ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة ، وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر ، مناديا الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء . ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات :
( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ، وقالوا لإخوانهم - إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى - : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . والله يحيي ويميت . والله بما تعملون بصير . ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ) . .
وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة ، أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة ، والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام ؛ ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات . . وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد ، مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم ، واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة - نتيجة لخروجهم - ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة . ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات ، ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه .
إن قول الكافرين : ( لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) . . ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها ، للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها : سراؤها وضراؤها . . إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله ، متعرف إلى مشيئة الله ، مطمئن إلى قدر الله . إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه . ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع ، ولا يتلقى السراء بالزهو ، ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك ؛ ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا ، أو ليستجلب كذا ، بعد وقوع الأمر وانتهائه ! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة ، كله قبل الإقدام والحركة ؛ فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير - في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج ، فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم ؛ موقنا أنه وقع وفقا لقدر الله وتدبيره وحكمته ؛ وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع ؛ ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله ! . . توازن بين العمل والتسليم ، وبين الإيجابية والتوكل ، يستقيم عليه الخطو ، ويستريح عليه الضمير . . فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة ، فهو أبدا مستطار ، أبدا في قلق ! أبدا في " لو " و " لولا " و " يا ليت " و " وا أسفاه " !
والله - في تربيته للجماعة المسلمة ، وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها - يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا . أولئك الذين تصيبهم الحسرات ، كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق ، أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد :
( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) . .
يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون ، ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري . فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية ، بسبب انقطاعهم عن الله ، وعن قدره الجاري في الحياة .
( ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ) . .
فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا ، أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا . . إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل ، يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج ! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل ، ونداء المضجع ، وقدر الله ، وسنته في الموت والحياة ، ما تحسروا . ولتلقوا الابتلاء صابرين ، ولفاءوا إلى الله راضين :
فبيده إعطاء الحياة ، وبيده استرداد ما أعطى ، في الموعد المضروب والأجل المرسوم ، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم ، أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة . وعنده الجزاء ، وعنده العروض ، عن خبرة وعن علم وعن بصر :
{ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزّى لّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، وأقرّوا بما جاء به محمد من عند الله ، لا تكونوا كمن كفر بالله وبرسوله ، فجحد نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال لإخوانه من أهل الكفر { إذا ضَرَبُوا في الأَرْضِ } فخرجوا من بلادهم سفرا في تجارة ، { أو كَانُوا غُزّى } يقول : أو كان خروجهم من بلادهم غزاة ، فهلكوا فماتوا في سفرهم ، أو قتلوا في غزوهم ، { لو كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وما قُتِلُوا } يخبر بذلك عن قول هؤلاء الكفار ، أنهم يقولون لمن غزا منهم فقتل أو مات في سفر خرج فيه في طاعة الله أو تجارة : لو لم يكونوا خرجوا من عندنا ، وكانوا أقاموا في بلادهم ما ماتوا وما قتلوا . { لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً في قُلُوبِهِمْ } يعني : أنهم يقولون ذلك ، كي يجعل الله قولهم ذلك حزنا في قلوبهم وغمّا ، ويجهلون أن ذلك إلى الله جلّ ثناؤه وبيده . وقد قيل : إن الذين نهى الله المؤمنين بهذه الاَية أن يتشبهوا بهم فيما نهاهم عنه من سوء اليقين بالله ، هم عبد الله بن أبيّ ابن سَلُول وأصحابه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُو لا تَكُونُوا كالّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لإخْوَانِهِمْ } . . . الاَية . قال : هؤلاء المنافقون أصحاب عبد الله بن أبيّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { وَقالُوا لإخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أوْ كانُوا غُزّى } قول المنافق عبد الله بن أبيّ ابن سَلُول .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون في ذلك : هم جميع المنافقين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد . قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { يا أيها الّذِينَ آمَنوا لا تَكُونُوا كالّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لإِخْوَانِهِمْ } . . . الاَية : أي لا تكونوا كالمنافقين الذي ينهون إخوانهم عن الجهاد في سبيل الله ، والضرب في الأرض في طاعة الله ، وطاعة رسوله ، ويقولون إذا ماتوا أو قتلوا : لو أطاعونا ما ماتوا ، وما قتلوا .
وأما قوله : { إذَا ضَرَبُوا في الأرْضِ } فإنه اختُلِف في تأويله ، فقال بعضهم : هو السفر في التجارة ، والسير في الأرض لطلب المعيشة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إذَا ضَرَبُوا في الأرضِ } وهي التجارة .
وقال آخرون : بل هو السير في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { إذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ } : الضرب في الأرض في طاعة الله وطاعة رسوله .
