ثم يبين السياق ماذا كان مضمون الرسالة ، وكيف أوتيها موسى :
( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء ) . .
وتختلف الروايات والمفسرون في شأن هذه الألواح ؛ ويصفها بعضهم أوصافاً مفصلة - نحسب أنها منقولة عن الإسرائيليات التي تسربت إلى التفسير - ولا نجد في هذا كله شيئاً عن رسول الله [ ص ] فنكتفي بالوقوف عند النص القرآني الصادق لا نتعداه . وما تزيد تلك الأوصاف شيئاً أو تنقص من حقيقة هذه الألواح . أما ما هي وكيف كتبت فلا يعنينا هذا في شيء بما أنه لم يرد عنها من النصوص الصحيحة شيء . والمهم هو ما في هذه الألواح . إن فيها من كل شيء يختص بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول الأمد سواء !
( فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ) . .
والأمر الإلهي الجليل لموسى - عليه السلام - أن يأخذ الألواح بقوة وعزم وأن يأمر قومة أن يأخذوا بما فيها من التكاليف الشاقة بوصفه الأحسن لهم والأصلح لحالهم . . هذا الأمر على هذا النحو فضلاً على أنه يشي بضرورة هذا الأسلوب في أخذ هذه الطبيعة الإسرائيلية ، التي أفسدها الذل وطول الأمد ، بالعزم والجد ، لتحمل تكاليف الرسالة والخلافة ، فإنه - كذلك - يوحي بالمنهج الواجب في أخذ كل أمة لكل عقيدة تأتيها . .
إن العقيدة أمر هائل عند الله - سبحانه - وأمر هائل في حساب هذا الكون ، وقدر الله الذي يصرفه ، وأمر هائل في تاريخ " الإنسان " وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك . . والمنهج الذي تشرعه العقيدة في وحدانية الله - سبحانه - وعبودية البشر لربوبيته وحده ، منهج يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها ، ويقيم هذه الحياة على أسلوب آخر غير الذي تجري عليه في الجاهلية ، حيث تقوم ربوبية غير ربوبية الله سبحانه ، ذات منهج للحياة كلها غير منهج الله الذي ينبثق من تلك العقيدة . .
وأمر له هذه الخطورة عند الله ، وفي حساب الكون ، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ " الإنسان " . . يجب أن يؤخذ بقوة ، وأن تكون له جديته في النفس ، وصراحته وحسمه . ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة ، ولا في تميع ، و لا في ترخص ، ذلك أنه أمر هائل في ذاته ، فضلاً على أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص ، أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر . .
وليس معنى هذا - بطبيعة الحال - هو التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض ! فهذا ليس من طبيعة دين الله . . ولكن معناه الجد والهمة والحسم والصراحة . . وهي صفات أخرى ومشاعر أخرى غير مشاعر التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض !
ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل - بصفة خاصة - بعدما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر ، تحتاج إلى هذا التوجيه . لذلك نلحظ أن كل الأوامر لبني إسرائيل كانت مصحوبة بمثل هذا التشديد وهذا التوكيد ، تربية لهذه الطبيعة الرخوة الملتوية المنحرفة الخاوية ، على الاستقامة والجد والوضوح والصراحة . .
ومثل طبيعة بني إسرائيل كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل ، والخضوعللإرهاب والتعبد للطواغيت ، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال ، والأخذ بالأسهل تجنباً للمشقة . . كما هو الملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية التي نطالعها في زماننا هذا ، والتي تهرب من العقيدة لتهرب من تكاليفها ، وتسير مع القطيع ؛ لأن السير مع القطيع لا يكلفها شيئاً !
وفي مقابل أخذ هذا الأمر بقوة يعد الله موسى وقومه أن يمكن لهم في الأرض ، ويورثهم دار الفاسقين عن دينه :
والأقرب أنها إشارة إلى الأرض المقدسة التي كانت - في ذلك الزمان - في قبضة الوثنيين ، وأنها بشارة لهم بدخولها . . وإن كان بنو إسرائيل لم يدخلوها في عهد موسى - عليه السلام - لأن تربيتهم لم تكن قد استكملت ، وطبيعتهم تلك لم تكن قد قوّمت ، فوقفوا أمام الأرض المقدسة يقولون لنبيهم : ( يا موسى إن فيها قوماً جبارين . وإنا لن ندخلها ً حتى يخرجوا منها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ! ) . . ثم لما ألح عليهم الرجلان المؤمنان فيهم اللذان يخافان الله ، في الدخول والاقتحام ! أجابوا موسى بتوقح الجبان - كالدابة التي ترفس سائقها ! - : إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها ، فاذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا هاهنا قاعدون ! . . مما يصور تلك الطبيعة الخائرة المفككة الملتوية التي كانت تعالجها العقيدة والشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام ، وأمر هذا الأمر الألهي الجليل أن يأخذها بقوة ، وأن يأمر قومه بحمل تكاليفها الشاقة . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : وكتبنا لموسى في ألواحه . وأدخلت الألف واللام في «الألواح » بدلاً من الإضافة ، كما قال الشاعر :
***والأحْلامُ غيرُ عَوَازِبُ ***
وكما قال جلّ ثناؤه فإنّ الجَنّةَ هِيَ المَأْوَى يعني : هي مأواه .
