهد إلى أن يرجعوا إلى فطرتهم يستلهمونها مجردة عن الهوى وعن الضجيج في أمر هذا الرسول الذي يندفعون في تكذيبه بلا دليل . وهو لا يطلب إليهم أجراً على الهدى ، وليس بكاذب ولا مجنون . . ويختم كل من الشوطين بمشهد من مشاهد القيامة . وتنتهي السورة بإيقاعات قصيرة قوية : قل : إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب . قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد . قل : إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي إنه سميع قريب . . وتختم بمشهد من مشاهد القيامة قصير الخطى قوي عنيف .

والآن نأخذ بعد هذا العرض الإجمالي في التفصيل . .

( الحمد لله ، الذي له ما في السماوات ، وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير . يعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء ، وما يعرج فيها ، وهو الرحيم الغفور . . )

ابتداء السورة التي تستعرض إشراك المشركين بالله ، وتكذيبهم لرسوله ، وشكهم في الآخرة ، واستبعادهم للبعث والنشور . ابتداء بالحمد لله . والله محمود لذاته - ولو لم يقم بحمده أحد من هؤلاء البشر - وهو محمود في هذا الوجود الذي يسبح بحمده ومحمود من شتى الخلائق ولو شذ البشر عن سائر خلائق الله .

ومع الحمد صفة الملك لما في السماوات وما في الأرض ؛ فليس لأحد معه شيء ، وما لأحد في السماوات والأرض من شرك ، فله - سبحانه - كل شيء فيهما . . وهذه هي القضية الأولى في العقيدة . قضية التوحيد . والمالك لكل شيء هو الله الذي لا مالك لشيء سواه في هذا الكون العريض .

( وله الحمد في الآخرة ) . . الحمد الذاتي . والحمد المرتفع من عباده . حتى ممن كانوا يجحدونه في الدنيا ، أو يشركون معه غيره عن ضلالة ، تتكشف في الآخرة ، فيتمحض له الحمد والثناء .

( وهو الحكيم الخبير ) . . الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحكمة ؛ ويصرف الدنيا والآخرة بحكمة ؛ ويدبر أمر الوجود كله بحكمة . . الخبير الذي يعلم بكل شيء ، وبكل أمر ، وبكل تدبير علماً كاملاً شاملاً عميقاً يحيط بالأمور .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة سبأ

سورة سبأ سورة مكية نزلت بعد سورة لقمان وقد نزلت سورة سبأ في الفترة ما بين السنتين الحادية عشرة والثانية عشرة من حياة الرسول بمكة بعد البعثة فقد جاء الوحي على النبي وعمره أربعين سنة ثم مكث في مكة ثلاثة عشرة عاما ، وفي المدينة عشرة أعوام ومات وعمره ثلاث وستون سنة .

وكانت سورة سبأ ضمن مجموعة السور التي نزلت في السنوات الأخيرة من حياة المسلمين بمكة .

وكانت آيات سورة سبأ 54 آية وسميت بهذا الاسم لاشتمالها على قصة سبأ وهي مدينة من المدن القديمة في اليمن وكانت عاصمة دولة قديمة بها وقد خرجت عند انهيار سد مأرب بسبب سيل العرم .

قال تعالى : { لقد كان لسبإ في مساكنهم ءاية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور*فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل*ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور } . ( سبإ : 15-17 ) .

موضوعات السورة موضوعات سورة سبإ هي موضوعات العقيدة الرئيسية توحيد الله ، والإيمان بالوحي والاعتقاد بالبعث وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية وبيان أن الإيمان والعمل الصالح لا الأموال ولا الأولاد- هما قوما الحكم والجزاء عند الله وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله وما من شفاعة عنده إلا بإذنه .

والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء وعلى إحاطة علم الله وشموله ودقته ولطفه وتتركز الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين بطرق متنوعة وأساليب شتى وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية .

فعن قضية البعث تقول السورة : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم } . ( سبإ : 3 ) .

ويرد قرب ختام السورة : { قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب } . ( سبإ : 48 ) .

