تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

ثم ذكر مثلهم الكاشف لها غاية الكشف ، فقال : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

أي : مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا ، أي : كان في ظلمة عظيمة ، وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره ، ولم تكن عنده معدة ، بل هي خارجة عنه ، فلما أضاءت النار ما حوله ، ونظر المحل الذي هو فيه ، وما فيه من المخاوف وأمنها ، وانتفع بتلك النار ، وقرت بها عينه ، وظن أنه قادر عليها ، فبينما هو كذلك ، إذ ذهب الله بنوره ، فذهب عنه النور ، وذهب معه السرور ، وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة ، فذهب ما فيها من الإشراق ، وبقي ما فيها من الإحراق ، فبقي في ظلمات متعددة : ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة المطر ، والظلمة الحاصلة بعد النور ، فكيف يكون حال هذا الموصوف ؟ فكذلك هؤلاء المنافقون ، استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين ، ولم تكن صفة لهم ، فانتفعوا بها{[56]}  وحقنت بذلك دماؤهم ، وسلمت أموالهم ، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا ، فبينما هم على ذلك{[57]}  إذ هجم عليهم الموت ، فسلبهم الانتفاع بذلك النور ، وحصل لهم كل هم وغم وعذاب ، وحصل لهم ظلمة القبر ، وظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظُلَمُ{[58]}  المعاصي على اختلاف أنواعها ، وبعد ذلك ظلمة النار [ وبئس القرار ] . فلهذا قال تعالى [ عنهم ] : { صُمٌّ }


[56]:- في ب: ما استضاءوا بها مؤقتا وانتفعوا فحقنت.
[57]:- في ب: هم كذلك.
[58]:- في ب: وظلمة.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل زيادة في التوضيح والتقرير ، فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألد ، لأنه يريك المتخيل محققا والمعقول محسوسا ، ولأمر ما أكثر الله في كتبه الأمثال ، وفشت في كلام الأنبياء والحكماء . والمثل في الأصل بمعنى النظير يقال : مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده ، ولا يضرب إلا ما فيه غرابة ولذلك حوفظ عليه من التغيير ، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة مثل قوله تعالى { مثل الجنة التي وعد المتقون } وقوله تعالى { ولله المثل الأعلى } . والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا والذي : بمعنى الذين كما في قوله تعالى : { وخضتم كالذي خاضوا } إن جعل مرجع الضمير في بنورهم ، وإنما جاز ذلك ولم يجز وضع القائم موضع القائمين لأنه غير مقصود بالوصف ، بل الجملة التي هي صلته وهو وصلة إلى وصف المعرفة بها لأنه ليس باسم تام بل هو كالجزء منه ، فحقه أنه لا يجمع كما لا نجمع أخواتها ، ويستوي فيه الواحد والجمع وليس الذين جمعه المصحح ، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى ولذلك جاء بالياء أبدا على اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل ، ولكونه مستطالا بصلته استحق التخفيف ، ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه ثم كسرته ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ، أو قصد به جنس المستوقدين ، أو الفوج الذي استوقد . والاستيقاد : طلب الوقود والسعي في تحصيله ، وهو سطوع النار وارتفاع لهبها . واشتقاق النار من : نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا .

{ فلما أضاءت ما حوله } أي النار ، ما حول المستوقد إن جعلتها متعدية ، وإلا أمكن أن تكون مسندة إلى ما والتأنيث لأن ما حوله أشياء وأماكن أو إلى ضمير النار ، وما : موصولة في معنى الأمكنة ، نصب على الظرف ، أو مزيدة ، وحوله ظرف وتأليف الحول للدوران . وقيل للعام حول لأنه يدور . { ذهب الله بنورهم } جواب لما ، والضمير للذي ، وجمعه للحمل على المعنى ، وعلى هذا إنما قال : { بنورهم } ولم يقل : بنارهم لأنه المراد من أيقادها . أو استئناف أجيب به اعتراض سائل يقول : ما بالهم شبهت حالهم بحال مستوقد قد انطفأت ناره ؟ أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان . والضمير على الوجهين للمنافقين ، والجواب محذوف كما في قوله تعالى : { فلما ذهبوا به } للإيجاز وأمن الالتباس . وإسناد الذهاب إلى الله تعالى إما لأن الكل بفعله ، أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفي ، أو أمر سماوي كريح أو مطر ، أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك ، يقال ذهب السلطان بماله إذا أخذه ، وما أخذه الله وأمسكه فلا مرسل له ، ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور ، فإنه لو قيل : ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا ، والغرض إزالة النور عنهم رأسا ألا ترى كيف قرر ذلك وأكده بقوله { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } فذكر الظلمة التي هي عدم النور ، وانطماسه بالكلية ، وجمعها ونكرها ووصفها بأنها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبحان . وترك في الأصل بمعنى طرح وخلى ، وله مفعول واحد فضمن معنى صير فجرى مجرى أفعال القلوب كقوله تعالى : { وتركهم في ظلمات } وقول الشاعر :

فتركته جزر السباع ينشنه *** يقضمن حسن بنانه والمعصم

والظلمة مأخوذة من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا ، أي ما منعك ، لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية ، وظلماتهم : ظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظلمة يوم القيامة { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } . أو ظلمة الضلال ، وظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمدي ، أو ظلمة شديدة كأنها ظلمة متراكمة ، ومفعول { لا يبصرون } من قبيل المطروح المتروك فكأن الفعل غير متعد .

والآية مثل ضربه الله لمن آتاه ضربا من الهدى فأضاعه ، ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيرا متحسرا ، تقريرا وتوضيحا لما تضمنته الآية الأولى ، ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر ، وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ، ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة ، أو ارتد عن دينه بعدما آمن ومن صح له أحوال الإرادة فادعى أحوال المحبة فأذهب الله عنه ما أشرق عليه من أنوار الإرادة ، أو مثل لإيمانهم من حيث إنه يعود عليهم يحقن الدماء ، وسلامة الأموال والأولاد ، ومشاركة المسلمين في المغانم . والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة ، ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها .