تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (153)

ولما بين كثيرا من الأوامر الكبار ، والشرائع المهمة ، أشار إليها وإلى ما هو أعم منها فقال : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا } أي : هذه الأحكام وما أشبهها ، مما بينه الله في كتابه ، ووضحه لعباده ، صراط الله الموصل إليه ، وإلى دار كرامته ، المعتدل السهل المختصر .

{ فَاتَّبِعُوهُ } لتنالوا الفوز والفلاح ، وتدركوا الآمال والأفراح . { وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } أي : الطرق المخالفة لهذا الطريق { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } أي : تضلكم عنه وتفرقكم يمينا وشمالا ، فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم ، فليس ثم إلا طرق توصل إلى الجحيم .

{ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإنكم إذا قمتم بما بينه الله لكم علما وعملا صرتم من المتقين ، وعباد الله المفلحين ، ووحد الصراط وأضافه إليه لأنه سبيل واحد موصل إليه ، والله هو المعين للسالكين على سلوكه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (153)

الواو عاطفة على جملة : { ألاَّ تشركوا به شيئاً } [ الأنعام : 151 ] لتماثل المعطوفات في أغراض الخطاب وترتيبه ، وفي تخلّل التّذييلات التي عَقِبت تلك الأغراض بقوله : { لعلّكم تعقلون } [ الأنعام : 151 ] { لعلّكم تذّكرون } [ الأنعام : 152 ] { لعلّكم تتّقون } وهذا كلام جامع لاتباع ما يجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي في القرآن .

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر : { أنّ } بفتح الهمزة وتشديد النّون .

وعن الفراء والكسائي أنَّه معطوف على : { ما حَرّم ربُّكم } [ الأنعام : 151 ] ، فهو في موضع نصب بفعل : { أتْلُ } والتّقدير : وأتْلُ عليكم أنّ هذا صراطي مستقيماً .

وعن أبي عليّ الفارسي : أنّ قيَاس قول سيبويه أنْ تحمل ( أنّ ) ، أي تُعلَّق على قوله : { فاتبعوه } ، والتّقدير : ولأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ، على قياس قول سيبويه في قوله تعالى : { لإيلاف قريش } [ قريش : 1 ] . وقال في قوله تعالى : { وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } [ الجن : 18 ] المعنى : ولأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً اهـ .

ف { أنّ } مدخولة للام التّعليل محذوفة على ما هو المعروف من حذفها مع ( أنّ ) و ( أنْ ) . وتقدير النّظم : واتَّبعوا صراطي لأنَّه صراط مستقيم ، فوقع تحويل في النّظم بتقدير التّعليل على الفعل الذي حقّه أن يكون معطوفاً ، فصار التّعليل معطوفاً لتقديمه ليفيد تقديمه تفرّع المعلّل وتسبّبه ، فيكون التّعليل بمنزلة الشّرط بسبب هذا التّقديم ، كأنَّه قيل : لمّا كان هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : { وإنّ } بكسر الهمزة وتشديد النّون فلا تحويل في نظم الكلام ، ويكون قوله : { فاتبعوه } تفريعاً على إثبات الخبر بأنّ صراطه مسقيم . وقرأ ابن عامر ، ويعقوب : « وأنْ » بفتح الهمزة وسكون النّون على أنَّها مخفّفة من الثّقيلة واسمها ضمير شأن مُقدر والجملة بعده خبره ، والأحسن تخريجها بكون { أنْ } تفسيرية معطوفة على : { ألاَّ تشركوا } [ الأنعام : 151 ] . ووجه إعادة { أنْ } اختلاف أسلوب الكلام عمّا قبله .

والإشارة إلى الإسلام : أي وأنّ الإسلام صراطي ؛ فالإشارة إلى حاضر في أذهان المخاطبين من أثر تكرّر نزول القرآن وسماع أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، بحيث عرفه النّاس وتبيّنوه ، فنزلّ منزلة المشاهد ، فاستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع لتعيين ذات بطريق المشاهدة مع الإشارة ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع التّشريعات والمَواعظ التي تقدّمت في هذه السّورة ، لأنَّها صارت كالشّيء الحاضر المشاهد ، كقوله تعالى : { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } [ آل عمران : 44 ] .

