في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ} (7)

ومن هنا لا تنشئ الصلاة آثارها في نفوس هؤلاء المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . فهم يمنعون الماعون . يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشرية . يمنعون الماعون عن عباد الله . ولو كانوا يقيمون الصلاة حقا لله ما منعوا العون عن عباده ، فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله . .

وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام حقيقة هذه العقيدة ، وأمام طبيعة هذا الدين . ونجد نصا قرآنيا ينذر مصلين بالويل . لأنهم لم يقيموا الصلاة حقا . إنما أدوا حركات لا روح فيها . ولم يتجردوا لله فيها . إنما أدوها رياء . ولم تترك الصلاة أثرها في قلوبهم وأعمالهم فهي إذن هباء . بل هي إذن معصية تنتظر سوء الجزاء !

وننظر من وراء هذه وتلك إلى حقيقة ما يريده الله من العباد ، حين يبعث إليهم برسالاته ليؤمنوا به وليعبدوه . . .

إنه لا يريد منهم شيئا لذاته سبحانه - فهو الغني - إنما يريد صلاحهم هم أنفسهم . يريد الخير لهم . يريد طهارة قلوبهم ويريد سعادة حياتهم . يريد لهم حياة رفيعة قائمة على الشعور النظيف ، والتكافل الجميل ، والأريحية الكريمة والحب والإخاء ونظافة القلب والسلوك .

فأين تذهب البشرية بعيدا عن هذا الخير ? وهذه الرحمة ? وهذا المرتقى الجميل الرفيع الكريم ? أين تذهب لتخبط في متاهات الجاهلية المظلمة النكدة وأمامها هذا النور في مفرق الطريق ?

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ} (7)

{ ويمنعون الماعون } الزكاة وما فيه منفعة من الفأس والقدر والماء والملح .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ} (7)

السادسة : قوله تعالى : { ويمنعون الماعون } فيه اثنا عشر قولا : الأول : أنه زكاة أموالهم . كذا روى الضحاك عن ابن عباس . وروى عن علي رضي الله عنه مثل ذلك ، وقاله مالك . والمراد به المنافق يمنعها . وقد روى أبو بكر{[16477]} بن عبد العزيز عن مالك قال : بلغني أن قوله الله تعالى : { فويل للمصلين . الذين هم على صلاتهم ساهون . الذين هم يراؤون . ويمنعون الماعون } قال : إن المنافق إذا صلى صلى رياءً ، وإن فاتته لم يندم عليها ، { ويمنعون الماعون } الزكاة التي فرض الله عليهم . قال زيد بن أسلم : لو خفيت لهم الصلاة كما خفيت لهم الزكاة ما صلوا . القول الثاني : أن " الماعون " المال ، بلسان قريش ، قاله ابن شهاب وسعيد بن المسيب . وقول ثالث : أنه اسم جامع لمنافع البيت كالفأس والقدر والنار وما أشبه ذلك ، قاله ابن مسعود ، وروي عن ابن عباس أيضا . قال الأعشى :

بأجود منه بمَاعُونِه *** إذا ما سماؤهم لم تَغِمِ

الرابع : ذكر الزجاج وأبو عبيد والمبرد أن الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة ، حتى الفأس والقدر والدلو والقداحة ، وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير ، وأنشدوا بيت الأعشى . قالوا : والماعون في الإسلام : الطاعة والزكاة ، وأنشدوا قول الراعي :

أخليفةَ الرحمن إنا معشر *** حنفاء نسجدُ بكرة وأصيلا

عَرَبٌ نرى لله من أموالنا *** حقَّ الزكاة منزَّلاً تنزيلا

قومٌ على الإسلام لما يمنعوا *** مَاعُونَهُمْ ويضيعوا التَّهْلِيلاَ{[16478]}

يعني الزكاة . الخامس : أنه العارية ، وروي عن ابن عباس أيضا . السادس : أنه المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم ، قاله محمد بن كعب والكلبي . السابع : أنه الماء والكلأ . الثامن : الماء وحده . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : الماعون : الماء ، وأنشدني فيه :

يمجُّ صبيرُهُ الماعونَ صَبًّا

الصبير : السحاب . التاسع : أنه منع الحق ، قاله عبد الله بن عمر . العاشر : أنه المستغل من منافع الأموال ، مأخوذ من المعن وهو القليل ، حكاه الطبري عن ابن عباس{[16479]} . قال قطرب : أصل الماعون من القلة . والمعن : الشيء القليل ، تقول العرب : ماله سعنة{[16480]} ولا معنة ، أي شيء قليل . فسمى الله تعالى الزكاة والصدقة ونحوهما من المعروف ماعونا ؛ لأنه قليل من كثير . ومن الناس من قال : الماعون : أصله معونة ، والألف عوض من الهاء ؛ حكاه الجوهري . ابن العربي : الماعون : مفعول{[16481]} من أعان يعين ، والعون : هو الإمداد بالقوة والآلات والأسباب الميسرة للأمر . الحادي عشر : أنه الطاعة والانقياد . حكى الأخفش عن أعرابي فصيح : لو قد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعا تعطيك الماعون ، أي تنقاد لك وتعطيك . قال الراجز :

متى تصادفْهُن{[16482]} في البرينِ *** يخضعن أو يعطين بالماعون{[16483]}

وقيل : هو ما لا يحل منعه ، كالماء والملح والنار ؛ لأن عائشة رضوان الله عليها قالت : قلت يا رسول الله ، ما الشيء الذي لا يحل منعه ؟ قال : ( الماء والنار والملح ) قلت : يا رسول الله هذا الماء ، فما بال النار والملح ؟ فقال : " يا عائشة من أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما طبخ بتلك النار ، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيب به ذلك الملح ، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء ، فكأنما أعتق ستين نسمة . ومن سقى شربة من الماء حيث لا يوجد ، فكأنما أحيا نفسا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " . ذكره الثعلبي في تفسيره ، وخرجه ابن ماجه في سننه . وفي إسناده لين ، وهو القول الثاني عشر . الماوردي : ويحتمل أنه المعونة بما خف فعله ، وقد ثقله الله . والله أعلم . وقيل لعكرمة مولى ابن عباس : من منع شيئا من المتاع كان له الويل ؟ فقال : لا ، ولكن من جمع ثلاثهن فله الويل ، يعني : ترك الصلاة ، والرياء ، والبخل بالماعون .

قلت : كونها في المنافقين أشبه ، وبهم أخلق ؛ لأنهم جمعوا الأوصاف الثلاثة : ترك الصلاة ، والرياء ، والبخل بالمال ، قال الله تعالى : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا }{[16484]} [ النساء : 142 ] ، وقال : { ولا ينفقون إلا وهم كارهون }{[16485]} . [ التوبة : 54 ] . وهذه أحوالهم ، ويبعد أن توجد من مسلم محقق ، وإن وجد بعضها فيلحقه جزء من التوبيخ ، وذلك في منع الماعون إذا تعين ، كالصلاة إذا تركها . والله أعلم . إنما يكون منعا قبيحا في المروءة في غير حال الضرورة . والله أعلم .


[16477]:في بعض نسخ الأصل: "أبو عمر" وفي بعضها: "أبو عبد". وفي ابن العربي: "أبو بكر بن عبد العزيز".
[16478]:في اللسان: قوم على التنزيل لما يمنعوا * ما عونهم ويبدلوا التنزيلا
[16479]:كذا في بعض نسخ الأصل. وفي بعضها الآخر: "حكاه الطبري وابن عيسى".
[16480]:هذا مثل يضرب لمن لا مال له. والسعن: الكثير.
[16481]:هذا القول يأباه القياس اللغوي.
[16482]:في تفسير الثعلبي: * متى تجاهدهن * وهي الأوجه.
[16483]:البرين (بضم الباء وكسرها): جمع برة، وهي هنا الحلقة في أنف البعير. وهي أيضا: كل حلقة من سوار وقرط وخلخال.
[16484]:آية 142 سورة النساء.
[16485]:آية 54 سورة التوبة.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ} (7)

