في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (207)

204

. . . ذلك نموذج من الناس . يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس :

( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله . والله رؤوف بالعباد ) . .

ويشري هنا معناها يبيع . فهو يبيع نفسه كلها لله ؛ ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية ، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله . ليس له فيها شيء ، وليس له من ورائها شيء . بيعة كاملة لا تردد فها ولا تلفت ولا تحصيل ثمن ، ولا استبقاء بقية لغير الله . . والتعبير يحتمل معنى آخر يؤدي إلى نفس الغاية . .

يحتمل أن يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا ، ليعتقها ويقدمها خالصة لله ، لا يتعلق بها حق آخر إلا حق مولاه . فهو يضحي كل أعراض الحياة الدنيا ويخلص بنفسه مجردة لله . وقد ذكرت الروايات سببا لنزول هذه الآية يتفق مع هذا التأويل الأخير :

قال ابن كثير في التفسير : قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة : نزلت في صهيب بن سنان الرومي . وذلك أنه لما أسلم بمكة ، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر لماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل ؛ فتخلص منهم ، وأعطاهم ماله ؛ فأنزل الله فيه هذه الآية ؛ فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة ، فقالوا له : ربح البيع . فقال : وأنتم . فلا أخسر الله تجارتكم . وما ذاك ؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية . . ويروى أن رسول الله [ ص ] قال له : " ربح البيع صهيب " . . قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن مردويه ، حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبي ، حدثنا عوف ، عن أبي عثمان النهدي ، عن صهيب ، قال : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي [ ص ] قالت لي قريش : يا صهيب . قدمت إلينا ولا مال لك ؛ وتخرج أنت ومالك ؟ والله لا يكون ذلك أبدا . فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني ؟ قالوا : نعم ! فدفعت إليهم مالي ، فخلوا عني ، فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي [ ص ] فقال " : ربح صهيب . . ربح صهيب " . . مرتين . .

وسواء كانت الآية نزلت في هذا الحادث ، أو أنها كانت تنطبق عليه ، فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد . وهي ترسم صورة نفس ، وتحدد ملامح نموذج من الناس ؛ ترى نظائره في البشرية هنا وهناك

والصورة الأولى تنطبق على كل منافق مراء ذلق اللسان ؛ فظ القلب ، شرير الطبع ، شديد الخصومة ، مفسود الفطرة . . والصورة الثانية تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان ، متجرد لله ، مرخص لأعراض الحياة . . وهذا وذلك نموذجان معهودان في الناس ؛ ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز ؛ وتقيمهما أمام الأنظار يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن ، ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان . ويتعلم منهما الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول ، وطلاوة الدهان ؛ وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة ، والنبرة المتصنعة ، والنفاق والرياء والزواق ! كما يتعلمون منهما كيف تكون القيم في ميزان الإيمان .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (207)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }

يعني جل ثناؤه : ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله : إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ بأنّ لَهُمُ الجَنّةَ وقد دللنا على أن معنى شرى باع في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته .

وأما قوله : ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فإنه يعني أن هذا الشاري يشري إذا اشترى طلب مرضاة الله . ونصب «ابتغاء » بقوله «يشري » ، فكأنه قال : ومن الناس من يشري من أجل ابتغاء مرضاة الله ، ثم ترك «من أجل » وعمل فيه الفعل . وقد زعم بعض أهل العربية أنه نصب ذلك على الفعل على يشري كأنه قال : لابتغاء مرضاة الله ، فلما نزع اللام عمل الفعل . قال : ومثله : حَذَر المَوتِ وقال الشاعر وهو حاتم :

وأغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَريم ادّخارَهُ *** وأُعْرضُ عَنْ قَوْل اللّئِيم تَكَرّما

وقال : لما أذهب اللام أعمل فيه الفعل .

وقال بعضهم : أيما مصدر وضع موضع الشرط وموضع «أن » فتحسن فيها الباء واللام ، فتقول : أتيتك من خوف الشرّ ، ولخوف الشرّ ، وبأن خفت الشرّ فالصفة غير معلومة ، فحذفت وأقيم المصدر مُقامها . قال : ولو كانت الصفة حرفا واحدا بعينه لم يجز حذفها كما غير جائز لمن قال : فعلت هذا لك ولفلان ، أن يسقط اللام .

ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه ومن عنى بها ، فقال بعضهم : نزلت في المهاجرين والأنصار ، وعنى بها المجاهدون في سبيل الله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ قال : المهاجرون والأنصار .

