في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

18

ولقد مر بنا أن بعض المؤمنين الذين خرجوا مستبشرين برؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد هالهم ألا تتحقق الرؤيا هذا العام ؛ وأن يردوا عن المسجد الحرام . فالله يؤكد لهم صدق هذه الرؤيا ، وينبئهم أنها منه ، وأنها واقعة ولا بد . وأن وراءها ما هو أكبر من دخول المسجد الحرام أيضا :

( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق : لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون . فعلم ما لم تعلموا ، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا . هو الذي أرسل رسوله بالهدى )( ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا ) . .

فأما البشرى الأولى . بشرى تصديق رؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ودخولهم المسجد الحرام آمنين ، وتحليقهم وتقصيرهم بعد انتهاء شعائر الحج أو العمرة ، لا يخافون . . فأما هذه فقد تحققت بعد عام واحد . ثم تحققت بصورة أكبر وأجلى بعد عامين اثنين من صلح الحديبية . إذ تم لهم فتح مكة ، وغلبة دين الله عليها .

ولكن الله سبحانه يؤدب المؤمنين بأدب الإيمان ؛ وهو يقول لهم : " لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - " . . فالدخول واقع حتم ، لأن الله أخبر به . ولكن المشيئة يجب أن تظل في نفوس المسلمين في صورتها الطليقة لا يقيدها شيء ، حتى تستقر هذه الحقيقة في القلوب ، وتصبح هي قاعدة التصور للمشيئة الإلهية . والقرآن يتكئ على هذا المعنى ، ويقرر هذه الحقيقة ، ويذكر هذا الاستثناء في كل موضع ، حتى المواضع التي يذكر فيها وعد الله . ووعد الله لا يخلف . ولكن تعلق المشيئة به أبدا طليق . إنه أدب يلقيه الله في روع المؤمنين ، ليستقر منهم في أعماق الضمير والشعور .

ونعود إلى قصة تحقيق هذا الوعد ؛ فقد ذكرت الروايات أنه لما كان ذو القعدة من سنة سبع - أي العام التالي لصلح الحديبية - خرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية . فأحرم من ذي الحليفة ، وساق معه الهدي - كما أحرم وساق الهدي في العام قبله - وسار أصحابه يلبون . فلما كان [ صلى الله عليه وسلم ] قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه . فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا ، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين ، فذهبوا فأخبروا أهل مكة . فلما جاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن ياجج ، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه . فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص ، فقال : يا محمد ، ما عرفناك تنقض العهد . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " وما ذاك ? " قال : دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لم يكن ذلك ، وقد بعثنا به إلى ياجج " فقال : بهذا عرفناك ، بالبر والوفاء !

وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وإلى أصحابه - رضي الله عنهم - غيظا وحنقا . وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه . فدخلها [ صلى الله عليه وسلم ] وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام الناقة يقودها .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

{ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } الآية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه قبل خروجه عام الحديبية كأنه وأصحابه يدخلون مكة محلقين ومقصرين غير خائفين فلما خرج عام الحديبية كانوا قد وطنوا أنفسهم على دخول مكة لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صدوا عن البيت راب بعضهم ذلك فأخبر الله تعالى أن تلك الرؤيا صادقة وأنهم يدخلونها إن شاء الله آمنين وقوله { فعلم ما لم تعلموا } علم الله تعالى أن الصلاح كان في ذاك الصلح ولم تعلموا ذلك { فجعل من دون ذلك } أي من دون دخولكم المسجد { فتحا قريبا } وهو صلح الحديبية ولم يكن فتح في الإسلام كان أعظم من ذلك لأنه دخل في الإسلام في تلك السنين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر وقيل يعني فتح خيبر

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

قوله تعالى : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا 27 هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا } .

كا ن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه أنه يدخل مكة ويطوف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة . فلما صالح قريشا بالحديبية ارتاب المنافقون وأشاعوا بين الناس الأراجيف والظنون ، ووقع في نفس بعض الصحابة من ذلك شيء حتى سأل عمر ابن الخطاب ( رضي الله عنه ) في ذلك فقال له فيما قال : أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا ؟ " قال : لا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإنك آتيه ومطوف به " وبهذا أجاب الصديق ( رضي الله عنه ) أيضا . ولهذا أنزل الله قوله : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله } فأعلمهم الله بذلك أنهم سيدخلون في غير ذلك العام وأن رؤيا نبيه صلى الله عليه وسلم حق .

قوله : { آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } هذه الأسماء الثلاثة كلها منصوبات على الحال{[4271]} و { آمنين } ، لا تخافون من عدو حال دخولكم ، أما دخولهم محلقين رؤوسهم ومقصرين ، فذلك من التحليق والتقصير وهو للرجال ، والحلق أفضل من التقصير . فقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رحم الله المحلقين " قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : " رحم الله المحلقين " قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم " والمقصرين " قوله : { لا تخافون } الجملة في موضع نصب على الحال . والتقدير : غير خائفين {[4272]} فقد أثبت الله لهم الأمن حال دخولهم مكة وأذهب عنهم الخوف حال قرارهم فيها فلا يخشون أحدا إلا الله . وقد كان ذلك في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع . ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة فأقام بها ذي الحجة والمحرم وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه ، بعضها عنوة وبعضها صلحا . وخيبر أقليم عظيم الخصب كثير النخل والزروع ، فاستخدم النبي صلى الله عليه وسلم من فيها من اليهود عليها على الشطر وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة ، جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، وأبو موسى الأشعري وأصحابه ( رضي الله عنهم ) . فلما كان ذو العقدة من سنة سبع خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي ، فلبى صلى الله عليه وسلم وسار معه أصحابه يلبون فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم وأنه قد نكث العهد الذي بينه وبينهم من وضع القتال عشر سنين فذهبوا فأخبروا أهل مكة . ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه . فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش من يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغيته ، فبين لهم أنه لم يبغ قتالا بل جاء . معه المؤمنون إلى مكة معتمرين ، على الشرط الذي بينه وبينهم . فقال له مبعوث قريش وهو مكرز بن حفص : بهذا عرفناك بالبر والوفاء . ثم خرجت رؤوس المشركين من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه غيظا وحنقا . وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه{[4273]} .

قوله : { فعلم ما لم تعلموا } يعني علم الله ما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين الذين لا تعلمونهم أنتم . ولو دخلتم مكة في ذلك العام لوطئتموهم فلقتلتموهم فأصابكم بذلك معرة من غير علم منكم . وقيل : علم الله ما في تأخير الدخول إلى مكة من خير لكم وصلاح لم تعلموه أنتم . ذلك أنهم عقب رجوعهم مضوا إلى خيبر ففتحوها فرجعوا بأموال كثيرة وازدادوا بذلك من القوة والعدة أضعافا ، فأقبلوا على مكة بقوة وأهبة أضعاف ما كانوا عليه قبل ذلك .

قوله : { فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } المراد بالفتح صلح الحديبية في قول أكثر المفسرين . وقيل : فتح خيبر . والأول أولى بالصواب . فإنه ما من فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية . لأنه لما كانت الهدنة بين الفريقين وقد أمن الناس بعضهم بعضا ، التقوا فيما بينهم فتناظروا وتبادلوا الحديث والمناظرة . فما من أحد ذي عقل وفطرة سليمة ، خوطب بالإسلام إلا دخل فيه . وبذلك دخل في هاتين السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر ، فقد كانوا سنة ست يوم الحديبية ألفا وأربعمائة . وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان ، عشرة آلاف .


[4271]:البيان لابن الأنباري جـ 2 ص 379.
[4272]:المصدر السابق
[4273]:تفسير ابن كثير جـ 4 ص 201 وتفسير القرطبي جـ 16 ص 290.