تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

{ 71 - 73 ْ } { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ْ }

يقول تعالى لنبيه : واتل على قومك { نَبَأَ نُوحٍ ْ } في دعوته لقومه ، حين دعاهم إلى الله مدة طويلة ، فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا ، فلم يزدهم دعاؤه إياهم إلا طغيانًا ، فتمللوا منه وسئموا ، وهو عليه الصلاة والسلام غير متكاسل ، ولا متوان في دعوتهم ، فقال لهم : { يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ ْ } أي : إن كان مقامي عندكم ، وتذكيري إياكم ما ينفعكم {[407]} { بِآيَاتِ اللَّهِ ْ } الأدلة الواضحة البينة ، قد شق عليكم وعظم لديكم ، وأردتم أن تنالوني بسوء أو تردوا الحق . { فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ْ } أي : اعتمدت على الله ، في دفع كل شر يراد بي ، وبما أدعو إليه ، فهذا جندي ، وعدتي . وأنتم ، فأتوا بما قدرتم عليه ، من أنواع العَدَدَ والعُددَ .

{ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ْ } كلكم ، بحيث لا يتخلف منكم أحد ، ولا تدخروا{[408]}  من مجهودكم شيئًا .

{ و ْ } أحضروا { شُرَكَاءَكُمْ ْ } الذي كنتم تعبدونهم وتوالونهم من دون الله رب العالمين .

{ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ْ } أي : مشتبهًا خفيًا ، بل ليكن ذلك ظاهرًا علانية .

{ ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ْ } أي : اقضوا علي بالعقوبة والسوء ، الذي في إمكانكم ، { وَلَا تُنْظِرُونِْ } ؛ أي : لا تمهلوني ساعة من نهار . فهذا برهان قاطع ، وآية عظيمة على صحة رسالته ، وصدق ما جاء به ، حيث كان وحده لا عشيرة تحميه ، ولا جنود تؤويه .

وقد بادأ{[409]}  قومه بتسفيه آرائهم ، وفساد دينهم ، وعيب آلهتهم . وقد حملوا من بغضه ، وعداوته ما هو أعظم من الجبال الرواسي ، وهم أهل القدرة والسطوة ، وهو يقول لهم : اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ومن استطعتم ، وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد ، فأوقعوا بي إن قدرتم على ذلك ، فلم يقدروا على شيء من ذلك . فعلم أنه الصادق حقًا ، وهم الكاذبون فيما يدعون ، ولهذا قال : { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ْ }


[407]:- في النسختين: ما ينفعهم.
[408]:- في النسختين: ولا تذخرون.
[409]:- في النسختين: بادئ.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

تقدم في الأعراف الكلام على لفظة { نوح } و «المقام » وقوف الرجل لكلام أو خطبة أو نحوه ، و «المُقام بضم الميم إقامته ساكناً في موضع أو بلد ، ولم يقرأ هنا بضم الميم{[6166]} و » تذكيره « : وعظه وزجره ، والمعنى : يا قوم إن كنتم تستضعفون حالي ودعائي لكم إلى الله فإني لا أبالي عنكم{[6167]} لتوكلي على الله تعالى فافعلوا ما قدرتم عليه ، وقرأ السبعة وجهور الناس وابن أبي إسحاق وعيسى : » فأجمعوا «من أجمع الرجل على الشيء إذا عزم عليه ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . *** هل أغدونْ يوماً وأمر مجمع{[6168]} ؟

ومنه قول الآخر : [ الخفيف ]

أجمعوا أمرهم بليلِ فلما*** أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء{[6169]}

ومنه الحديث ما لم يجمع مكثاً{[6170]} ومنه قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]

ذكر الورود بها فأجمع أمرَهُ*** شوقاً وأقبلَ حينه يتتبع{[6171]}

وقرأ نافع فيما روى عنه الأصمعي وهي قراءة الأعرج وأبي رجاء وعاصم الجحدري والزهري والأعمش » فاجمَعوا بفتح الميم من جمع إذا ضم شيئاً إلى شيء ، و { أمركم } يريد به قدرتكم وحياتكم ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى : { فتولى فرعون فجمع كيده }{[6172]} وكل هؤلاء نصب «الشركاء » ، ونصب قوله : { شركاءكم } ، يحتمل أن يعطف على قوله { أمركم } ، وهذا على قراءة «فاجمعوا » بالوصل{[6173]} ، وأما من قرأ : «فأجمعوا » بقطع الألف فنصب «الشركاء » بفعل مضمر كأنه قال : وادعوا شركاءكم فهو من باب قول الشاعر : [ المتقارب ]