وقد عرض الفيروزيادي مقصود السورة فقال : بيان حكمة التوحيد وبرهان نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزات داود وسليمان ووفاتهما وهلاك سبإ وشؤم الكفران وعدم الشكر وإلزام الحجة على عباد الأصنام ومناظرة أهل الضلالة وذكر معاملة الأمم الماضية مع النبيين ووعد المنافقين والمتصدقين بالإخلاف والعودة إلى إلزام الحجة على منكري النبوة وتمني الكفار في وقت الوفاة الرجوع إلى الدنيا أه .

ونلاحظ أن هذه القضايا التي تعالجها السورة قد عالجتها السور مكية في مواضع شتى ولكنها تعرض في كل سورة مصحوبة بمؤثرات متنوعة جديدة على القلب في كل مرة ومجال عرضها في سورة سبأ يأتي مصحوبا بمؤثرات عدة ، ممثلة متنوعة ممثلة في رفعة السماوات والأرض الفسيحة وفي عالم الغيب المجهول المرهوب وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة وغريبة وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري موقظ له من الغفلة والشيق والهمود .

فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح العيون على هذا الكون الهائل وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله وعلى مجال علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل .

وتستمر السورة في مناقشة المكذبين وإلزامهم بالحجة وإيقافهم أمام فطرتهم وأمام منطق قلوبهم بعيدا عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة . i

قال تعالى : { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } . ( سبأ : 46 ) .

وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في مجالات متنوعة وتواجهه بالحقائق والأدلة والحجج حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة .

فصول السورة

يجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة يمكن تقسيمها إلى ستة فصول :

1- الألوهية وإثبات البعث :

تحدثت الآيات التسع الأولى من السورة عن عظمة الخالق المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة وهو الحكيم الخبير وقررت شمول علمه الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ثم تطرقت للحديث عن إنكار الكافرين لمجيء الساعة وردت عليهم بتأكيد إتيانها لتتم إثابة المؤمنين وعقوبة الكافرين وليستقين العلماء والمؤمنون أن القرآن حق وصدق ، وهداية إلى صراط العزيز المجيد ثم تحدثت عن عجب الكفار من قضية البعث واستبعادهم لوقوعه بعد أن يموتوا ويمزقوا كل ممزق وأجابت عن ذلك بأنه لا وجه لاستبعادهم وهم يرون من كمال قدرته الله ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض وهددت المكذبين بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفا عليهم .

2- داود وسليمان :

تتناول الآيات من ( 10-14 ) طرفا من قصة داود وسليمان وتذكر نعمة الله عليهما وفضله فقد أعطى داود النبوة والزبور والصوت الحسن وإذا سبح الله سبحت معه الجبال والطير وآلان الله له الحديد وأوحى إليه أن يعمل دروعا سابغات للحرب كما حثه الله على العمل الصالح فإنه سبحانه بصير خبير .

وقد سخر الله لسليمان الريح ذهابها شهر ورجوعها شهر تحمل بساطه هو وخاصته إلى حيث يشاء وقد ذلل الله له الجن تعمل له أنواع المصنوعات فلما انقضى أجله مات واقفا متكئا على عصاه وما دل الجن على موته غلا أرضة قرضت عصاه فانطلقوا بعد أن كانوا مسجونين .

3- قصة سبأ :

ضرب الله مثلا للشاكرين بداود وسليمان وقليل من الناس من يدرك فضل الله عليه وعظيم نعمائه التي لا تعد ولا تحصى ثم ضرب الله مثلا للبطر وجحود النعمة بمملكة سبأ وقد سبق أن وصفت في سورة النمل بالعظمة والقوة فلما آمنت بلقيس وكفر من جاء بعدها وأعرضوا عن شكر الله أصابهم الدمار .

وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوبي اليمن وكانوا في أرض مخصبة لا تزال منها بقية إلى اليوم وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تأتيهم من البحر في الجنوب والشرق فأقاموا خزانا طبيعيا يتألف جانباه من جبلين وجعلوا على فم الوادي بينهما سدا به عيون تفتح وتغلق وخزنوا المياه بكميات عظيمة وراء السد وتحكموا فيها وفق حاجتهم فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم وقد عرف باسم سد مأرب .

