ويبدو أنه كان من بعض المسلمين اندفاع عند الخبر الأول الذي نقله الوليد بن عقبة ، وإشارة على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن يعجل بعقابهم . وذلك حمية من هذا الفريق لدين الله وغضبا لمنع الزكاة . فجاءت الآية التالية تذكرهم بالحقيقة الضخمة والنعمة الكبيرة التي تعيش بينهم ليدركوا قيمتها وينتبهوا دائما لوجودها :
( واعلموا أن فيكم رسول الله ) . .
وهي حقيقة تتصور بسهولة لأنها وقعت ووجدت . ولكنها عند التدبر تبدوا هائلة لا تكاد تتصور ! وهل من اليسير أن يتصور الإنسان أن تتصل السماء بالأرض صلة دائمة حية مشهودة ؛ فتقول السماء للأرض ؛ وتخبر أهلها عن حالهم وجهرهم وسرهم ، وتقوم خطاهم أولا بأول ، وتشير عليهم في خاصة أنفسهم وشؤونهم . ويفعل أحدهم الفعلة ويقول أحدهم القولة ، ويسر أحدهم الخالجة ؛ فإذا السماء تطلع ، وإذا الله - جل جلاله - ينبئ رسوله بما وقع ، ويوجهه لما يفعل وما يقول في هذا الذي وقع . . إنه لأمر . وإنه لنبأ عظيم . وإنها لحقيقة هائلة . قد لا يحس بضخامتها من يجدها بين يديه . ومن ثم كان هذا التنبيه لوجودها بهذا الأسلوب : ( واعلموا أن فيكم رسول الله ) . . اعلموا هذا وقدروه حق قدره ، فهو أمر عظيم .
ومن مقتضيات العلم بهذا الأمر العظيم أن لا يقدموا بين يدي الله ورسوله . ولكنه يزيد هذا التوجيه إيضاحا وقوة ، وهو يخبرهم أن تدبير رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لهم بوحي الله أو إلهامه فيه الخير لهم والرحمة واليسر . وأنه لو أطاعهم فيما يعن لهم أنه خير لعنتوا وشق عليهم الأمر . فالله أعرف منهم بما هو خير لهم ، ورسوله رحمة لهم فيما يدبر لهم ويختار :
( لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ) . .
وفي هذا إيحاء لهم بأن يتركوا أمرهم لله ورسوله ، وأن يدخلوا في السلم كافة ، ويستسلموا لقدر الله وتدبيره ، ويتلقوا عنه ولا يقترحوا عليه .
ثم يوجههم إلى نعمة الإيمان الذي هداهم إليه ، وحرك قلوبهم لحبه ، وكشف لهم عن جماله وفضله ، وعلق أرواحهم به ؛ وكره إليهم الكفر والفسوق والمعصية ، وكان هذا كله من رحمته وفيضه :
( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ؛ وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان . أولئك هم الراشدون . فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم ) . .
واختيار الله لفريق من عباده ، ليشرح صدورهم للإيمان ، ويحرك قلوبهم إليه ، ويزينه لهم فتهفو إليه أرواحهم ، وتدرك ما فيه من جمال وخير . . هذا الاختيار فضل من الله ونعمة ، دونها كل فضل وكل نعمة . حتى نعمة الوجود والحياة أصلا ، تبدو في حقيقتها أقل من نعمة الإيمان وأدنى ! وسيأتي قوله تعالى : ( بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان )فنفصل القول إن شاء الله في هذه المنة .
{ واعلموا أن فيكم رسول الله } فلا تقولوا الباطل فان الله يخبره { لو يطيعكم في كثير من الأمر } لو أطاع مثل هذا المخبر الذي أخبره بما لا أصل له { لعنتم } لأثمتم ولهلكتم { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } فأنتم تطيعون الله ورسوله فلا تقعون في العنت يعني بهذا المؤمنين المخلصين ثم أثنى عليهم فقال { أولئك هم الراشدون }
قوله تعالى : " واعلموا أن فيكم رسول الله " فلا تكذبوا ، فإن الله يعلمه أنباءكم فتفتضحون . " لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم " أي لو تسارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر لنالكم مشقة وإثم ، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه لكان خطأ ، ولعنت من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم لعداوة كانت بينه وبينهم . ومعنى طاعة الرسول لهم : الإئتمار بما يأمر به فيما يبلغونه عن الناس والسماع منهم . والعنت الإثم ، يقال : عنت الرجل . والعنت أيضا الفجور والزنى ، كما في سورة " النساء " {[14072]} . والعنت أيضا الوقوع في أمر شاق ، وقد مضى في آخر " التوبة " القول في " عنتم " [ التوبة : 128 ] بأكثر من هذا{[14073]} . " ولكن الله حبب إليكم الإيمان " هذا خطاب للمؤمنين المخلصين الذين لا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخبرون بالباطل ، أي جعل الإيمان أحب الأديان إليكم . " وزينه في قلوبكم " " وزينه " بتوفيقه . " في قلوبكم " أي حسنه إليكم حتى اخترتموه . وفي هذا رد على القدرية والإمامية وغيرهم ، حسب ما تقدم في غير موضع . فهو سبحانه المنفرد بخلق ذوات الخلق وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم ، لا شريك له . " وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان " قال ابن عباس : يريد به الكذب خاصة . وقاله ابن زيد . وقيل : كل ما خرج عن الطاعة ، مشتق من فسقت الرطبة خرجت من قشرها . والفأرة من جحرها . وقد مضى في " البقرة " القول فيه مستوفى{[14074]} . والعصيان جمع المعاصي . ثم انتقل من الخطاب إلى الخبر فقال : " أولئك " يعني هم الذين وفقهم الله فحبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر أي قبحه عندهم " الراشدون " كقوله تعالى : " وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون " {[14075]} [ الروم : 39 ] . قال النابغة :
يا دارَ مَيَّةَ بالعلياء فالسند *** أقوَتْ وطال عليها سالفُ الأمَدِ
والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه ، من الرشاد وهي الصخرة . قال أبو الوازع : كل صخرة رشادة . وأنشد :
وغير مُقَلَّدٍ ومُوَشَّمَاتِ *** صَلِينَ الضوءَ من صُمِّ الرشاد{[14076]}
{ لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } أي : لشقيتم ، والعنت المشقة ، وإنما قال لو يطيعكم ولم يقل لو أطاعكم للدلالة على أنهم كانوا يريدون استمرار طاعته عليه الصلاة والسلام لهم ، والحق خلاف ذلك ، وإنما الواجب أن يطيعوه لا أن يطيعهم ، وذلك أن رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأصوب من رأي غيره ، ولو أطاع الناس في رأيهم لهلكوا ، فالواجب عليهم الانقياد إليه والرجوع إلى أمره ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } الآية .
{ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون }
{ واعلموا أن فيكم رسول الله } فلا تقولوا الباطل فإن الله يخبره بالحال { لو يطيعكم في كثير من الأمر } الذي تخبرون به على خلاف الواقع فيرتب على ذلك مقتضاه { لعنتُّم } لأثمتم دونه إثم التسبب إلى المرتب { ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان وزينه } حسنه { في قلوبكم وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان } استدراك من حيث المعنى دون اللفظ لأن من حبب إليه الإيمان الخ غايرت صفته صفة من تقدم ذكره { أولئك هم } فيه التفات عن الخطاب { الراشدون } الثابتون على دينهم .