وأصل الضرب في الأرض : الإبعاد فيها سيرا . وأما قوله : { أوْ كانُوا غُزّى } فإنه يعني : أو كانوا غُزاة في سبيل الله . والغُزّى : جمع غاز ، جمع على فُعّل كما يجمع شاهد : شُهّد ، وقائل : قُوّل . وقد ينشد بيت رؤبة :
فاليَوْمَ قَدْ نَهْنَهَنِي تَنَهْنُهي *** وأَوْلُ حِلْمٍ لَيْسَ بالمُسَفّه
*** وَقُوّلٌ إلاّ دَهٍ فَلا دَهِ***
*** وقولهُمْ إلاّ دَهٍ فَلا دَهِ***
وإنما قيل : { لا تَكُونُوا كالّذِينَ كَفَرُوا وقالُوا لإخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أوْ كانُوا غُزّى } بإصحاب ماضي الفعل الحرف الذي لا يصحب مع الماضي منه إلا المستقبل ، فقيل : وقالوا لإخوانهم ثم قيل : إذا ضربوا . وإنما يقال في الكلام : أكرمتك إذ زرتني ، ولا يقال : أكرمتك إذا زرتني ، لأن القول الذي في قوله : { وَقالُوا لإخْوَانِهِمْ } وإن كان في لفظ الماضي فإنه بمعنى المستقبل ، وذلك أن العرب تذهب بالذين مذهب الجزاء ، وتعاملها في ذلك معاملة «مَنْ » و«ما » ، لتقارب معاني ذلك في كثير من الأشياء ، وإن جمعهن أشياء مجهولات غير مؤقتات توقيت عمرو وزيد . فلما كان ذلك كذلك ، وكان صحيحا في الكلام فصيحا أن يقال للرجال : أكرم من أكرمك ، وأكرم كل رجل أكرمك ، فيكون الكلام خارجا بلفظ الماضي مع مَن وكل مجهول ، ومعناه الاستقبال ، إذ كان الموصوف بالفعل غير موقت ، وكان «الذين » في قوله : { لا تَكُونُوا كالّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لإخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ } غير موقتين ، أجريت مجرى «من » و«ما » في ترجمتها التي تذهب مذهب الجزاء وإخراج صلاتها بألفاظ الماضي من الأفعال وهي بمعنى الاستقبال ، كما قال الشاعر في «ما » :
وإني لاَتِيكُمْ تَشَكّرَ ما مَضَىمن الأمْرِ وَاسْتيجابَ ما كان في غَدِ
فقال : ما كان في غد ، وهو يريد : ما يكون في غد ، ولو كان أراد الماضي لقال : ما كان في أمس ، ولم يجز له أن يقول : ما كان في غد . ولو كان الذي موقتا ، لم يجز أن يقال : ذلك خطأ أن يقال لك : من هذا الذي أكرمك إذا زرته ؟ لأن الذي ههنا موقت ، فقد خرج من معنى الجزاء ، ولو لم يكن في الكلام هذا ، لكان جائزا فصيحا ، لأن الذي يصير حينئذٍ مجهولاً غير موقت ، ومن ذلك قول الله عزّ وجلّ : { إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } فردّ «يصدون » على «كفروا » ، لأن «الذين » غير موقتة ، فقوله : { كَفَرُوا } وإن كان في لفظ ماض ، فمعناه الاستقبال ، وكذلك قوله : { إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعِمل صَالِحا } ، وقوله : { إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } معناه : إلا الذين يتوبون من قبل أن تقدروا عليهم ، وإلا من يتوب ويؤمن ، ونظائر ذلك في القرآن والكلام كثير¹ والعلة في كل ذلك واحدة . وأما قوله : { لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً في قُلُوبِهِمْ } فإنه يعني بذلك : حزنا في قلوبهم . كما :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { فِي قُلُوبِهِمْ } قال : يحزنهم قولهم لا ينفعهم شيئا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } لقلة اليقين بربهم جلّ ثناؤه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهْ يُحْيِي ويُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { واللّهُ يُحْيي ويُمِيتُ } : والله المعجل الموت لمن يشاء من حيث يشاء ، والمميت من يشاء كلما شاء دون غيره من سائر خلقه . وهذا من الله عزّ وجلّ ترغيب لعباده المؤمنين على جهاد عدوّه ، والصبر على قتالهم ، وإخراج هيبتهم من صدورهم ، وإن قلّ عددهم ، وكثر عدد أعدائهم وأعداء الله ، وإعلام منه لهم أن الإماتة والإحياء بيده ، وأنه لن يموت أحد ولا يقتل إلابعد فناء أجله الذي كتب له ، ونهي منه لهم إذ كان كذلك أن يجزعوا لموت من مات منهم أو قتل من قُتل منهم في حرب المشركين . ثم قال جلّ ثناؤه : { وَاللّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ } يقول : إن الله يرى ما تعملون من خير وشرّ ، فاتقوه أيها المؤمنون ، فإنه محص ذلك كله ، حتى يجازي كل عامل بعمله على قدر استحقاقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال ابن إسحاق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَاللّهُ يُحيِي ويُمِيتُ } : أي يعجل ما يشاء ويؤخر ما يشاء من آجالهم بقدرته .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } يعني المنافقين . { وقالوا لإخوانهم } لأجلهم وفيهم ، ومعنى أخوتهم اتفاقهم في النسب أو المذهب { إذا ضربوا في الأرض } إذا سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها ، وكان حقه إذ لقوله قالوا لكنه جاء على حكاية الحال الماضية { أو كانوا غزى } جمع غاز كعاف وعفى . { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } مفعول قالوا وهو يدل على إن إخوانهم لم يكونوا مخاطبين به . { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } متعلق ب{ قالوا } على إن اللام لام العاقبة مثلها في { ليكون لهم عدوا وحزنا } ، أو لا تكونوا أي لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول والاعتقاد ليجعله حسرة في قلوبهم خاصة ، فذلك إشارة إلى ما دل عليه قولهم من الاعتقاد . وقيل إلى ما دل عليه النهي أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ، فإن مخالفتهم ومضادتهم مما يغمهم . { والله يحيى ويميت } ردا لقولهم أي هو المؤثر في الحياة والممات لا الإقامة والسفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد . { والله بما تعملون بصير } تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على أنه وعيد للذين كفروا .
