هذا هو الكتاب في ذاته . وقد أورثه الله لهذه الأمة المسلمة ، اصطفاها لهذه الوراثة ، كما يقول هنا في كتابه :
( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) . .
وهي كلمات جديرة بأن توحي لهذه الأمة بكرامتها على الله ؛ كما توحي إليها بضخامة التبعة الناشئة عن هذا الاصطفاء وعن تلك الوراثة . وهي تبعة ضخمة ذات تكاليف ، فهل تسمع الأمة المصطفاة وتستجيب ?
إن الله سبحانه قد أكرم هذه الأمة بالاصطفاء للوراثة ؛ ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن أساء :
( فمنهم ظالم لنفسه . ومنهم مقتصد . ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) . .
فالفريق الأول - ولعله ذكر أولاً لأنه الأكثر عدداً - ( ظالم لنفسه )تربى سيئاته في العمل على حسناته . والفريق الثاني وسط( مقتصد )تتعادل سيئاته وحسناته . والفريق الثالث ( سابق بالخيرات بإذن الله ) ، تربى حسناته على سيئاته . . ولكن فضل الله شمل الثلاثة جميعاً . فكلهم انتهى إلى الجنة وإلى النعيم الموصوف في الآيات التالية . على تفاوت في الدرجات .
ولا ندخل هنا في تفصيل أكثر مما أراد القرآن عرضه في هذا الموضع من كرامة هذه الأمة باصطفائها ، وكرم الله سبحانه في جزائها . فهذا هو الظل الذي تلقيه النصوص هنا ، وهي النهاية التي تنتهي إليها هذه الأمة جيمعاً - بفضل الله - ونطوي ما قد يسبق هذه النهاية من جزاء مقدر في علم الله .
نطوي هذا الجزاء المبدئي لنخلص إلى ما قدره الله لهذه الأمة بصنوفها الثلاثة من حسن الجزاء :
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } .
اختلف أهل التأويل في معنى الكتاب الذي ذكر الله في هذه الاَية أنه أورثه الذين اصطفاهم من عباده ، ومن المصطفون من عباده ، والظالم لنفسه ، فقال بعضهم : الكتاب : هو الكتب التي أنزلها الله من قبل الفُرقان ، والمصطفون من عباده : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والظالم لنفسه : أهل الإجرام منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ . . . إلى قوله : الفَضْلُ الكَبِيرُ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورّثهم الله كل كتاب أنزله ، فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس ، عن عبد الله بن عيسى ، عن يزيد بن الحارث ، عن شقيق ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة : ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام ، حتى يقول : ما هؤلاء ؟ وهو أعلم تبارك وتعالى ، فتقول الملائكة : هؤلاء جاؤوا بذنوب عظام إلاّ أنهم لم يُشركوا بك ، فيقول الربّ : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي . وتلا عبد الله هذه الاَية : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا عون ، قال : حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل ، قال : حدثنا كعب الأحبار أن الظالم لنفسه من هذه الأمة ، والمقتصد ، والسابق بالخيرات : كلهم في الجنة ألم تر أن الله قال : ثُمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا . . . إلى قوله : كُلّ كَفُورٍ .
حدثني عليّ بن سعيد الكندي ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عوف ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، قال : سمعت كعبا يقول : فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ بإذْنِ اللّهِ قال : كلهم في الجنة ، وتلا هذه الاَية : جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، عن عوف بن أبي جبلة ، قال : حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل ، قال : حدثنا كعب أن الظالم من هذه الأمة ، والمقتصد ، والسابق بالخيرات ، كلهم في الجنة ألم تر أن الله قال : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا . . . إلى قوله : لُغُوبِ والذين كفروا لهم نار جهنم ، قال : قال كعب : فهؤلاء أهل النار .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عوف ، قال : سمعت عبد الله بن الحارث يقول : قال كعب : إن الظالم لنفسه ، والمقتصد ، والسابق بالخيرات من هذه الأمة : كلهم في الجنة ، ألم تر أن الله يقول : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا . . . حتى بلغ قوله : جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا حميد ، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه ، أن ابن عباس سأل كعبا عن قوله تعالى : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا . . . إلى قوله : بإذْنِ اللّهِ فقال : تماست مناكبهم ورب الكعبة ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس ، عن أبي إسحاق السبيعي ، في هذه الاَية : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا قال : قال أبو إسحاق : أما ما سمعت منذ ستين سنة ، فكلهم ناج .