والصّراط : الطّريق الجادة الواسعة ، وقد مَرّ في قوله تعالى : { اهدنا الصّراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] والمراد الإسلام كما دلّ عليه قوله في آخر السّورة : { قل إنَّنِي هداني ربِّي إلى صراط مستقيم ديناً قيّماً } [ الأنعام : 161 ] لأنّ المقصود منها تحصيل الصّلاح في الدّنيا والآخرة فشبّهت بالطّريق الموصل السّائر فيه إلى غرضه ومقصده .

ولمّا شبّه الإسلام بالصّراط وجعل كالشّيء المشاهد صار كالطّريق الواضحة البيّنة فادّعي أنَّه مستقيم ، أي لا اعوجاج فيه لأنّ الطّريق المستقيم أيسر سلوكاً على السائر وأسرع وصولاً به .

والياء المضاف إليها ( صراط ) تعود على الله ، كما بيّنه قوله : { وإنَّك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله } [ الشورى : 52 ، 53 ] على إحدى طريقتين في حكاية القول إذا كان في المقول ضمير القائل أو ضمير الآمر بالقول ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربِّي وربّكم } في سورة العقود ( 117 ) ، وقد عدل عن طريقة الغيبة ، التي جرى عليها الكلام من قوله : { ما حرم ربكم } [ الأنعام : 151 ] لِغرض الإيماء إلى عصمة هذا الصّراط من الزلل ، لأنّ كونه صراط الله يكفي في إفادة أنَّه موصل إلى النّجاح ، فلذلك صحّ تفريع الأمر باتِّباعه على مجرّد كونه صراط الله . ويجوز عود الياء إلى النّبيء المأمور بالقول ، إلاّ أنّ هذا يستدعي بناء التّفريع بالأمر باتّباعه على ادّعاء أنَّه واضح الاستقامة ، وإلاّ فإنّ كونه طريق النّبيء لا يقتضي تسبّب الأمر باتَّباعه عنه بالنّسبة إلى المخاطبين المكذّبين .

وقوله : { مستقيماً } حال من اسم الإشارة ، وحسَّن وقوعه حالاً أنّ الإشارة بنيت على ادّعاء أنَّه مشاهد ، فيقتضي أنَّه مستحضر في الذّهن بمجمل كلياته وما جرّبوه منه وعرفوه ، وأنّ ذلك يريهم أنَّه في حال الاستقامة كأنَّه أمر محسوس ، ولذلك كثر مجيء الحال من اسم الإشارة نحو : { وهذا بعلي شيخاً } [ هود : 72 ] ولم يأتوا به خبراً .

والسُبُل : الطّرق ، ووقوعها هنا في مقابلة الصّراط المستقيم يدلّ على صفة محذوفة ، أي السّبل المتفرّقة غير المستقيمة ، وهي التي يسمّونها : بُنيات الطّريق ، وهي طرق تتشعّب من السبيل الجادّة ذاهبة ، يسلكها بعض المارّه فرادى إلى بيوتهم أو مراعيهم فلا تبلغ إلى بلد ولا إلى حَيّ ، ولا يستطيع السّيرَ فيها إلاّ مَن عَقَلها واعتادها ، فلذلك سبب عن النّهي قوله : { فتفرق بكم عن سبيله } ، أي فإنَّها طرق متفرّقة فهي تجعل سالكها متفرّقاً عن السّبيل الجادّة ، وليس ذلك لأنّ السّبيل اسم للطّريق الضيقة غير الموصّلة ، فإنّ السّبيل يرادف الصّراط ألا ترى إلى قوله : { قل هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] ، بل لأنّ المقابلة والإخبار عنها بالتَّفرق دلّ على أنّ المراد سبُل خاصّة موصوفة بغير الاستقامة .

والباء في قوله : { بكم } للمصاحبة : أي فتتفرّق السّبل مصاحبة لكم ، أي تتفرّقون مع تفرّقها ، وهذه المصاحبة المجازية تجعل الباء بمنزلة همزة التّعدية كما قاله النّحاة ، في نحو : ذَهَبْتُ بزيد ، أنَّه بمعنى أذهبته ، فيكون المعنى فتُفَرّقَكُم عن سبيله ، أي لا تلاقون سبيلَه .

والضّمير المضاف إليه في : { سبيله } يعود إلى الله تعالى بقرينة المقام ، فإذا كان ضمير المتكلّم في قوله : { صراطي } عائداً لله كان في ضمير { سبيله } التفاتاً عن سبيلي .