وقال بعضهم : نزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ قال : نزلت في صهيب بن سنان وأبي ذرّ الغفاريّ جندب بن السكن أخذ أهل أبي ذرّ أبا ذرّ ، فانفلت منهم ، فقدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما رجع مهاجرا عرضوا له ، وكانوا بمر الظهران ، فانفلت أيضا حتى قدم على النبيّ عليه الصلاة والسلام . وأما صهيب فأخذه أهله ، فافتدى منهم بماله ، ثم خرج مهاجرا فأدركه منقذ بن عمير بن جدعان ، فخرج له مما بقي من ماله ، وخلى سبيله .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ الآية ، قال : كان رجل من أهل مكة أسلم ، فأراد أن يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم ويهاجر إلى المدينة ، فمنعوه وحبسوه ، فقال لهم : أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء فخلوا عنى فألحق بهذا الرجل فأبوا . ثم إن بعضهم قال لهم : خذوا منه ما كان له من شيء وخلوا عنه ففعلوا ، فأعطاهم داره وماله ، ثم خرج فأنزل الله عز وجل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ الآية فلما دنا من المدينة تلقاه عمر في رجال ، فقال له عمر : ربح البيع ، قال : وبيعك فلا يخسر ، قال : وما ذاك ؟ قال : أنزل فيك كذا وكذا .

وقال آخرون : بل عنى بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهاد في سبيله أو أمر بمعروف . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا حسين بن الحسن أبو عبد الله ، قال : حدثنا أبو عون ، عن محمد ، قال : حمل هشام بن عامر على الصفّ حتى خرقه ، فقالوا : ألقى بيده ، فقال أبو هريرة : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن قيس بن أبي حازم ، عن المغيرة ، قال : بعث عمر جيشا فحاصروا أهل حصن ، وتقدم رجل من بجيلة ، فقاتل ، فقتل ، فأكثر الناس فيه يقولون : ألقى بيده إلى التهلكة . قال : فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : كذبوا ، أليس الله عز وجل يقول : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ واللّه رَءُوفٌ بالعِبادِ ؟ .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا هشام ، عن قتادة ، قال : حمل هشام بن عامر على الصفّ حتى شقه ، فقال أبو هريرة : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ .

حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا حزام بن أبي حزم ، قال : سمعت الحسن قرأ : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَءُوفٌ بالعِبادِ أتدرون فيم أنزلت ؟ نزلت في أن المسلم لقي الكافر فقال له : قل لا إله إلا الله ، فإذا قلتها عصمت دمك ومالك إلا بحقهما . فأبى أن يقولها ، فقال المسلم : والله لأشرينّ نفسي لله . فتقدّم فقاتل حتى قتل .

حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زياد بن أبي مسلم ، عن أبي الخليل ، قال : سمع عمر إنسانا قرأ هذه الآية : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ الله قال : استرجع عمر فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل .

والذي هو أولى بظاهر هذه الآية من التأويل ، ما روي عن عمر بن الخطاب وعن عليّ بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم ، من أن يكون عنى بها الاَمر بالمعروف والناهي عن المنكر . وذلك أن الله جل ثناؤه وصف صفة فريقين : أحدهما منافق يقول بلسانه خلاف ما في نفسه وإذا اقتدر على معصية الله ركبها وإذا لم يقتدر رامها وإذا نهي أخذته العزّة بالإثم بما هو به آثم ، والاَخر منهما بائع نفسه طالب من الله رضا الله . فكان الظاهر من التأويل أن الفريق الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه ، إنما شراها للوثوب بالفريق الفاجر طلب رضا الله . فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية .

وأما ما رُوي من نزول الآية في أمر صهيب ، فإن ذلك غير مستنكر ، إذ كان غير مدفوع جواز نزول آية من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب ، والمعنّي بها كل من شمله ظاهرها .

فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عز ذكره وصف شاريا نفسه ابتغاء مرضاته ، فكل من باع نفسه في طاعته حتى قتل فيها أو استقتل وإن لم يقتل ، فمعنيّ بقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ، في جهاد عدوّ المسلمين كان ذلك منه أو في أمر بمعروف أو نهي عن منكر .

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ رَءُوفٌ بالعِباد .

قد دللنا فيما مضى على معنى الرأفة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وأنها رقة الرحمة فمعنى ذلك : والله ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له في جهاد من حادّه في أمره من أهل الشرك والفسوق وبغيره من عباده المؤمنين في عاجلهم وآجل معادهم ، فينجز لهم الثواب على ما أبلوا في طاعته في الدنيا ، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من مرضاته .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (207)

هذا قسيم { ومن الناس من يعجبك قوله } [ البقرة : 204 ] وذكره هنا بمنزلة الاستطراد استيعاباً لقسمي الناس ، فهذا القسم هو الذي تمحض فعله للخير حتى بلغ غاية ذلك وهو تعريض نفسه التي هي أنفس الأشياء عليه للهلاك لأجل تحصيل ما يرضي الله تعالى وإنما رضا الله تعالى بفعل الناس للخير الذي أمرهم به .