قال : ثنا عمرو ، عن محمد بن الحنفية ، قال : إنها أمة مرحومة الظالم مغفور له ، والمقتصد في الجنات عند الله ، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله .
وقال آخرون : الكتاب الذي أورث هؤلاء القوم ، هو شهادة أن لا إله إلاّ الله والمصطفون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم والظالم لنفسه منهم هو المنافق ، وهو في النار والمقتصد ، والسابق بالخيرات في الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي ، قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن حسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة ، عن عبد الله فَمِنهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ قال : اثنان في الجنة ، وواحد في النار .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ثُمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا . . . إلى آخر الاَية ، قال : جعل أهل الإيمان على ثلاثة منازل ، كقوله : أصحَابُ الشّمالِ ما أصحَابُ الشّمال وأصحَابُ اليَمِينِ ما أصحَابُ اليَمِينِ والسّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرّبُونَ فهم على هذا المثال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ . . . الاَية ، قال : الاثنان في الجنة ، وواحد في النار ، وهي بمنزلة التي في الواقعة : وأصحَابُ اليَمِينِ ما أصحَابُ اليَمِينِ وأصحَابُ الشّمالِ ما أصحَابُ الشّمالِ والسّابِقونَ السّابِقُونَ .
حدثنا سهل بن موسى ، قال : حدثنا عبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قال : هم أصحاب المشأمة وَمِنْهُم مُقْتَصِدٌ قال : هم أصحاب الميمنة وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْراتِ قال : هم السابقون من الناس كلهم .
حدثنا الحسن بن عرفة قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : قال عوف ، قال الحسن : أما الظالم لنفسه فإنه هو المنافق ، سقط هذا . وأما المقتصد والسابق بالخيرات ، فهما صاحبا الجنة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عوف ، قال : قال الحسن : الظالم لنفسه : المنافق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا شهادة أن لا إله إلاّ الله فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ هذا المنافق في قول قتادة والحسن وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ قال : هذا صاحب اليمين وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ قال : هذا المقرّب . قال قتادة : كان الناس ثلاث منازل في الدنيا ، وثلاث منازل عند الموت ، وثلاث منازل في الاَخرة . أما الدنيا ، فكانوا : مؤمن ، ومنافق ، ومشرك . وأما عند الموت ، فإن الله قال : فأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرّبِينَ فَرْوحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنّةُ نَعِيمٍ وأمّا إنْ كانَ مِنْ أصحَابِ اليَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أصحَابِ اليَمينِ وأمّا إنْ كانَ مِنَ المُكَذّبِينَ الضّالّينَ فَنُزُلٌ منْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ . وأما في الاَخرة فكانوا أزواجا ثلاثة ، وأصحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ وأصحَابُ المَشأمَةِ ما أصحَابُ المَشْأَمَةِ والسّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرّبُونَ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ثُمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قال : هم أصحاب المشأمة وَمِنْهُمْ مُقْتَصِد قال : أصحاب الميمنة ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ قال : فهم السابقون من الناس كلهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ثُمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قال : سقط هذا وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ بإذْنِ اللّهِ قال : سبق هذا بالخيرات ، وهذا مقتصد على أثره .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب تأويل من قال : عنى بقوله : ثُمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الكتب التي أُنزلت من قبل الفرقان .
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتلون غير كتابهم ، ولا يعملون إلاّ بما فيه من الأحكام والشرائع ؟ قيل : إن معنى ذلك على غير الذي ذهبت إليه ، وإنما معناه : ثم أورثنا الإيمان بالكتاب الذين اصطفينا ، فمنهم مؤمنون بكلّ كتاب أنزله الله من السماء قبل كتابهم وعاملون به ، لأن كل كتاب أنزل من السماء قبل الفرقان ، فإنه يأمر بالعمل بالفرقان عند نزوله ، وباتباع من جاء به ، وذلك عمل من أقرّ بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به ، وعمل بما دعاه إليه بما في القرآن ، وبما في غيره من الكتب التي أنزلت قبله .
وإنما قيل : عنى بقوله ثُمّ أوْرَثْنا الكتابَ الكتب التي ذكرنا لأن الله جلّ ثناؤه قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وَالّذِي أوْحَيْنَا إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الحَقّ مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثم أتبع ذلك قوله ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا فكان معلوما ، إذ كان معنى الميراث إنما هو انتقال معنى من قوم إلى آخرين ، ولم تكن أمة على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم انتقل إليهم كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته ، أن ذلك معناه . وإذ كان ذلك كذلك ، فبيّنٌ أن المصطفين من عباده هم مؤمنو أمته وأما الظالم لنفسه ، فإنه لأن يكون من أهل الذنوب والمعاصي التي هي دون النفاق والشرك عندي أشبه بمعنى الاَية من أن يكون المنافق أو الكافر ، وذلك أن الله تعالى ذكره أتبع هذه الاَية قوله : جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها فعمّ بدخول الجنة جميع الأصناف الثلاثة .