روى النّسائي في « سننه » ، وأحمد ، والدارمي في « مسنديهما » ، والحاكم في « المستدرك » ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطّاً ثمّ قال : " هذا سبيل الله ، ثم خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله ( أي عن يمين الخطّ المخطوط أوّلاً وعن شماله ) ثمّ قال : « هذه سُبُل على كلّ سبيل منها شيطانٌ يدعو إليها " ثمّ قرأ : { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ولا تتَّبعوا السّبل فتَتَفَرّق بكم عن سبيله } . وروى أحمد ، وابن ماجة ، وابن مردويه ، عن جابر بن عبد الله قال : " كنّا عند النّبيء صلى الله عليه وسلم فخطّ خطّاً وخَطّ خطَّين عن يمينه وخَطّ خطيَّن عن يساره ثمّ وضع يده في الخطّ الأوْسط ( أي الذي بين الخطوط الأخرى ) فقال : هذه سبيل الله ، ثم تَلاَ هذه الآية : { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } وما وقع في الرّواية الأولى ( وخَطّ خطوطاً ) هو باعتبار مجموع ما على اليمين والشّمال " وهذا رسمه على سبيل التّقريب :

وقوله : { ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } تذييل تكرير لمِثْليه السّابقين ، فالإشارة ب { ذلكمْ } إلى الصّراط ، والوصاية به معناها الوصاية بما يحتوي عليه .

وجعل الرّجاء للتّقوى لأنّ هذه السّبيل تحتوي على ترك المحرّمات ، وتزيد بما تحتوي عليه من فعل الصّالحات ، فإذا اتَّبعها السّالك فقد صار من المتّقين أي الذين اتَّصفوا بالتَّقوى بمعناها الشّرعي كقوله تعالى : { هدى للمتّقين } [ البقرة : 2 ] .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (153)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وهذا الذي وصاكم به ربكم أيها الناس في هاتين الآيتين من قوله:"قُلْ تَعَالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ..." وأمركم بالوفاء به، هو صراطه، يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده. "مُسْتَقِيما "يعني: قويما لا اعوجاج به عن الحقّ. "فاتّبِعُوهُ" يقول: فاعملوا به، واجعلوه لأنفسكم منهاجا تسلكونه فاتبعوه. "وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ" يقول: ولا تسلكوا طريقا سواه، ولا تركبوا منهجا غيره، ولا تبغوا دينا خلافه من اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان وغير ذلك من الملل، فإنها بدع وضلالات.

"فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ" يقول: فيشتت بكم إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل ولا طرق ولا أديان، اتباعكم إياها "عن سبيله"، يعني: عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه، وهو الإسلام الذي وصّى به الأنبياء وأمر به الأمم قبلكم. "ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ" يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم: "إنّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ" وصاكم به لعلكم تتقون، يقول: لتتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها، وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها فيحلّ بكم نقمته وعذابه...

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا حماد، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطّا، فقال: «هَذَا سَبِيلُ اللّهِ» ثم خطّ عن يمين ذلك الخطّ وعن شماله خطوطا، فقال: «هَذِهِ سُبُلٌ على كُلّ سَبِيلٍ مِنْها شَيْطَانٌ يَدْعُوا إلَيْها». ثم قرأ هذه الآية: "وأنّ هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيما فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ"...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

...يحتمل قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما} أصل الدين ووحدانية الله وإخلاص الأنفس له على غير إشراك في عبادته وألوهيته، أو أن يكون قوله تعالى {وأن هذا} الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي ذكر في القرآن أولا ذكر هذا، ولم يشر إلى شيء بعينه. فيحتمل ما ذكرنا...

وأصله أن السبيل المطلق سبيل الله، والدين المطلق دين الله والكتاب المطلق كتاب الله...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

الإشارة هي إلى الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بجملته...

وهذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما قرر هذه الشرائع، نبه على تعظيمها بالخصوص على وجه يعم جميع ما ذكر في السورة بل وفي غيرها، فقال عاطفاً على ما تقديره -عطفاً على المنهيات وأضداد المأمورات على وجه يشمل سائر الشريعة -: ولا تزيغوا عن سبيلي: {وأن} أي ولأن- على قراءة الجماعة بالفتح، أي اتبعوه لذلك، وعلى قراءة ابن عامر ويعقوب بالكسر هو ابتداء {هذا} أي الذي شرعته لكم {صراطي} حال كونه {مستقيماً فاتبعوه} أي بغاية جهدكم لأنه الجامع للعباد على الحق الذي فيه كل خير. ولما كان الأمر باتباعه متضمناً للنهي عن غيره، صرح به تأكيداً لأمره فقال: {ولا تتبعوا السبل} أي المنشعبة عن الأهوية المفرقة بين العباد، ولذا قال مسبباً {فتفرق بكم} أي تلك السبل الباطلة {عن سبيله} ولما مدحه آمراً به ناهياً عن غيره مبيناً للعلة في ذلك، أكد مدحه فقال: {ذلكم} أي الأمر العظيم من اتباعه {وصّاكم به}. ولما كان قد حذر من الزلل عنه، وكان من المعلوم أن من ضل عن الطريق الأقوم وقع في المهالك، وكان كل من يتخيل أنه يقع في مهلك يخاف، قال: {لعلكم تتقون} أي اتبعوه واتركوا غيره ليكون حالكم حال من يرجى له أن يخاف من أن يزل فيضل فيهلك، وهذا كما مدحه سبحانه سابقاً في قوله {وهذا صراط ربك مستقيماً} [الأنعام: 126]، {قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون} [الأنعام: 126] وفصل ما هنا من الأحكام في ثلاث آيات، وختم كل آية لذلك بالوصية ليكون ذلك آكد في القول فيكون أدعى للقبول، وختم كل واحدة منها بما ختم لأنه إذا كان العقل دعا إلى التذكر فحمل على التقوى...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِه} أي والعاشر مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم هو أن هذا الذي أدعوكم إليه من الدين القويم والشرع الحنفي العذب المورد السائغ المشرب بما تلوته عليكم من هذه السورة المشتملة على هذه الوصايا التي لا يكابر ذو مسكة من عقل في حسنها وفضلها –أو- أن هذا القرآن الذي أدعوكم إليه وأدعوكم به إلى ما يحييكم: هو صراطي ومنهاجي الذي أسلكه إلى مرضاة الله تعالى ونيل سعادة الدنيا والآخرة أشير إليه مستقيما ظاهر الاستقامة لا يضل سالكه، ولا يهتدي تاركه، فاتبعوه وحده ولا تتبعوا السبل الأخرى التي تخالفه وهي كثيرة فتتفرق بكم عن سبيله بحيث يذهب كل منكم في سيبل ضلالة منها ينتهي بها إلى الهلكة، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال، وليس أمام تارك النور إلا الظلمات. وقد أضيف الصراط بهذا المعنى إلى الله تعالى إذ هو الذي شرعه وإلى الدعاة إليه والسالكين له من النبيين وغيرهم في سورة الفاتحة. والظاهر أن إضافته هنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه هو المخاطب للناس بهذه الوصية وفعلها مسند إليه تعالى بضمير الغيبة.

وقد جمع في هذه الوصية الجامعة بين الأمر بالحق والنهي عن مقابله، وهو الباطل.

قرأ حمزة والكسائي: {وإن هذا صراطي} بكسر همزة إن والباقون بفتحها، فأما كسرها فعلى أن الكلام مستأنف في بيان وصية هي أم الوصايا الجامعة لما قبلها. ولغيرها وأما الفتح فعلى تقدير لام التعليل، فهو يقول: ولأجل أن هذا صراطي مستقيما لا عوج فيه عليكم أن تتبعوه إن كنتم تؤثرون الاستقامة على الاعوجاج، وترجحون الهدى على الضلال...

وقد أفرد الصراط المستقيم وهو سبيل الله وجمع السبل المخالفة له لأن الحق واحد والباطل ما خالفه، وهو كثير، فيشمل الأديان الباطلة من مخترعة وسماوية محرفة ومنسوخة، والبدع والشبهات، وبها فسرها مجاهد هنا. والمعاصي كما في حديث النواس بن سمعان. وقد نهى عن التفرق في صراط الحق وسبيله فإن التفرق في الدين الواحد هو جعله مذاهب يتشيع لكل منها شيعة وحزب ينصرونه ويتعصبون له، ويخطئون ما خالفه، ويرمون أتباعه بالجهل والضلال أو الكفر أو الابتداع، وذلك سبب لإضاعة الدين بترك طلب الحق المنزل فيه لأن كل شيعة تنظر فيما يؤيد مذهبها ويظهرها على مخالفيها لا في الحق لذاته والاستعانة على استبانته وفهم نصوصه ببحث أي عالم من العلماء بغير تعصب ولا تشيع، والحق لا يمكن أن يكون وقفا محبوسا من عند الله تعالى على عالم معين وعلى أتباعه، فكل باحث من العلماء يخطئ ويصيب، وهذا أمر قطعي ثابت بالعقل والنقل والإجماع، ولكن جميع المتعصبين للمذاهب الملتزمين لها مخالفون له، ومن كان كذلك لم يكن متبعا لصراط الله الذي هو الحق الواحد، وهذا ظاهر فيهم فإنهم إذا دعوا إلى كتاب الله وإلى ما صح من سنة رسوله أعرضوا عنهما وآثروا عليهما قول أي مؤلف لكتاب منتم إلى مذاهبهم.

ولما كان اتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق فيه هو الحق الموحد لأهل الحق الجامع لكلمتهم، وتوحيدهم وجمع كلمتهم هو الحافظ للحق المؤيد له والمعز لأهله كان التفرق فيه بما ذكر سببا لضعف المتفرقين وذلهم وضياع حقهم...

{ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} أي ذلكم الأمر باتباع صراط الحق المستقيم والنهي عن سبل الضلالات والأباطيل المعوجة وهو جامع الوصايا النافعة البعيد المرمى، الموصل إلى ما لا يحيط به الوصف من السعادة العظمى وصاكم الله به ليعدكم ويهيئكم لما يرجى لكل من اتبعه من اتقاء كل ما يشقيه ويرديه في دنياه وآخرته قال أبو حيان: ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار، إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية.

وأقول: إن كلمة التقوى تشمل كل ما يتقى من الضرر العام والخاص مهما يكن نوعه. وقد ذكرت في التنزيل في سياق الأوامر والنواهي المختلفة من عبادات ومعاملات، وآداب وقتال، وسنن اجتماع، وطعام وشراب، وعشرة وزواج، وغير ذلك فهي تفسر في كل موضع بحسبه كما بيناه من قبل. وهي في هذا الموضع تشمل جميع الأنواع لأنها جاءت في سياق اتباع صراط الله المستقيم الشامل لجميع أنواع الهداية الشخصية والاجتماعية.

وقد أشرت إلى موقع ختم الآية التي قبل هذه بالذكر والتذكر وما قبلهما بالعقل. وبعد تفسير الآيات كلها راجعت ما لدي من كتب التفسير فرأيت السيد الآلوسي قد أتى بما لم يأت به غيره مما قاله علماء البلاغة في نكت هذه الخواتيم للآيات الثلاث وهذا نصه:

وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه: {لعلكم تعقلون} وهذه بقوله تعالى {لعلكم تذكرون} لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق (غير) مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها، وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكيل والعدل في القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه القواعد الأساسية الواضحة التي تكاد تلخص العقيدة الإسلامية وشريعتها الاجتماعية مبدوءة بتوحيد الله ومختومة بعهد الله، وما سبقها من حديث الحاكمية والتشريع... هذه هي صراط الله المستقيم.. صراطه الذي ليس وراءه إلا السبل المتفرقة عن السبيل: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).. وهكذا يختم القطاع الطويل من السورة الذي بدأ بقوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكماً، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً).. وانتهى هذه النهاية، بهذا الإيقاع العريض العميق.. وضم بين المطلع والختام قضية الحاكمية والتشريع، كما تبدو في مسألة الزروع والأنعام، والذبائح والنذور، إلى كل القضايا العقيدية الأساسية، ليدل على أنها من هذه القضايا. التي أفرد لها السياق القرآني كل هذه المساحة؛ وربطها بكل محتويات السورة السابقة التي تتحدث عن العقيدة في محيطها الشامل؛ وتتناول قضية الألوهية والعبودية ذلك التناول الفريد. إنه صراط واحد -صراط الله- وسبيل واحدة تؤدي إلى الله.. أن يفرد الناس الله -سبحانه- بالربوبية، ويدينوا له وحده بالعبودية؛ وأن يعلموا أن الحاكمية لله وحده؛ وأن يدينوا لهذه الحاكمية في حياتهم الواقعية.. هذا هو صراط الله؛ وهذا هو سبيله.. وليس وراءه إلا السبل التي تتفرق بمن يسلكونها عن سبيله. (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).. فالتقوى هي مناط الاعتقاد والعمل. والتقوى هي التي تفيء بالقلوب إلى السبيل...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... وتقدير النّظم: واتَّبعوا صراطي لأنَّه صراط مستقيم، فوقع تحويل في النّظم بتقدير التّعليل على الفعل الذي حقّه أن يكون معطوفاً، فصار التّعليل معطوفاً لتقديمه ليفيد تقديمه تفرّع المعلّل وتسبّبه، فيكون التّعليل بمنزلة الشّرط بسبب هذا التّقديم، كأنَّه قيل: لمّا كان هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه...

