تلك قصة بناء البيت الحرام . وذلك أساسه الذي قام عليه . . بيت أمر الله خليله إبراهيم - عليه السلام - بإقامته على التوحيد ، وتطهيره من الشرك ، وأمره أن يؤذن في الناس بالحج إليه . ليذكروا اسم الله - لا أسماء الآلهة المدعاة - على ما رزقهم من بهيمة الأنعام . ويأكلوا منها ويطعموا البائس الفقير على اسم الله دون سواه . . فهو بيت حرام حرمات الله فيه مصونة - وأولها عقيدة التوحيد ، وفتح أبوابه للطائفين والقائمين والركع السجود - إلى جانب حرمة الدماء ، وحرمة العهود والمواثيق . وحرمة الهدنة والسلام .
( ذلك . ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه . وأحلت لكم الأنعام - إلا ما يتلى عليكم - فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ، حنفاء لله غير مشركين به . ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) . .
وتعظيم حرمات الله يتبعه التحرج من المساس بها . وذلك خير عند الله . خير في عالم الضمير والمشاعر ، وخير في عالم الحياة والواقع . فالضمير الذي يتحرج هو الضمير الذي يتطهر والحياة التي ترعى فيها حرمات الله هي الحياة التي يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء ، ويجدون فيها متابة أمن ، وواحة سلام ، ومنطقة اطمئنان . .
ولما كان المشركون يحرمون بعض الأنعام - كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي - فيجعلون لها حرمة ، وهي ليست من حرمات الله بينما هم يعتدون على حرمات الله - فإن النص يتحدث عن حل الأنعام إلا ما حرم الله منها - كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به : ( وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) . وذلك كي لا تكون هنالك حرمات إلا لله ؛ وألا يشرع أحد إلا بإذن الله ؛ ولا يحكم إلا بشريعة الله .
وبمناسبة حل الأنعام يأمر باجتناب الرجس من الأوثان . وقد كان المشركون يذبحون عليها وهي رجس - والرجس دنس النفس - والشرك بالله دنس يصيب الضمير ويلوث القلوب ، ويشوب نقاءها وطهارتها كما تشوب النجاسة الثوب والمكان .
ولأن الشرك افتراء على الله وزور ، فإنه يحذر من قول الزور كافة : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَاتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لّهُ عِندَ رَبّهِ وَأُحِلّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزّورِ } .
يعني تعالى ذكره بقوله ذلكَ : هذا الذي أمر به من قضاء التفث والوفاء بالنذور والطواف بالبيت العتيق ، هو الفرض الواجب عليكم يا أيها الناس في حجكم . وَمَنْ يُعَظّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْد رَبّهِ يقول : ومن يجتنب ما أمره الله باجتنابه في حال إحرامه تعظيما منه لحدود الله أن يواقعها وحُرَمه أن يستحلها ، فهو خير له عند ربه في الاَخرة . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد ، في قوله : ذلكَ وَمَنْ يُعَظّمْ حُرُماتِ اللّهِ قال : الحُرْمة : مكة والحجّ والعُمرة ، وما نَهَى الله عنه من معاصيه كلها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَنْ يُعَظّمْ حُرُماتِ اللّهِ قال : الحرمات : المَشْعَر الحرام ، والبيت الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام هؤلاء الحرمات .
وقوله : وأُحِلّتْ لَكُمُ الأَنْعامُ يقول جلّ ثناؤه : وأحلّ الله لكم أيها الناس الأنعام أن تأكلوها إذا ذكّيتموها ، فلم يحرّم عليكم منها بحيرة ، ولا سائبة ، ولا وَصِيلة ، ولا حاما ، ولا ما جعلتموه منها لاَلهتكم . إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ يقول : إلا ما يتلى عليكم في كتاب الله ، وذلك : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهلّ لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردّية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، وما ذُبح على النّصب فإن ذلك كله رجس . كما :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ قال : إلا الميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .
وقوله : فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانٍ يقول : فاتقوا عبادة الأوثان ، وطاعة الشيطان في عبادتها فإنها رجس .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ يقول تعالى ذكره : فاجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج في قوله : الرّجْسَ مِنَ الأوْثانِ قال : عبادة الأوثان .
وقوله : وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ يقول تعالى ذكره : واتقوا قول الكذب والفرية على الله بقولكم في الاَلهة : ما نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرّبُونا إلى اللّهِ زُلْفَى وقولكم للملائكة : هي بنات الله ، ونحو ذلك من القول ، فإن ذلك كذب وزور وشرك بالله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : قَوْلَ الزّورِ قال : الكذب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ حُنَفاءَ لِلّهِ غيرَ مُشْرِكِينَ بِهِ يعني : الافتراء على الله والتكذيب .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن وائل بن ربيعة ، عن عبد الله ، قال : تعدل شهادة الزور بالشرك . وقرأ : فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر ، عن عاصم ، عن وائل بن ربيعة ، قال : عُدِلت شهادة الزور الشرك . ثم قرأ هذه الاَية : فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، قال : حدثنا سفيان العصفري ، عن أبيه ، عن خُرَيم بن فاتك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عُدِلَتْ شَهادَةُ الزّورِ بالشّرْكِ باللّهِ » . ثم قرأ : فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن سفيان العُصفريّ ، عن فاتك بن فضالة ، عن أيمن بن خريم ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فقال : «أيّها النّاسُ عُدِلَتْ شَهادَةُ الزّورِ بالشّرْكِ باللّهِ » مرّتين . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ .
ويجوز أن يكون مرادا به : اجتنبوا أن ترجسوا أنتم أيها الناس من الأوثان بعبادتكم إياها .
فإن قال قائل : وهل من الأوثان ما ليس برجس حتى قيل : فاجتنبوا الرجس منها ؟ قيل : كلها رجس . وليس المعنى ما ذهبت إليه في ذلك ، وإنما معنى الكلام : فاجتنبوا الرجس الذي يكون من الأوثان أي عبادتها ، فالذي أمر جلّ ثناؤه بقوله : فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ منها اتقاء عبادتها ، وتلك العبادة هي الرجس على ما قاله ابن عباس ومن ذكرنا قوله قبل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.