فإن قال قائل : فإن قوله يَدْخُلُونَها إنما عنى به المقتصد والسابق ، قيل له : وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل ؟ فإن قال : قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار ، ولو لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد وجب أن لا يكون لأهل الإيمان وعيد ، قيل : إنه ليس في الاَية خبر أنهم لا يدخلون النار ، وإنما فيها إخبار من الله تعالى ذكره أنهم يدخلون جنات عَدْن ، وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التي أصابها في الدنيا ، وظلمه نفسه فيها بالنار ، أو بما شاء من عقابه ، ثم يُدخله الجنة ، فيكون ممن عمه خبر الله جلّ ثناؤه بقوله جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخَلُونَها .
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك أخبارٌ ، وإن كان في أسانيدها نظر ، مع دليل الكتاب على صحته على النحو الذي بيّنت . ذكر الرواية الواردة بذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان عن الأعمش ، قال : ذكر أبو ثابت أنه دخل المسجد ، فجلس إلى جنب أبي الدرداء ، فقال : اللهمّ آنس وحشتي ، وارحم غُرْبتي ، ويسّر لي جليسا صالحا ، فقال أبو الدرداء : لئن كنت صادقا لأنا أسعد به منك سأحدّثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحدّث به منذ سمعته ذَكَرَ هذه الاَية : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ فأما السابق بالخيرات ، فيدخلها بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغمّ والحزن ، فذلك قوله : الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أذْهَبَ عَنّا الحَزَنَ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة عن الوليد بن المغيرة ، أنه سمع رجلاً من ثقيف حدّث عن رجل من كنانة ، عن أبي سعيد الخدريّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الاَية : ثُمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ بإذْنِ الله قال : «هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة ، وكلهم في الجنة » .
وعنى بقوله : الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا : الذين اخترناهم لطاعتنا واجتبيناهم . وقوله : فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ يقول : فمن هؤلاء الذين اصطفينا من عبادنا ، من يظلم نفسه بركوبه المآثم ، واجترامه المعاصي ، واقترافه الفواحش وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وهو غير المبالغ في طاعة ربه ، وغير المجتهد فيما ألزمه من خدمة ربه ، حتى يكون عمله في ذلك قصدا وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ وهو المبرز الذي قد تقدّم المجتهدين في خدمة ربه ، وأداء ما لزمه من فرائضه ، فسبقهم بصالح الأعمال ، وهي الخيرات التي قال الله جلّ ثناؤه بِإذْنِ اللّهِ يقول : بتوفيق الله إياه لذلك .
وقوله : ذَلكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ يقول تعالى ذكره : سبوق هذا السابق من سبقه بالخيرات بإذن الله ، وهو الفضل الكبير الذي فضل به من كان مقصّرا عن منزلته في طاعة الله من المقتصد والظالم لنفسه .
{ أورثنا } معناه أعطيناه فرقة بعد موت فرق ، والميراث حقيقة أو مجازاً إنما يقال فيما صار لإنسان بعد موت آخر ، و { الكتاب } هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده ، فكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن وهو قد تضمن لمعاني الكتب المنزلة ، قبله ، فكأنه ورث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها ، و { الذين اصطفينا } يريد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وغيره ، وكأن اللفظ يحتمل أن يريد به جميع المؤمنين من كل أمة إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والأول لم يورثوه ، و { اصطفينا } معناه اخترنا وفضلنا ، و «العباد » عام في جميع العالم ، مؤمنهم وكافرهم ، واختلف الناس في عود الضمير من قوله { فمنهم } فقال ابن عباس وابن مسعود ما مقتضاه إن الضمير عائد على { الذين } والأصناف الثلاثة هي كلها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ف «الظالم لنفسه » العاصي المسرف ، و «المقتصد » متقي الكبائر والجمهور من الأمة ، و «السابق » المتقي على الإطلاق ، وقالت هذه الفرقة والأصناف الثلاثة في الجنة وقاله أبو سعيد الخدري .