والإشارة إلى الإسلام: أي وأنّ الإسلام صراطي؛ فالإشارة إلى حاضر في أذهان المخاطبين من أثر تكرّر نزول القرآن وسماع أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، بحيث عرفه النّاس وتبيّنوه، فنزلّ منزلة المشاهد، فاستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع لتعيين ذات بطريق المشاهدة مع الإشارة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع التّشريعات والمَواعظ التي تقدّمت في هذه السّورة، لأنَّها صارت كالشّيء الحاضر المشاهد، كقوله تعالى: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} [آل عمران: 44].

والصّراط: الطّريق الجادة الواسعة، وقد مَرّ في قوله تعالى: {اهدنا الصّراط المستقيم} [الفاتحة: 6] والمراد الإسلام كما دلّ عليه قوله في آخر السّورة: {قل إنَّنِي هداني ربِّي إلى صراط مستقيم ديناً قيّماً} [الأنعام: 161] لأنّ المقصود منها تحصيل الصّلاح في الدّنيا والآخرة فشبّهت بالطّريق الموصل السّائر فيه إلى غرضه ومقصده.

ولمّا شبّه الإسلام بالصّراط وجعل كالشّيء المشاهد صار كالطّريق الواضحة البيّنة فادّعي أنَّه مستقيم، أي لا اعوجاج فيه لأنّ الطّريق المستقيم أيسر سلوكاً على السائر وأسرع وصولاً به.

والياء المضاف إليها (صراط) تعود على الله، كما بيّنه قوله: {وإنَّك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله} [الشورى: 52، 53] على إحدى طريقتين في حكاية القول إذا كان في المقول ضمير القائل أو ضمير الآمر بالقول، كما تقدّم عند قوله تعالى: {ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربِّي وربّكم} في سورة العقود (117)، وقد عدل عن طريقة الغيبة، التي جرى عليها الكلام من قوله: {ما حرم ربكم} [الأنعام: 151] لِغرض الإيماء إلى عصمة هذا الصّراط من الزلل، لأنّ كونه صراط الله يكفي في إفادة أنَّه موصل إلى النّجاح، فلذلك صحّ تفريع الأمر باتِّباعه على مجرّد كونه صراط الله. ويجوز عود الياء إلى النّبيء المأمور بالقول، إلاّ أنّ هذا يستدعي بناء التّفريع بالأمر باتّباعه على ادّعاء أنَّه واضح الاستقامة، وإلاّ فإنّ كونه طريق النّبيء لا يقتضي تسبّب الأمر باتَّباعه عنه بالنّسبة إلى المخاطبين المكذّبين.

وقوله: {مستقيماً} حال من اسم الإشارة، وحسَّن وقوعه حالاً أنّ الإشارة بنيت على ادّعاء أنَّه مشاهد، فيقتضي أنَّه مستحضر في الذّهن بمجمل كلياته وما جرّبوه منه وعرفوه، وأنّ ذلك يريهم أنَّه في حال الاستقامة كأنَّه أمر محسوس، ولذلك كثر مجيء الحال من اسم الإشارة نحو: {وهذا بعلي شيخاً} [هود: 72] ولم يأتوا به خبراً.

والسُبُل: الطّرق، ووقوعها هنا في مقابلة الصّراط المستقيم يدلّ على صفة محذوفة، أي السّبل المتفرّقة غير المستقيمة، وهي التي يسمّونها: بُنيات الطّريق، وهي طرق تتشعّب من السبيل الجادّة ذاهبة، يسلكها بعض المارّة فرادى إلى بيوتهم أو مراعيهم فلا تبلغ إلى بلد ولا إلى حَيّ، ولا يستطيع السّيرَ فيها إلاّ مَن عَقَلها واعتادها، فلذلك سبب عن النّهي قوله: {فتفرق بكم عن سبيله}، أي فإنَّها طرق متفرّقة فهي تجعل سالكها متفرّقاً عن السّبيل الجادّة، وليس ذلك لأنّ السّبيل اسم للطّريق الضيقة غير الموصّلة، فإنّ السّبيل يرادف الصّراط ألا ترى إلى قوله: {قل هذه سبيلي} [يوسف: 108]، بل لأنّ المقابلة والإخبار عنها بالتَّفرق دلّ على أنّ المراد سبُل خاصّة موصوفة بغير الاستقامة.