*شراب اللبان وتمر وأقط*{[6174]}

ومن قول الآخر : [ مجزوء الكامل مرفل ]

ورأيت زوجك في الوغى*** متقلداً سيفاً ورمحا{[6175]}

ومن قول الآخر : [ الرجز ]

علفتها تبناً وماء بارداً*** حتى شَأت همالة عيناها{[6176]}

وفي مصحف أبي بن كعب : «فأجمعوا وادعوا شركاءكم » ، قال أبو علي : وقد ينتصب «الشركاء » بواو «مع » ، كما قالوا : جاء البريد والطيالسة ، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب وأبو عمرو فيما روي عنه «وشركاؤكم » بالرفع عطفاً على الضمير في { أجمعوا } ، وعطف على الضمير قبل تأكيده لأن الكاف والميم في { أمركم } ناب مناب أنتم المؤكد للضمير ، ولطول الكلام أيضاً ، وهذه العبارة أحسن من أن يطول الكلام بغير ضمير{[6177]} ، ويصح أن يرتفع بالابتداء والخبر مقدر تقديره وشركاؤهم فليجمعوا ، وقرأت فرقة «وشركائكم » بالخفض على العطف على الضمير في قوله : { أمركم } ، التقدير وأمر شركائكم ، فهو كقول الشاعر [ العجّاج ] :

أكل امرىء تحسبين أمرأً*** ونار توقد بالليل نارا{[6178]}

أي وكل نار ، والمراد بالشركاء في هذه الآية الأنداد من دون الله ، فأضافهم إليهم إذ يجعلونهم شركاء بزعمهم ، وقوله { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } ، أي ملتبساً مشكلاً ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الهلال ، «فإن غم عليكم » ومنه قول الراجز :

ولو شهدت الناس إذا تكمّوا*** بغمة لو لم تفرجْ غمّوا{[6179]}

وقوله { ثم اقضوا إلي } ومعناه أنفذوا قضاءكم نحوي ، وقرأ السدي بن ينعم : «ثم أفضوا » بالفاء وقطع الألف ، ومعناه : أسرعوا وهو مأخوذ من الأرض الفضاء أي اسلكوا إلي بكيدكم واخرجوا معي وبي إلى سعة{[6180]} وجلية ، وقوله { ولا تنظرون } أي لا تؤخرون والنظرة التأخير .