{ ثمّ } للترتيب الرتبي كما هو شأنها في عطفها الجمل فهي هنا لعطف الجمل عطفاً ذكرياً ، فالمتعاطفات بها بمنزلة المستأنفات ، فهذه الجملة كالمستأنفة ، و { ثم } للترقي في الاستئناف . وهذا ارتقاء في التنويه بالقرآن المتضمن التنويه بالرسول صلى الله عليه وسلم وعروج في مسرّته وتبشيره ، فبعد أن ذُكِّر بفضيلة كتابه وهو أمر قد تقرر لديه زيد تبشيراً بدوام كتابه وإيتائه أمة هم المصطَفون من عباد الله تعالى ، وتبشيره بأنهم يعملون به ولا يتركونه كما ترك أمم من قبله كتبهم ورسلهم ، لقوله : { فمنهم ظالم لنفسه } الآية ، فهذه البشارة أهم عند النبي صلى الله عليه وسلم من الإخبار بأن القرآن حق مصدق لما بين يديه ، لأن هذه البشارة لم تكن معلومة عنده فوقعها أهمّ .
وحمل الزمخشري { ثم } هنا على التراخي الزمني فاحتاج إلى تكلف في إقامة المعنى .
والمراد ب { الكتاب } الكتاب المعهود وهو الذي سبق ذكره في قوله : { والذي أوحينا إليك من الكتاب } [ فاطر : 31 ] أي القرآن .
و { أورثنا } جعلنا وارثِين . يقال : ورث ، إذا صار إليه مال ميت قريب . ويستعمل بمعنى الكسب عن غير اكتساب ولا عوض ، فيكون معناه : جعلناهم آخذين الكتاب منا ، أو نَجعَل الإِيراث مستعملاً في الأمر بالتلقي ، أي أمرنا المسلمين بأن يرثوا القرآن ، أي يتلقوه من الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى الاحتمالين ففي الإِيراث معنى الإِعطاء فيكون فعل { أورثنا } حقيقاً بأن ينصب مفعولين . وكان مقتضى الظاهر أن يكون أحد المفعولين الذي هو الآخذُ في المعنى هو المفعولَ الأول والآخر ثانياً ، وإنما خولف هنا فقُدِّم المفعول الثاني لأمْننِ اللبس قصداً للاهتمام بالكتاب المعطى . وأما التنويه بآخذي الكتاب فقد حصل من الصلة .
والمراد بالذين اصطفاهم الله : المؤمنون كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } إلى قوله : { هو اجتباكم } [ الحج : 77 ، 78 ] . وقد اختار الله للإِيمان والإِسلام أفضل أمة من الناس ، وقد رويت أحاديث كثيرة تؤيد هذا المعنى في مسند أحمد بن حنبل وغيره ذكرها ابن كثير في « تفسيره » .
ولما أريد تعميم البشارة مع بيان أنهم مراتب فيما بُشروا به جيء بالتفريع في قوله : { فمنهم ظالم لنفسه } إلى آخره ، فهو تفصيل لمراتب المصطفَيْن لتشمل البشارة جميع أصنافهم ولا يظن أن الظالم لنفسه محروم منها ، فمناط الاصطفاء هو الإِيمان والإِسلام وهو الانقياد بالقول والاستسلام .
وقدم في التفصيل ذكر الظالم لنفسه لدفع توهم حرمانه من الجنة وتعجيلاً لمسرَّته .
والفاء في قوله : { فمنهم ظالم لنفسه } الخ تفصيل لأحوال الذين أورثوا الكتاب أي أعطوا القرآن . وضمير « منهم » الأظهر أنه عائد إلى { الذين اصطفينا } ، وذلك قول الحسن وعليه فالظالم لنفسه من المصطفَيْن . وقيل هو عائد إلى { عبادنا } أي ومن عبادنا علمه والإطلاق . وهو قول ابن عباس وعكرمة وقتادة والضحاك ، وعليه فالظالم لنفسه هو الكافر .
ويسري أثر هذا الخلاف في محْمل ضمير { جنات عدن يدخلونها } [ فاطر : 33 ] ولذلك يكون قول الحسن جارياً على وفاق ما روي عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعقبة بن عمرو وما هو مروي عن عائشة وهو الراجح .