تحذير من العود إلى مخالجة عقائد المشركين ، وبيان لسوء عاقبة تلك العقائد في الدنيا أيضاً . والكلام استئناف . والإقبال على المؤمنين بالخطاب تلطّف بهم جميعاً بعد تقريع فريق منهم الَّذين تولّوا يوم التقى الجمعان . واللام في قولهم : { لإخوانهم } ليست لام تعدية فعل القول بل هي لام العلّة كقوله تعالى : { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } لأنّ الإخوان ليسوا متكلّماً معهم بل هم الَّذين ماتوا وقُتلوا ، والمراد بالإخوان الأقارب في النسب ، أي من الخزرج المؤمنين ، لأنّ الشهداء من المؤمنين .
و ( إذ ) هنا ظرف للماضي بدليل فعليّ ( قالوا وضَربوا ) ، وقد حذف فعل دلّ عليه قوله : { ما ماتوا } تقديره : فماتوا في سفرهم أو قتلوا في الغزو .
والضرب في الأرض هو السفر ، فالضرب مستعمل في السير لأنّ أصل الضّرب هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به ، فالسير ضرب في الأرض بالأرجل ، فأطلق على السفر للتجارة في قوله تعالى : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللَّه } [ المزمل : 20 ] ، وعلى مطلق السفر كما هنا ، وعلى السفر للغزو كما في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } [ النساء : 94 ] وقوله : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } [ النساء : 101 ] والظاهر أنّ المراد هنا السفر في مصالح المسلمين لأنّ ذلك هو الَّذي يلومهم عليه الكفار ، وقيل : أريد بالضرب في الأرض التجارة .
وعليه يكون قرنه مع القتل في الغزو لكونهما كذلك في عقيدة الكفار .
و { غُزًّى } جمع غاز . وفُعَّل قليل في جمع فَاعل الناقص . وهو مع ذلك فصيح . ونظيره عُفَّى في قول امرىء القيس :
لَهَا قُلُب عُفَّى الحِيَاضضِ أُجُونُ
وقوله : { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } علّة ل ( قَالوا ) باعتبار ما يتضمّنه من اعتقاد ذلك مع الإعلان به توجيهاً للنَّهي عن التشبيه بهم أي فإنَّكم إن اعتقدتم اعتقادهم لحِقَكم أثره كما لحقهم ، فالإشارة بقوله : ( ذلك ) إلى القول الدال على الاعتقاد ، وعلى هذا الوجه فالتعليل خارج عن التشبيه . وقيل : اللام لام العاقبة ، أي : لا تكونوا كالَّذين قالوا فترتّب على قولهم أن كان ذلك حسرة في قلوبهم ، فيكون قوله : { ليجعل } على هذا الوجه من صلة ( الّذين ) ، ومن جملة الأحوال المشبّه بها ، فيعلم أنّ النّهي عن التّشبّه بهم فيها لما فيها من الضرّ .
والحَسرة : شدّة الأسف أي الحُزن ، وكانَ هذا حسرة عليهم لأنَّهم توهّموا أنّ مصابهم نشأ عن تضييعهم الحزم ، وأنَّهم لو كانوا سلكوا غير ما سلكوه لنجوا فلا يزالون متلهّفين على مافتهم . والمؤمن يبذل جهده فإذا خَابَ سَلَّم لْحكم القدر .
وقوله : { والله بما تعملون بصير } تحذير لهم من أن يضمروا العود إلى ما نهوا عنه .