والباء في قوله: {بكم} للمصاحبة: أي فتتفرّق السّبل مصاحبة لكم، أي تتفرّقون مع تفرّقها، وهذه المصاحبة المجازية تجعل الباء بمنزلة همزة التّعدية كما قاله النّحاة، في نحو: ذَهَبْتُ بزيد، أنَّه بمعنى أذهبته، فيكون المعنى فتُفَرّقَكُم عن سبيله، أي لا تلاقون سبيلَه.

والضّمير المضاف إليه في: {سبيله} يعود إلى الله تعالى بقرينة المقام، فإذا كان ضمير المتكلّم في قوله: {صراطي} عائداً لله كان في ضمير {سبيله} التفاتاً عن سبيلي.

...وقوله: {ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} تذييل تكرير لمِثْليه السّابقين، فالإشارة ب {ذلكمْ} إلى الصّراط، والوصاية به معناها الوصاية بما يحتوي عليه.

وجعل الرّجاء للتّقوى لأنّ هذه السّبيل تحتوي على ترك المحرّمات، وتزيد بما تحتوي عليه من فعل الصّالحات، فإذا اتَّبعها السّالك فقد صار من المتّقين أي الذين اتَّصفوا بالتَّقوى بمعناها الشّرعي كقوله تعالى: {هدى للمتّقين} [البقرة: 2].

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

... إِنّ ها هنا عدّة نقاط يجب أن نقف عندها، وهي:

ـ الشروع بالتوحيد والختم بنبذ الاختلاف: إِنّ الملاحَظ في هذه الآيات أنّ هذه التعاليم والأوامر العشرة بدأت بتحريم الشرك الذي هو في الواقع المنشأ الأصلي لجميع المفاسد الاجتماعية والمحرمات الإِلهية، وانتهت ـ أيضاً ـ بالدّعوة إِلى نبذ التفرق والاختلاف الذي يُعدُّ هو الآخر نوعاً من الشرك العملي. إِنّ هذا الموضوع يكشف عن أهمية مسألة التوحيد في جميع الأُصول والفروع الإِسلامية، وبالتالي يكشف عن أن التوحيد ليس مجرّد أصل عقائدي بحت، بل يمثّل روح التعاليم الإِسلامية برمتها.

ـ التأكيدات المتتابعة لقد تكرِّرت عبارة (ذلكم وصاكم به) للتأكيد عند ختام كل آية من الآيات الثلاث، مع فوارق في الفواصل طبعاً، فقد ختمت العبارة في الآية الأُولى بجملة:: (لعلّكم تعقلون)، وفي الآية الثّانية بجملة: (لعلّكم تذكرون) وفي الآية الثّالثة بجملة: (لعلّكم تتقون). ويبدو أنّ هذه التعابير المختلفة إِشارة إِلى النقطة التّالية وهي: أنّ المرحلة الأُولى عند تلقّي أيّ حكم من الأحكام هو مرحلة «التعقل» أي فهم ذلك الحكم وإِدراكه. والمرحلة الثّانية هي: مرحلة «التذكر» وهضم ذلك الحكم وامتصاص مفاده واستيعاب محتواه. والمرحلة الثّالثة هي: المرحلة النهائية، وهي مرحلة العمل والتطبيق، وقد أسماها القرآن بمرحلة «التقوى». صحيح أنّ كل واحدة من هذه العبارات (والمراحل) جاءت بعد ذكر عدّة تعاليم من التعاليم العشرة، إِلاّ أنّه من الواضح أنّ هذه المراحل لا تختص بأحكام معيّنة، لأنّ كل حكم من الأحكام، وكل تعليم من التعاليم بحاجة إِلى «التعقل» و«التذكر» و«التقوى والعمل»، إِنّما هي رعاية جهات الفصاحة والبلاغة، التي اقتضت توزيع هذه التأكيدات (والمراحل) في أثناء تلك التعاليم العشرة. 3 ـ التعاليم والأوامر الخالدة لعلّنا في غنىِّ عن التذكير بأنّ هذه التعاليم والأوامر العشرة لا تختص بالدين الإِسلامي، بل كان نظيرها في جميع الشرائع المتقدمة عليه وإِن كانت قد حظيت في الإِسلام بعناية أكبر وأوسع. وفي الحقيقة أنّ هذه التعاليم ممّا يدركه العقل السويّ والضمير السليم بوضوح وجلاء وبعبارة أُخرى: هي من «المستقلات العقلية» ولهذا فإِنّها كما ذكرت في القرآن الكريم، تلاحظ بشكل أو بآخر في شرائع الأنبياء الآخرين.

