تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }

صبار على المكاره والشدائد ، يتحملها لوجه اللّه ، ولا يتسخطها بل يصبر عليها . شكور لنعمة اللّه تعالى يُقِرُّ بها ، ويعترف ، ويثني على من أولاها ، ويصرفها في طاعته . فهذا إذا سمع بقصتهم ، وما جرى منهم وعليهم ، عرف بذلك أن تلك العقوبة ، جزاء لكفرهم نعمة اللّه ، وأن من فعل مثلهم ، فُعِلَ به كما فعل بهم ، وأن شكر اللّه تعالى ، حافظ للنعمة ، دافع للنقمة ، وأن رسل اللّه ، صادقون فيما أخبروا به ، وأن الجزاء حق ، كما رأى أنموذجه في دار الدنيا .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

ولما انقضى الخبر عن هذه الأوصاف التي تستدعي غاية الشكر لما فيها من الألطاف ، دل على بطرهم للنعمة بها بأنهم{[56737]} جعلوها سبباً للتضجر والملال بقوله : { فقالوا } على وجه الدعاء : { ربنا } أي أيها المربي لنا { باعد } أي أعظم البعد وشدده - على قراءة ابن كثير{[56738]} وأبي عمرو وهشام عن ابن عامر بتشديد العين وإسكان الدال ، وهذا بمعنى{[56739]} قراءة الباقين غير يعقوب { باعد } المقتضية لمده{[56740]} وتطويله { بين أسفارنا } أي قرانا التي نسافر فيها ، أي ليقل الناس فيكون ما يخص كل إنسان من هذه الجنان أضعاف ما يخصه الآن ويحمل الزاد ونسير على النجائب ونتعلق{[56741]} السلاح ونستجيد المراكب ، وكان{[56742]} بعضهم كأن على الضد من غرض هؤلاء فاستكثر مسافة ما بين كل قريتين فقال كما قرأ يعقوب " ربنا " بالرفع على أنه مبتدأ " باعد " فعلاً ماضياً على أنه خبر ، فازدرى تلك النعمة الواردة على قانون الحكمة واشتهى أن تكون تلك{[56743]} القرى متواصلة { وظلموا } حيث عدوا النعمة نقمة ، والإحسان إساءة { أنفسهم } تارة باستقلال الديار ، وتارة باستقلال الثمار ، فسبب ذلك تبديل{[56744]} ما هم فيه بحال هو في الوحشة بقدر ما كانوا فيه من الأنس وهو معنى { فجعلناهم } أي بما لنا من العظمة { أحاديث } أي يتواصفها{[56745]} الناس جيلاً بعد جيل لما لها{[56746]} من الهول { ومزقناهم } أي تمزيقاً يناسب العظمة ، فما كان لهم دأب إلا المطاوعة فمزقوا { كل ممزق } أي تمزيق كما يمزق الثوب ، بحيث صاروا مثلاً مضروباً إلى هذا{[56747]} الزمان ، يقال لمن شئت أمرهم : تفرقوا أيدي{[56748]} سبا .

ولما كان كل من أمريهم هذين في العمارة والخراب أمراً باهراً دالاً على أمور كثيرة ، منها القدرة على الساعة التي هي مقصود السورة بالنقلة من النعيم إلى الجحيم و{[56749]} الحشر إلا ما لا يريد الإنسان كما حشر أهل سبأ إلى كثير من أقطار البلاد كما هو مشهور في قصتهم ، قال منبهاً على ذلك مستأنفاً على طريق الاستنتاج ، مؤكداً تنبيهاً على إنعام النظر فيه ، لما له من الدلالة على صفات الكمال : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم { لآيات } أي دلالات بينة جداً على قدرة الله تعالى على التصرف فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض بالإيجاد والإعدام للذوات والصفات بالخسف والمسخ ، فإنه لا فرق بين خارق وخارق ، وعلى أن بطرهم لتلك النعمة حتى{[56750]} ملوها{[56751]} ودعوا بإزالتها دليل على أن الإنسان ما دام حياً فهو في نعمة يجب عليه شكرها كائنة ما كانت وإن كان يراها بلية{[56752]} ، لأنه لما طبع عليه من القلق كثيراً ما يرى النعم نقماً ، واللذة ألماً ، ولذلك ختم الآية بالصبر بصيغة المبالغة .

