{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ } أي : فللدين القويم والصراط المستقيم ، الذي أنزل الله به كتبه وأرسل رسله ، فادع إليه أمتك وحضهم عليه ، وجاهد عليه ، من لم يقبله ، { وَاسْتَقِمْ } بنفسك { كَمَا أُمِرْتَ } أي : استقامة موافقة لأمر الله ، لا تفريط ولا إفراط ، بل امتثالا لأوامر الله واجتنابا لنواهيه ، على وجه الاستمرار على ذلك ، فأمره بتكميل نفسه بلزوم الاستقامة ، وبتكميل غيره بالدعوة إلى ذلك .
ومن المعلوم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمر لأمته إذا لم يرد تخصيص له .
{ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } أي : أهواء المنحرفين عن الدين ، من الكفرة والمنافقين إما باتباعهم على بعض دينهم ، أو بترك الدعوة إلى الله ، أو بترك الاستقامة ، فإنك إن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ، ولم يقل : " ولا تتبع دينهم " لأن حقيقة دينهم الذي شرعه الله لهم ، هو دين الرسل كلهم ، ولكنهم لم يتبعوه ، بل اتبعوا أهواءهم ، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا .
{ وَقُلْ } لهم عند جدالهم ومناظرتهم : { آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ } أي : لتكن مناظرتك لهم مبنية على هذا الأصل العظيم ، الدال على شرف الإسلام وجلالته وهيمنته على سائر الأديان ، وأن الدين الذي يزعم أهل الكتاب أنهم عليه جزء من الإسلام ، وفي هذا إرشاد إلى أن أهل الكتاب إن ناظروا مناظرة مبنية على الإيمان ببعض الكتب ، أو ببعض الرسل دون غيره ، فلا يسلم لهم ذلك ، لأن الكتاب الذي يدعون إليه ، والرسول الذي ينتسبون إليه ، من شرطه أن يكون مصدقا بهذا القرآن وبمن جاء به ، فكتابنا ورسولنا لم يأمرنا إلا بالإيمان بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل ، التي أخبر بها وصدق بها ، وأخبر أنها مصدقة له ومقرة بصحته .
وأما مجرد التوراة والإنجيل ، وموسى وعيسى ، الذين لم يوصفوا لنا ، ولم يوافقوا لكتابنا ، فلم يأمرنا بالإيمان بهم .
وقوله : { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي : في الحكم فيما اختلفتم فيه ، فلا تمنعني عداوتكم وبغضكم ، يا أهل الكتاب من العدل بينكم ، ومن العدل في الحكم ، بين أهل الأقوال المختلفة ، من أهل الكتاب وغيرهم ، أن يقبل ما معهم من الحق ، ويرد ما معهم من الباطل ، { اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي : هو رب الجميع ، لستم بأحق به منا . { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } من خير وشر { لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي : بعد ما تبينت الحقائق ، واتضح الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، لم يبق للجدال والمنازعة محل ، لأن المقصود من الجدال ، إنما هو بيان الحق من الباطل ، ليهتدي الراشد ، ولتقوم الحجة على الغاوي ، وليس المراد بهذا أن أهل الكتاب لا يجادلون ، كيف والله يقول : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وإنما المراد ما ذكرنا .
{ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } يوم القيامة ، فيجزي كلا بعمله ، ويتبين حينئذ الصادق من الكاذب .
قوله تعالى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } .
هذه الآية من عظيمات الآيات المشتملة على فيض من المعاني الجليلة العظام . وهي تتضمن عشرا من المعاني المستقلة . فقالوا : لا نظير لها في هذه الصفة إلا آية الكرسي ؛ فهي كذلك عشرة فصول كهذه . وتلكم هي الآيات وهي : قوله : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ } أي ادع إلى ما أوحينا إليك من الكتاب الحكيم ، والدين القويم ، دين الإسلام الكامل العظيم ؛ فهو جماع الخير والحق والصلاح والرحمة بما حواه من قواعد وأسس ثوابت تراعي فطرة الإنسان وتحقق للبشرية كامل السعادة والنجاة والصلاح في المعاش والمعاد .
قوله : { وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } أي استقم على عبادة الله وطاعته والامتثال لأوامره . أو استقم على تبليغ الرسالة . رسالة الإسلام العظيم ؛ بعقيدته الراسخة المرغوبة وتشريعه الكبير الشامل .
قوله : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } يحذِّر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في كل زمان ، أهواء المشركين والظالمين والمضلين . يحذِّرُ الله عباده المؤمنين على مرِّ الزمن شرَّ الافتتان بالطغاة والمفسدين والمجرمين من الناس . أولئك الذين يريدون للإسلام أن يتزعزع ويتبدَّد وينهار ، وللمسلمين أن يضعفوا ويتهافتوا تحت ضربات الضلال والفتنة والإغواء لكي يزيغوا عن دينهم الإسلام فيركبوا متن الباطل والإباحية والردة جريا وراء الكافرين على اختلاف مللهم وأهوائهم وأحزابهم ومسمياتهم .
يحذِّر الله المؤمنين على الدوام أهواء الكافرين المضلين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين بالغ الكيد .
قوله : { وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ } أي صدَّقت بسائر الكتب السماوية المنزلة من عند الله على النبيين والمرسلين . فلا نفرِّقُ في ذلك بين أحد منهم ؛ فكلهم مرسلون صادقون مؤتمنون .
قوله : { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أمرني ربي أن أعدل بينكم في الحكم فأقضي بالحق والصدق . ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا تحتذي به البشرية في العدل وإحقاق الحق بين الناس . فقد كان أبعد الخلْق عن الحيف والجور . ولم يعرف الثَّقَلان من أهل هذه الأرض أحدا أعدل وأصدق وأعظم استقامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله : { اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي الله مالكنا ومالككم . وهو يخاطب بذلك أهل الكتابين ، والتوراة والإنجيل . والمراد أن يقال لهم : إننا مقرّون لله بالوحدانية والربوبية فهو وحده المعبود لا إله غيره .
قوله : { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي لنا جزاءُ ما اكتسبنا ولكم جزاء ما اكتسبتم . فنحن براء من أعمالكم وأنتم براء من أعمالنا .
قوله : { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي لا خصومة بيننا وبينكم . فقد ظهر الحق واتضح البرهان فلم يبق بعد ذلك إلا العناد منكم . وليس بعد العناد من حجة أو خصومة أو جدال .
قوله : { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } إلى الله المرجع والمعاد يوم الحساب{[4093]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.