وقوله : مِنْ كُلّ شَيْءٍ يقول من التذكير والتنبيه على عظمة الله وعزّ سلطانه . مَوْعِظَةً لقومه ومن أمر بالعمل بما كتب في الألواح . وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ يقول : وتبيينا لكلّ شيء من أمر الله ونهيه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أو سعيد بن جبير وهو في أصل كتابي ، عن سعيد بن جبير في قول الله : وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال : ما أمروا به ونهوا عنه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وكَتَبْنا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ من الحلال والحرام .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال : ما أمروا به ونُهوا عنه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وكَتَبْنا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال عطية : أخبرني ابن عباس أن موسى صلى الله عليه وسلم لما كربه الموت قال : هذا من أجل آدم ، قد كان الله جعلنا في دار مثوى لا نموت ، فخطأ آدم أنزلنا ههنا فقال الله لموسى : أبعث إليك آدم فتخاصمه ؟ قال : نعم . فلما بعث الله آدم ، سأله موسى ، فقال أبونا آدم عليهما السلام : يا موسى سألت الله أن يبعثني لك قال موسى : لولا أنت لم نكن ههنا . قال له آدم : أليس قد أتاك الله من كلّ شيء موعظة وتفصيلاً ؟ أفلست تعلم أنه ما أصَابَ في الأرْضِ من مُصِيَبةٍ ولا في أنْفُسِكُمْ إلا في كِتَابٍ مِنْ قَبْل أنْ نَبْرَأَهَا ؟ قال موسى : بلى . فخصمه آدم صلى الله عليهما .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الصمد بن معقل ، أنه سمع وهبا يقول في قوله : وكَتَبْنا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال : كتب له لا تشرك بي شيئا من أهل السماء ولا من أهل الأرض فإن كلّ ذلك خلقي ، ولا تحلف باسمي كاذبا ، فإن من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه ، ووقّر والديك .
القول في تأويل قوله تعالى : فَخُذْهَا بِقُوّةٍ .
يقول تعالى ذكره : وقلنا لموسى إذ كتبنا له في الألواح من كلّ شيء موعظة وتفصيلاً لكلّ شيء : خذ الألواح بقوّة . وأخرج الخبر عن الألواح والمراد ما فيها .
واختلف أهل التأويل في معنى القوّة في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناها بجدّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا ابن عيينة ، قال : قال أبو سعد ، عن عكرمة عن ابن عباس : فَخُذْهَا بِقُوّةٍ قال : بجدّ .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَخُذْهَا بِقُوّةٍ قال : بجدّ واجتهاد .
وقال آخرون : معنى ذلك : فخذها بالطاعة لله . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : فَخُذْهَا بِقُوّةٍ قال : بالطاعة .
وقد بيّنا معنى ذلك بشواهده واختلاف أهل التأويل فيه في سورة البقرة عند قوله : خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوّةٍ فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها .
يقول تعالى ذكره : قلنا لموسى : وأمر قومك بني إسرائيل يأخذوا بأحسنها . يقول : يعملوا بأحسن ما يجدون فيها كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها بأحسن ما يجدون فيها .
حدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها قال : أمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أمر به قومه .
فإن قال قائل : وما معنى قوله : وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها أكان من خصالهم ترك بعض ما فيها من الحسن ؟ قيل : لا ولكن كان فيها أمر ونهي ، فأمرهم الله أن يعملوا بما أمرهم بعمله ويتركوا ما نهاهم عنه ، فالعمل بالمأمور به أحسن من العمل بالمَنْهيّ عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ .
يقول تعالى ذكره لموسى إذ كتب في الألواح من كلّ شيء : خذها بجدّ في العمل بما فيها واجتهاد ، وأمر قومك يأخذوا بأحسن ما فيها ، وانههم عن تضييعها وتضييع العمل بما فيها والشرك بي ، فإن من أشرك بي منهم ومن غيرهم ، فإني سأريه في الاَخرة عند مصيره إليّ دار الفاسقين ، وهي نار الله التي أعدّها لأعدائه . وإنما قال : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ كما يقول القائل لمن يخاطبه : سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ قال : مصيرهم في الاَخرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن ، في قوله : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ قال : جهنم .
وقال آخرون : معنى ذلك : سأدخلكم أرض الشأم ، فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الجبابرة والعمالقة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ : منازلهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : دَارَ الفاسِقِينَ قال : منازلهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : سأريكم دار قوم فرعون ، وهي مصر . ذكر من قال ذلك : . . . . . . . . . . . .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك ، لأن الذي قبل قوله جلّ ثناؤه : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ أمر من الله لموسى وقومه بالعمل بما في التوراة ، فأولى الأمور بحكمة الله تعالى أن يختم ذلك بالوعيد على من ضيعه وفرّط في العمل لله وحاد عن سبيله ، دون الخبر عما قد انقطع الخبر عنه أو عما لم يجر له ذكر .