و ( يشري ) معناه يبيع كما أن يشتري بمعنى يبتاع وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } [ البقرة : 41 ] . واستعمل ( يشري ) هنا في البذل مجازاً ، والمعنى ومن الناس من يبذل نفسه للهلاك ابتغاء مرضاة الله أي هلاكاً في نصر الدين وهذا أعلى درجات الإيمان ، لأن النفس أغلى ما عند الإنسان .

و { مرضاة الله } رضاه فهو مصدر رَضيَ على وزن المفعل زيدت فيه التاء سماعاً كالمَدْعاة والمَسْعاة ، في أسباب النزول قال سعيد بن المسيب نزلت في صهيب بن سنان النَّمرَى بن النمر بن قاسط الملقب بالرومي ؛ لأنه كان أسَرَه الرومُ في الجاهلية في جهات الموصل واشتراه بنو كلب فكان مولاهم وأثرى في الجاهلية بمكة وكان من المسلمين الأولين فلما هاجر النبي خرج صهيب مهاجراً فلحق به نفر من قريش ليوثقوه فنزل عن راحلته وانتثل كنانته وكان رامياً وقال لهم لقد علمتم أني من أرماكم وأَيْمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيءٌ فقالوا : لا نتركك تخرج من عندنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً ، ولكن دلنا على مالك وتخلي عنك وعاهدوه على ذلك فدلهم على ماله ، فلما قدم على النبي قال له حين رآه رَبِحَ البيعُ أيا يحْيى وتلا عليه هذه الآية ، وقيل إن كفار مكة عذَّبوا صهيباً لإسلامه فافتدى منهم بماله وخرج مهاجراً ، وقيل : غير ذلك ، والأظهر أنها عامة ، وأن صهيباً أو غيره ملاحظ في أول من تشمله .

وقوله { والله رؤوف بالعباد } تذييل أي رؤوف بالعباد الصالحين الذين منهم من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، فالرأفة كناية عن لازمها وهو إيتاء الخيرات كالرحمة .

والظاهر أن التعريف في قوله ( العباد ) تعريف استغراق ، لأن الله رؤوف بجميع عباده وهم متفاوتون فيها فمنهم من تناله رأفة الله في الدنيا وفي الآخرة على تفاوت فيهما يقتضيه علم الله وحكمته ، ومنهم من تناله رأفة الله في الدنيا دون الآخرة وهم المشركون والكافرون ؛ فإن من رأفته بهم أنه أعطاهم العافية والرِّزق ، ويجوز أن يكون التعريف تعريف العهد أي بالعباد الذين من هذا القبيل أي قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله .

ويجوز أن يكون ( أَلْ ) عوضاً عن المضاف إليه كقوله { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] ، والعباد إذا أضيف إلى اسم الجلالة يراد به عباد مقربون قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } في [ سورة الحجر : 42 ] .

ومناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده فإن كان مَا صْدَق ( مَنْ ) عاماً كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله ، فالمعنى والله رءوف بهم فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليكون هذا التذييل بمنزلة المثل مستقلاً بنفسه وهو من لوازم التذييل ، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عباداً له ، وإن كان ما صْدَق ( مَنْ ) صهيباً رضي الله عنه فالمعنى والله رءوف بالعباد الذين صهيب منهم ، والجملة تذييل على كل حال ، والمناسبة أن صهيباً كان عبداً للروم ثم لطائفة من قريش وهم بنو كلب وهم لم يرأفوا به ، لأنه عذب في الله فلما صار عبد الله رأف به .

وفي هذه الآية وهي قوله : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } [ البقرة : 204 ] إلى قوله { رؤوف بالعباد } معان من معاني أدب النفوس ومراتبها وأخلاقها تعلِّم المؤمنين واجب التوسم في الحقائق ودواخل الأمور وعدم الاغترار بالظواهر إلاّ بعد التجربة والامتحان ، فإن من الناس من يغُر بحسن ظاهره وهو منطو على باطن سوء ويعطي من لسانه حلاوة تعبير وهو يضمر الشر والكيد قال المعري :

وقد يُخْلِفُ الإنسانُ ظَنَّ عَشِيرةٍ *** وإن رَاقَ منه مَنْظَرٌ ورُوَاء

وقد شمل هذا الحالَ قول النبي صلى الله عليه وسلم « إن من البيان لسحرا » بأحد معنييه المحتوي عليهما وهو من جوامع الكَلِم وتبلغ هلهلة دينه إلى حد أن يُشهد الله على أن ما يقوله صدق وهو بعكس ذلك يبيت في نفسه الخصام والكراهية .

وعلامة الباطن تكون في تصرفات المرء فالذي يحب الفساد ويهلك الحرث والنسل ولا يكون صاحب ضمير طيب ، وأن الذي لا يصغي إلى دعوة الحق إذا دعوته إليه ويظهر عليه الاعتزاز بالظلم لا يرعوي عن غيه ولا يترك أخلاقه الذميمة ، والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبىء خلقه عن إيثار الحق والخير على الباطل والفساد ومن لا يرأف فالله لا يرأف به .