ولما كان الصبر حبس النفس عن أغراضها الفاسدة وأهويتها المعمية ، وكانت مخالفة الهوى أشد ما يكون على النفس وأشق ، وكانت النعم تبطر وتطغي ، وتفسد وتلهي ، فكان عطف النفوس إلى الشكر بعد{[56753]} جماحها بطغيان النعم صعباً ، وكانت قريش قد شاركت سبأ فيما ذكر و{[56754]} زادت عليهم برغد العيش وسهولة إتيان الرزق بما حببهم به وبلدهم إلى العباد بدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام مع أمن البلد وجلالة النسب وعظيم المنصب كما أشار إليه قوله تعالى

{ و{[56755]} ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة }[ النحل : 112 ] قال تعالى محذراً لهم مثل عقوبتهم : { لكل صبار شكور * } أي من جميع بني آدم ، مشيراً بصيغة المبالغة إلى ذلك كله ، وأن من{[56756]} لم يكن في طبعه الصبر والشكر لا يقدر على ذلك ، وأن من ليس في طبعه الصبر فاته الشكر .


[56737]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لأنهم.
[56738]:راجع نثر المرجان 5/467.
[56739]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: معنى.
[56740]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: للمد.
[56741]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: نعلق.
[56742]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: قال.
[56743]:سقط من ظ وم ومد.
[56744]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بتبديل.
[56745]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يتواضعها.
[56746]:زيد من ظ وم ومد.
[56747]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أهل.
[56748]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أي يدي.
[56749]:سقط من ظ.
[56750]:في ظ ومد: حين.
[56751]:من مد، وفي الأصل وظ وم: ملووها.
[56752]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بينة.
[56753]:في ظ: بعدم.
[56754]:في ظ ومد: أو.
[56755]:زيد من ظ وم ومد والقرآن الكريم آية 112 من سورة النحل.
[56756]:زيد من ظ وم ومد.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

قوله : { فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } { رَبَّنَا } ، منصوب على النداء وهو قول أكثر المفسرين وأهل اللغة{[3804]} فقد بطروا النعمة وسئموا من طول العافية فطلبوا الكدّ والتعب وبعد الأسفار ليزداد نصبهم وشقاؤهم فيكون ما يجلبونه أشهى وأغلى . وذلك هو دأب البطرين الفارهين الذين يملون النعمة وطول الرخاء والعافية فتجنح نفوسهم للشقاء والشظف بدلا من شكرهم لله على أنعمه وإفراده بالطاعة والعبادة .

قوله : { وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } وذلك بتعريض أنفسهم لعذاب الله وسخطه بسبب عصيانهم وتكذيبهم وجحدهم النعم ؛ إذ بطروها وغمطوها .

قوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي يتحدث الناس بقصتهم وأخبارهم على سبيل التلهي والتعجب ، معتبرين بعاقبتهم وما آلوا إليه من سوء المصير .

قوله : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي فرّقناهم بالتباعد كل تفريق فتبددوا في البلاد . وقال الزمخشري في ذلك : لحق غسان بالشام وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعُمان .

قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يعني : إن في قصص هؤلاء البطرين الممزقين كل ممزّق لعظات وعبرا لكل امرئ شأنه الصبر عن المعاصي وعلى الطاعات ، والشكر لله على ما أنعم به وتفضل{[3805]} .


[3804]:الدر المصون ج 9 ص 175
[3805]:البحر المحيط ج 7 ص 262 وروح المعاني ج 22 ص 130-133