ولما كان من كان بهذه الصفة ربما فعل قليل الخير دون جليله رياء ، بين أنهم غلب عليهم الشح حتى أنهم مع كثرة الرياء منهم لم يقدروا على أن يراؤوا بهذا الشيء التافه ، فانسلخوا من جميع خلال المكارم ، فقال إبلاغاً في ذمهم ، إشعاراً بأن أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله : { ويمنعون } أي على تجدد الأوقات ، وحذف المفعول الأول تعميماً حتى يشمل كل أحد وإن جل وعظمت منزلته ولطف محله من قلوبهم ، تعريفاً بأنهم بلغوا من الرذالة دركة ليس وراءها للحسد موضع { الماعون } أي حقوق الأموال والشيء اليسير من المنافع ، مثل إعارة التافه من متاع البيت التي جرت عادة الناس أن يتعاوروه بينهم ، ويمنعون أهل الحاجة ما أوجب الله لهم في أموالهم من الحقوق ، والحاصل أنه ينبغي حمل ذلك على منع ما يجب بذله ، مثل فضل الكلأ والماء والزكاة ونحوه ، ليكون موجباً للويل ، وعلى الزكاة حمله علي وابن عمر -رضي الله عنهما- والحسن وقتادة ، قال العلماء : هو مأخوذ من المعن ، وهو في اللغة الشيء اليسير ، ولذلك فسره بعضهم بالماء ، وبعضهم بما يعار من المتاع ، نحو القدر والفأس والدلو ، وبعضهم بالزكاة ؛ لأنه لا يؤخذ من المال على وجه الزكاة إلا شيء يسير جداً بالنسبة إليه ، وقيل : هو كل عطية أو منفعة ، وقال قطرب : هو فاعول من المعن ، والمعن : المعروف ، وقال أبو عبيدة : الماعون في الجاهلية العطاء والمنفعة ، وفي الإسلام الزكاة . وقال الهروي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو العارية ، ذكر هذا الأستاذ عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي ، وقال ابن جرير : وأصل الماعون من كل شيء منفعته . فدل ذلك على أنهم بلغوا نهاية التكذيب باستهانتهم بأعظم دعائم الدين ، واستعظامهم لأدنى أمور الدنيا ، وهذا الآخر كما ترى هو الأول ؛ لأن الذي جر إليه هو التكذيب ، ومن منع هذه الأشياء التافهة كان جديراً بأن يمنع ورود الكوثر في يوم المحشر .

ختام السورة:

وكما التقى آخرها بأولها التقت السورة كلها مع مناظرتها في العدد من أول القرآن ، وذلك أنه قد علم أن حاصل هذه السورة الإبعاد عن سفساف الأخلاق ورديها ودنيها ، من التكذيب بالجزاء الذي هو حكمة الوجود المثمر ، للإعراض عن الوفاء بحق الخلائق وطاعة الخالق ، والانجذاب مع النقائص ، إلى الاستهانة بالضعيف الذي لا يستهين به إلا أنذل الناس وأرذلهم ، والرياء الذي لا يلم به إلا من كان في غاية الدناءة ، فكان ذلك موجباً للميل إلى أعظم الويل ، وفي ذلك أعظم مرغب في معالي الأخلاق التي هي أضداد ما ذكر في السورة ، وكلا الأمرين موجود في الأنفال ، المناظرة لها في رد المقطع على المطلع على أتم وجه ، ليكون ذلك إشارة إلى أنها شارحة لهذا ، ففيه الإيماء إلى ملاحظتها عند قراءتها ، انظر إلى قوله تعالى :

{ الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً }[ الأنفال : 4 ] الآية

{ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك }[ الأنفال : 32 ] الآية

{ وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصدية }[ الأنفال :35 ]

{ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون }[ الأنفال : 36 ] الآية

{ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل }[ الأنفال : 41 ] الآية

{ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورياء الناس } الآية

ولقد انطبقت السورة بمعانيها وتراكيبها العظيمة ونظومها ومبانيها على الأراذل الأدنياء الأسافل ، وأحاطت برؤوسهم بعد كلماتها مفردة قبل حروفها ، وأدارت عليهم كؤوس حتوفها من نوافذ الرماح بأيدي جنودها ومواضي سيوفها ، وذلك أن عدة كلماتها خمس وعشرون كلمة ، فإذا اعتبرتها من أول سني النبوة وازت السنة الثانية عشرة من الهجرة ، وذلك أواخر خلافة الصديق رضي الله عنه ، وفيها لم يبق على يده أحد من المصلين الذين ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أو منعوا الزكاة ، فتبين أنهم ما كانوا يصلون في حياته صلى الله عليه وسلم ويزكون إلا رياء الناس فعل الأدنياء الأنجاس حتى حل بهم الويل بأيدي جنود الصديق الذين جاؤوهم بالرجل والخيل فمزقوهم عن آخرهم ، ولم تمض تلك السنة إلا وقد فرغ منهم بالفراغ من بني حنيفة باليمامة وأطراف بلاد اليمن من أهل النجير ببلاد كندة ، والأسود العنسي من صنعاء ، وما مضت سنة ست عشرة الموازية لعدد الكلمات بالبسملة - وذلك في أوائل خلافة الفاروق - حتى زالوا من جميع جزيرة العرب ، وهم مشركو العرب ومتنصروهم ومتمجسوهم الذين كانوا بنواحي العراق والشام والبحرين فأسلم أكثرهم ، وذهب الباقون إلى بلاد الروم ، فحل الويل بالمرائين من أهل الصلاة ، فإنهم الذين أتى إليهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بالصلاة فأعرضوا عنها ، والناس لهم تبع ، ولم يصح في هذه السورة اعتبار الضمائر ؛ لأن الدين في هذا الحد كان قد ظهر على كل ظاهر ، إلى حد لا إضمار فيه بوجه ، ولا عائق له ولا ساتر ، وكما أنه لا حاجة إلى الرمز بالضمائر ، لما دقت له في الخافقين من البشائر ، على رؤوس المنابر والمنائر ، فكذلك لم يناسب بعد الوصول إلى هذا الحال المكشوف ، للإيماء بالدلالة بإعداد الحروف . والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ} (7)

قوله : { ويمنعون الماعون } أي يمنعون الناس ما عندهم من منافع . واختلفوا في المراد بالماعون . فقيل : المراد به الزكاة ، أي يمنعون زكاة أموالهم فلا يعطونها الفقراء . وقيل : هو القدر ، والدلو ، والفأس ونحو ذلك مما يتعاوره الناس ويتعاطونه بينهم . وقيل : المراد به العارية . فالناس يستعير بعضهم من بعض أغراضا من متاع البيت ، كالفأس والقدر والكأس وغير ذلك من الأواني مما يحتاج إليه المرء ، فما ينبغي للمسلم في مثل هذه الحال أن يبخل ببذل ما يبتغيه أخوه من غرض .

ذلك أن المسلمين جميعا إخوة في العقيدة والدين . فهم بذلك متحابون متعاونون ما بينهم ، ولا سلطان للشح على قلوبهم ؛ بل يبادرون ببذل الخير أو المتاع لإخوانهم . وإذا لم يكن المسلم على هذه الصفة من أداء الخير للآخرين فما ينبغي له أن يكون في عداد المسلمين الصادقين{[4865]} .


[4865]:الكشاف جـ 4 ص 289 وتفسير الطبري جـ 30 ص 206.