وهذه الجنان عن اليمين والشمال رمز لذلك الخصب والوفرة والرخاء والمتاع الجميل ولكنهم لم يشكروا نعمة الله ولم يذكروا آلاءه فسلبهم هذا الرخاء وأرسل السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه فحطم السد وانساحت المياه فطفت وأغرقت ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفت الجنان واحترقت وتبدلت تلك الجنان الفيحاء صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة ، { ذلك جزيناهم بما كفروا . . . } أي بنعمة الله ، { وهل نجازي إلا الكفور } . ( سبأ : 17 ) .

وقد استغرقت قصة سبأ الآيات من ( 15-21 ) .

4- الشرك والتوحيد :

المتأمل في الآيات من ( 22-27 ) في سورة سبأ يجد ظاهرة متميزة حيث تكرر قول : قل في أول هذه الآيات كما تضمنت عددا من الأسئلة والحقائق في أسلوب رائع قوي .

لقد بدأت الآيات بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمون أنهم آلهة من دون الله وهم لا يملكون نفعا ولا ضرا ولا يملكون شفاعة عند الله- ولو كانوا من الملائكة- فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق ويسألهم الله عمن يرزقهم من السموات والأرض والله مالك السماوات والأرض وهو الذي يرزقهم بلا شريك ، ثم يفوض أمر النبي وأمرهم إلى الله وهو الذي يفصل فيما هم فيه مختلفون ويختم هذا الفصل بالتحدي كما بدأه أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء " كلا بل هو الله العزيز الحكيم . ( سبأ : 27 ) .

وهكذا تطوف الآيات بالقلب البشري في مجال الوجود كله حاضره وغيبه سمائه وأرضه دنياه وآخرته وتقف به أمام رزقه وكسبه وحسابه وجزائه كل ذلك في فواصل قوية ، وضربات متلاحقة وآيات تبدأ كل آية منهال يفعل الأمر قل ، وكل قولة منها تدمغ بالحجة ، وتصدع بالبرهان في قوة وسلطان .

وفي أعقاب هذه الآيات بيان الرسالة الرسول وأنها عامة للناس أجمعين : { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون } . ( سبأ : 28 ) .

5- مشاهد القيامة والجزاء :

يستغرق الفصل الخامس في السورة الآيات من ( 29-32 ) ويبدأ بسؤال يوجهه الكفار للنبي عن يوم القيامة ، استبعادا لوقوعه والجواب أن ميعاده لا يتقدم ولا يتأخر ، وقد اعتز الكفار بالأموال والأولاد وقالوا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب السابقة عليه .

وهنا يعرض القرآن موقف الظالمين أمام ربهم حيث يتحاورون فيراجع بعضهم بعضا كل منهم يحاول أن يلقى التبعة على أخيه فيقول الضعفاء للسادة والكبراء لقد تصديتم لنا بالإغراء والمكر بنا ليلا ونهارا حتى أفسدتم علينا رأينا وجعلتمونا نكفر بالله ونجعل له نظراء من الآلهة الخالية ويحتج الكبراء ويقولون أنحن منعناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ؟ بل كنتم مجرمين إذ أخذتم الكفر عنا بالتقليد .

وعض الجميع بنان الندم حين رأوا العذاب والأغلال في أعناقهم ثم نرى المترفين يقاومون كل إصلاح ويكذبون كل رسالة : { وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون } . ( سبا : 34 ) .

وقد احتج المترفون بكثرة أموالهم وأولادهم واعتقدوا أن فضلهم في الدنيا سيمنعهم من العذاب في الآخرة وهنا يضع القرآن موازين الحق والعدل ويقرر القيم الحقيقية التي يكون عليها الجزاء والحساب وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد .

وفي مشاهد القيامة يتضح أنه لا الملائكة ولا الجن الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا يملكون لهم في الآخرة شيئا .

كما توضح الآيات أن بسط الرزق وقبضه أمران يجريان وفق إرادة الله وليسا دليلا على رضا أو غضب ولا على قرب أو بعد إنما ذلك ابتلاء واختبار .