[6166]:- قال أبو حيان: "وليس كما ذكر، بل قرأ [مُقامي] بضم الميم أبو مجلز، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء".
[6167]:-تتعدى (بالَى) بنفسها أو بالباء فيقال: ما أباليه، وما أبالي بالأمر، ولم يسمع أنها تتعدى بعن.
[6168]:- هذا عجز بيت أورده صاحب "اللسان" في (جمَعَ)، وهو من شواهد الفراء في "معاني القرآن"، وذكره القرطبي وأبو حيان في "البحر المحيط"، وهو كذلك في "الصحاح" و"التاج"، والبيت بتمامه: يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع؟ قال في "اللسان": "وجمع أمره، وأجمعه، وأجمع عليه: عزم عليه كأنه جمع نفسه له، والأمر مُجمع، ويقال أيضا: أجمع أمرك ولا تدعه منتشرا".
[6169]:- هذا البيت من شواهد النحويين، ولم يذكره من المفسرين غير ابن عطية والبحر المحيط، وأجمعوا أمرهم: عزموا عليه واتفقوا، والشاعر في البيت يصور اتفاقهم على أمرهم بالليل، فلما جاء الصباح كان لهم ضجيج وضوضاء، هذا ينادي، وذاك يجيب، وبين الإجابة والنداء يرتفع الرغاء والثغاء.
[6170]:- هذا جزء من حديث عن صلاة المسافر رواه في الموطأ ، ولفظه: (أصلي صلاة المسافر ما لم أجمع مكثا)، أي أعزم إقامة. هكذا في "النهاية"، وفي "الموطأ" وراجع أيضا "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي- مكث".
[6171]:-ورد المكان: أشرف عليه سواء دخل أو لم يدخل، والمعنى هنا: "تذكر الوصول إلى غايته"، وأجمع أمره: عزم وصمم من شدة شوقه، والحين: الهلاك. يصور شوقه ورغبته في ورود الماء وسعيه إليه ومن ورائه الهلاك.
[6172]:- من الآية (60) من سورة (طه).
[6173]:- ويحتمل أن يكون منصوبا على أنه مفعول معه، أو على حذف مضاف، أي: ذوي الأمر منكم، فجرى على المضاف إليه ما جرى على المضاف لو ثبت. قاله أبو حيان في البحر نقلا عن أبي علي الفارسي، وقد نقل المؤلف احتمال النصب على المعية عن الفارسي.
[6174]:- لأن التمر لا يشرب وكذلك الأقط فلا بد من فعل محذوف تقديره: "وأكّال"، لأن في المذكور من الكلام دليل على المحذوف، والأقط: لبن محمض يجمّد حتى يستحجر ويطبخ، أو يطبخ به.
[6175]:- والرمح لا يُتقلّد بل يحملن ولهذا يقدر الناصب: "وحاملا"، وقائل البيت هو عبد الله بن الزبعري كما في الكامل للمبرد، ويروى: "يا ليت زوجك قد غدا". وهذا قد سبق الاستشهاد به في الجزء الأول ص 157.
[6176]:-والماءُ لا يعلف، ولهذا يقدر الناصب: "وسقيتها"، ويروى: (بدت) و(غدت) بدلا من (شتت) والمعنى واحد، والبيت في ابن عقيل والعيني، وقد روي البيت بلفظ آخر سبق أن ذكرناه في الجزء الأول ص 157 وهو: لما حططت الرحل عنها واردا علفتها تبنا وماء باردا والبيت مجهول القائل، وقيل: إنه لذي الرمّة.
[6177]:- وقد جاز العطف على الضمير بدون تأكيد لطول الكلام بـ(لا) في قوله تعالى: {ما أشركنا ولا آباؤنا} [148-الأنعام] وذلك مع وقوعها بعد الواو، فمن باب أولى يجوز هنا للفصل بالكاف والميم الواقعين قبل الواو. ولكن ذلك ليس في قوة التأكيد نحو قوله تبارك وتعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنة}، وذلك لأن التوكيد فيه معنى لا يوجد في الفصل بغيره، إذ هو يثبت معنى الإسمية للمضمر المتصل الذي مازج الفعل وصار كجزء منه فضعف الفعل عن أن يعطف عليه، لكنه إذا أكد صار في حيّز الأسماء ولحق بما يحسن العطف عليه. قاله أبو الفتح في كتابه "المحتسب".
[6178]:- نسب هذا البيت لجارية بن الحجاج، ولحارثة بن حمران، ولعدي بن زيد، ولكن المشهور أنه لأبي داؤد، وهو في الكتاب لسيبويه، وفي الكامل للمبرد، وفي ابن عقيل.
[6179]:- الراجز هو العجاج، والبيت في ديوانه، ونسبه له ابن منظور في "اللسان" والقرطبي في تفسيره، ونسبه الطبري إلى رؤبة، وهذا غير صحيح، والبيت مطلع أرجوزة للعجاج يذكر كسعود بن عمرو العتكي من الأزد، وتُكمّوا بضم التاء والكاف: ألبسوا كمة فتغطوا بها، والأصل: تكمموا بميمين من كممت الشيء إذا سترته، ثم أبدلت الميم الأخيرة ياء فصار في التقدير: تكميوا، ثم حذفت الياء فصارت: تُكُمّوا، نقل ذلك "التاج" عن الفراء، والغمّ والغُمّة: الكرب، والمعنى: تغطّوا بالكرب والهم.
[6180]:- قال أبو الفتح: هو أفعلت من الفضاء، وذلك أنه إذا صار إلى الفضاء تمكن من الإسراع، ولام أفضيت والفضاء وما تصرف منهما واو لقولهم: فضا الشيء يفضوا فضوا إذا اتسع، وقولهم: أفضيت: صرت إلى الفضاء، مثل أنجدت: صرت إلى نجد.