ـ أهمية الإِحسان إِلى الوالدين إِنّ ذكر مسألة الإِحسان للوالدين ـ بعد مكافحة الشرك مباشرة، وقبل ذكر تعاليم مهمّة مثل حرمة قتل النفس والأمر بالعدل ـ يدلّ على الأهمية القصوى التي يحظى بها حق الوالدين في التعاليم الإِسلامية. ويتّضح هذا الأمر أكثر عندما نرى أن القرآن الكريم ذكر بدل تحريم أذى الوالدين الذي يلائم سياق هذه الآية في استعراضها للمحرمات، مسألة الإِحسان إِليهما، يعني أنّه ليس إزعاج الوالدين وإِيذاؤهما محرّماً فقط، بل يجب الإِحسان إِليهما. والأجمل من هذا كلّه أنّ كلمة «الإِحسان» عُدِّيت بحرف «الباء» فقال: (وبالوالدين إِحساناً) ونحن نعلم أن الإِحسان قد يعدّى بإِلى وقد يُعَدّى بالباء، فإِذا عُدِّ بإِلى كان معناه: الإِحسان إِلى الآخر سواء كان بصورة مباشرة، أو مع الواسطة. ولكنّه عندما يُعدّى بالباء يكون معناه: الإِحسان بصورة مباشرة ومن دون واسطة. وعلى هذه الأساس فإِنّ هذه الآية تؤكّد أنّ موضوع الإِحسان إِلى الوالدين له من الأهمية البالغة بحيث يجب على الإِنسان أن يباشر الاحسان بنفسه إلى الوالدين. 5 ـ قتل الأولاد من الإِملاق والجوع؛ يستفاد من هذه الآيات أنّ العرب في العهد الجاهلي لم يقتصروا على قتل البنات ووأدهن بسبب بعض العصبيات الخاطئة فحسب، بل كانوا يقتلون أولادهم الذين كانوا يُعَدُّون ثروة كبرى في المجتمع يومذاك، وذلك بسبب الفقر وخشيتهم من الفاقة، أيضاً. والله تعالى يلفت نظرهم إِلى مائدة النعم الإِلهيّة الواسعة التي يستفيد منها حتى أضعف الموجودات، ونهاهم سبحانه عن ذلك...

ـ ما هو المقصود من الفواحش؟ «الفواحش» جمع «فاحشة» يعني ما عظم قبحه من الذنوب. وعلى هذا الأساس فإِنّ نقض العهد، والتطفيف والشرك وما شابه ذلك وإِن كانت من الذنوب الكبار، إِلاّ أنّ ذكرها في مقابل الفواحش إِنّما هو لأجل التفاوت المفهومي بينها.

ـ لا تقربوا هذه الذّنوب في الآيات الحاضرة ورد التعبير بجملة لا تقربوا في موضعين، وقد تكرر هذا الموضوع (وهذا النهي) في القرآن لبعض الذنوب الأُخر أيضاً، ويبدو أنَّ هذا التعبير قد ورد في مجالِ الذنوبِ المثيرة كالزنا، وأموال اليتامى وما شابهها، لهذا يحذّر الناس من الاقتراب إِليها لكي لا يقعوا تحت إِثارتها. 8 ـ الذُّنوب الظاهرة والباطنة لا شك في أنّ جملة (ما ظهر منها وما بطن) تشمل كل الذنوب القبيحة الظاهرة، والخفية... 9 ـ الوصايا العشر عند اليهود؛ نلاحظ في التّوراة في الفصل 20 سفر الخروج أحكاماً عشرة تعرف عند اليهود بالوصايا، وهي تبدأ من الجملة الثانية وتنتهي عند السابعة عشرة من ذلك الفصل. ولكن بالمقارنة بين الوصايا العشر، وبين ما جاء في الآيات الحاضرة يتضح أنّ فرقاً واسعاً وبوناً شاسعاً بين هذين البرنامجين، وعلى أنّه لا يمكن الاطمئنان إِلى أنّ التّوراة الحاضرة لم تنحرف في هذا المجال، كما تعرضت للتحريف في الأقسام الأُخرى. ولكنّ ما هو مسلّم هو أنّ الوصايا العشر الموجودة في التّوراة وإن كانت مشتملة على المسائل اللازمة، إِلاّ أنّها أقلُ مستوىً بكثير ـ من حيث السعة والأبعاد الأخلاقية، والاجتماعية والعقيدية ـ من مفاد الآيات الحاضرة...