6- الدعوة إلى التأمل والتفكر :

في الآيات الأخيرة من السورة من ( 43-54 ) حديث عن عناد الكافرين وجحودهم من غير برهان ولا دليل وتنبيه من القرآن بما وقع لأمثالهم الغابرين الذين أخذهم النكير في الدنيا وهم كانوا أقوى منهم وأعلم وأغنى .

ويعقب هنا عدة إيقاعات عنيفة كأنما هي مطارق متوالية يدعوهم في أول إيقاع منها إلى أن يقوموا لله متجردين ثم يتفكروا غير متأثرين بالحواجز التي تمنعهم من الهدى ومن النظر الصحيح وفي الإيقاع الثاني يدعوهم إلى التفكير في حقيقة البواعث التي تجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يلاحقهم بالدعوة وليس له من وراء ذلك نفع ولا هو يطلب على ذلك أجرا فما لهم يتشككون في دعوته ويعرضون ؟

وتوالت الآيات تبدأ بلفظ قل . . . وكل منها يهز القلب هزا ، فمحمد لم يسألهم أجرا بل أجره على الله ومحمد صلى الله عليه وسلم مؤيد بالحق والحق غالب والباطل مغلوب .

ثم تلطف في وعظهم فذكر محمد صلى الله عليه وسلم إن ضل فضلاله إنما يعود عليه وحده ، وإن اهتدى فيهدي الله له ثم بين سوء حالهم إذا فزعوا يوم القيامة إلى ربهم فلا يكون لهم فوت منه ولا مهرب وذكر أنهم يؤمنون به في ذلك الوقت فلا ينفعهم إيمانهم وتختم السورة بمشهد هؤلاء الكفار وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان في غير موعده والإفلات من العذاب والنجاة من أهوال القيامة كما فعل بأشباههم من كفرة الأمم التي قبلهم إنهم كانوا في شك موضع في الارتياب . وهكذا تختم السورة بمشهد يثبت قضية البعث والجزاء وهي القضية التي ظهرت خلال السورة من بدايتها قال تعالى : وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب . ( سبأ : 45 ) .

سورة سبأ

سورة مكية وعدد آياتها 54 آية وسميت بهذا الاسم لورود قصة سبأ بها

أهم مقاصد سورة سبأ :

1- تمجيد الله والثناء عليه وتخصيصه بالحمد في الآخرة .

2- إثبات أمر قيام الساعة .

3- قصة داود أو جانب منها .

4- قصة سليمان أو جانب منها .

5- قصة سبأ وعاقبة كفرهم .

6- مشاهد القيامة .

7- عاقبة المترفين والكافرين .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير( 1 ) يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور( 2 ) }

المفردات :

الحمد لله : الحمد هو الثناء على الله بما هو أهله أو الثناء على الله بجميل صفاته وأفعاله .

الحكيم : الذي أحكم أمر الدارين ودبره بمقتضى الحكمة .

الخبير : الذي يعلم بواطن الأمور .

1

التفسير :

{ الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير } .

الشكر والثناء على الله تعالى خالق الكون بديع السموات والأرض وله ما فيهما خلقا وإيجادا وعناية ورعاية له ما في السموات من الملائكة والأبراج والشموس والأقمار والنجوم وغير ذلك ، وله ما في الأرض من الإنسان والحيوان والنباتات والبحار وغير ذلك وله الحمد في الدنيا حيث خلق ورزق ويسر ونظم وأبدع وأنزل الكتب وأرسل الرسل وله الحمد في الآخرة حيث يتم الحساب والميزان والصراط وتوزيع الكتب ومكافأة العاملين المخلصين ومعاقبة الكافرين المفسدين فمكافأة العاملين نعمة ، ومعاقبة الظالمين نعمة ، لتحقيق العدل وحسن الجزاء : { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد } . ( فصلت : 46 ) .

{ وهو الحكيم } الذي أتقن كل شيء صنعا وأحسن كل كائن خلقا وإبداعا .

{ الخبير } المطلع على بواطن الأمور المحيط بكل شيء علما .