والظالمون لأنفسهم هم الذين يجرُّون أنفسهم إلى ارتكاب المعصية فإن معصية المرء ربَّه ظلم لنفسه لأنه يورطها في العقوبة المعينة للمعاصي على تفصيلها وذلك ظلم للنفس لأنه اعتداء عليها إذ قصر بها عن شيء من الخيرات قليل أو كثير ، وورطها فيما تجد جزاء ذميماً عليه . قال تعالى حكاية عن آدم وحواء حين خالفا ما نُهِيا عنه من أكل الشجرة { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] وقال : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 110 ] وقال : { إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم } في سورة النمل ( 11 ) ، وقال : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه إن اللَّه يغفر الذنوب جميعاً } في سورة الزمر ( 53 ) .
واللام في { لنفسه } لام التقوية لأن العامل فرع في العمل إذ هو اسم فاعل .
والمقتصد : هو غير الظالم نفسه كما تقتضيه المقابلة ، فهم الذين اتقوا الكبار ولم يحرموا أنفسهم من الخيرات المأمور بها وقد يلمون باللمم المعفو عنه من الله ، ولم يأتوا بمنتهى القربات الرافعة للدرجات ، فالاقتصاد افتعال من القصد وهو ارتكاب القصد وهو الوسط بين طرفين يبينه المقام ، فلما ذكر هنا في مقابلة الظالم والسابق عُلم أنه مرتكب حالة بين تينك الحالتين فهو ليس بظالم لنفسه وليس بسابق .
والسابق أصله : الواصل إلى غاية معينة قبلَ غيره من الماشين إليها . وهو هنا مجاز لإِحراز الفضل لأن السابق يحرز السَبق ( بفتح الباء ) ، أو مجاز في بذل العناية لنوال رضى الله ، وعلى الاعتبارين في المجاز فهو مكنّى عن الإِكثار من الخير لأن السبْق يستلزم إسراع الخطوات ، والإِسراع إكثار . وفي هذا السبق تفاوت أيضاً كخيل الحلبة .
والخيرات : جمع خير على غير قياس ، والخير : النافع . والمراد بها هنا الطاعات لأنها أعمال صالحة نافعة لعاملها وللناس بآثارها .
والباء للظرفية ، أي في الخيرات كقوله : { يسارعون في الإِثم والعدوان } [ المائدة : 62 ] .
وفي ذكر الخيرات في القسم الآخر دلالة على أنها مرادة في القسمين الأولين فيؤول إلى معنى ظالم لنفسه في الخيرات ومقتصد في الخيرات أيضاً ، ولك أن تجعل معنى { ظالم لنفسه } أنه ناقصها من الخيرات كقوله : { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلِم منه شيئاً أي لم تنقص عن معتادها في الإِثمار } في سورة الكهف ( 33 ) .
والإِذن مستعمل في التيسير على سبيل المجاز ، والباء للسببية متعلقة ب{ سابق } ، وليس المراد به الأمر لأن الله أمر الناس كلهم بفعل الخير سواء منهم من أتى به ومن قصّر به .
ولك أن تجعل الباء للملابسة وتجعلها ظرفاً مستقراً في موضع الحال من { سابق } أي متلبساً بإذن الله ويكون الإِذن مصدراً بمعنى المفعول ، أي سابق ملابس لما أذن الله به ، أي لم يخالفه .
وعلى الوجه الأول هو تنويه بالسابقين بأن سبقهم كان بعون من الله وتيسير منه .
وفيما رأيتَ من تفسير هذه المراتب الثلاث في الآية المأخوذِ من كلام الأيمة ، مع ضميمةٍ لا بد منها . تستغني عن التيه في مهامه أقوال كثيرة في تفسيرها تجاوزت الأربعين قولاً .
والإِشارة في قوله : { ذلك هو الفضل الكبير } إلى الاصطفاء المفهوم من { اصطفينا } أو إلى المذكور من الاصطفاء وإيراث الكتاب .
و { الفضل } : الزيادة في الخير ، و { الكبيرُ } مراد به ذو العظم المعنوي وهو الشرف وهو فضل الخروج من الكفر إلى الإِيمان والإِسلام . وهذا الفضل مراتب في الشرف كما أشار إليه تقسيم أصحابه إلى : ظالم ، ومقتصد ، وسابق . وضمير الفصل لتأكيد القصر الحاصل من تعريف الجزأين ، وهو حقيقي لأن الفضل الكبير منحصر في المشار إليه بذلك لأن كل فضل هو غير كبير إلا ذلك الفضل .
ووجه هذا الانحصار أن هذا الاصطفاء وإيراث الكتاب جمع فضيلة الدنيا وفضل الآخرة قال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] ، وقال : { وعد اللَّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً } [ النور : 55 ] .