تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا} (78)

ثم أخبر أنه لا يغني حذر عن قدر ، وأن القاعد لا يدفع عنه قعوده شيئًا ، فقال : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ } أي : في أي زمان وأي مكان . { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي : قصور منيعة ومنازل رفيعة ، وكل هذا حث على الجهاد في سبيل الله تارة بالترغيب في فضله وثوابه ، وتارة بالترهيب من عقوبة تركه ، وتارة بالإخبار أنه لا ينفع القاعدين قعودُهم ، وتارة بتسهيل الطريق في ذلك وقصرها

ثم قال : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا }

يخبر تعالى عن الذين لا يعلمون المعرضين عما جاءت به الرسل ، المعارضين لهم أنهم إذا جاءتهم حسنة أي : خصب وكثرة أموال ، وتوفر أولاد وصحة ، قالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وأنهم إن أصابتهم سيئة أي : جدب وفقر ، ومرض وموت أولاد وأحباب قالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي : بسبب ما جئتنا به يا محمد ، تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطير أمثالهم برسل الله ، كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ }

وقال قوم صالح : { قالوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ }

وقال قوم ياسين لرسلهم : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } الآية . فلما تشابهت قلوبهم بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم . وهكذا كل من نسب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به الرسل أو لبعضه فهو داخل في هذا الذم الوخيم .

قال الله في جوابهم : { قُلْ كُلٌّ } أي : من الحسنة والسيئة والخير والشر . { مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي : بقضائه وقدره وخلقه . { فَمَا لهَؤُلَاءِ الْقَوْم } أي : الصادر منهم تلك المقالة الباطلة . { لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } أي : لا يفهمون حديثا بالكلية ولا يقربون من فهمه ، أو لا يفهمون منه إلا فهمًا ضعيفًا ، وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله ، وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم .

وفي ضمن ذلك مدْح من يفهم عن الله وعن رسوله ، والحث على ذلك ، وعلى الأسباب المعينة على ذلك ، من الإقبال على كلامهما وتدبره ، وسلوك الطرق الموصلة إليه . فلو فقهوا عن الله لعلموا أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره ، لا يخرج منها شيء عن ذلك .

وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكونون سببا لشر يحدث ، هم ولا ما جاءوا به لأنهم بعثوا بصلاح الدنيا والآخرة والدين .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا} (78)

وقوله : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي : أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ، ولا ينجو منه أحد منكم ، كما قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وِالإكْرَامِ ]{[7906]} } [ الرحمن : 26 ، 27 ] وقال تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [ آل عمران : 185 ] وقال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [ الأنبياء : 34 ] والمقصود : أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ، ولا ينجيه من ذلك شيء ، وسواء عليه جاهد أو لم يجاهد ، فإن له أجلا محتوما ، وأمدا مقسوما ، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه : لقد شهدت كذا وكذا موقفا ، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية ، وها أنا أموت على فراشي ، فلا نامت أعين الجبناء{[7907]} .

وقوله : { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي : حصينة منيعة عالية رفيعة . وقيل : هي بروج في السماء . قاله السدي ، وهو ضعيف . والصحيح : أنها المنيعة . أي : لا يغني حذر وتحصن من الموت ، كما قال زهير بن أبي سلمى :{[7908]}

وَمَن خَاف أسبابَ المَنيّة يَلْقَهَا*** ولو رَامَ أسبابَ السماء بسُلَّم{[7909]}

ثم قيل : " المشَيَّدَة " هي المَشِيدَة كما قال : " وَقَصْرٍ مَشِيدٍ " [ الحج : 45 ] وقيل : بل بينهما فرق ، وهو أن المُشَيَّدة بالتشديد ، هي : المطولة ، وبالتخفيف هي : المزينة بالشيد وهو الجص .

وقد ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم هاهنا حكاية مطولة عن مجاهد : أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطَّلْقُ ، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار ، فخرج ، فإذا هو برجل واقف على الباب ، فقال : ما ولدت المرأة ؟ فقال : جارية ، فقال : أما إنها ستزني بمائة رجل ، ثم يتزوجها أجيرها ، ويكون موتها بالعنكبوت . قال : فَكَرَّ راجعا ، فبعج الجارية بسكين في بطنها ، فشقه ، ثم ذهب هاربا ، وظن أنها قد ماتت ، فخاطت أمها بطنها ، فبرئت وشبت وترعرعت ، ونشأت أحسن امرأة ببلدتها{[7910]} فذهب ذاك [ الأجير ]{[7911]} ما ذهب ، ودخل البحور فاقتنى أموالا جزيلة ، ثم رجع إلى بلده وأراد التزويج ، فقال لعجوز : أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة . فقالت له : ليس هنا أحسن من فلانة . فقال : اخطبيها علي . فذهبت إليها فأجابت ، فدخل بها فأعجبته إعجابا شديدًا ، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه{[7912]} ؟ فأخبرها خبره ، وما كان من أمره في هربه . فقالت : أنا هي . وأرته مكان السكين ، فتحقق ذلك فقال : لئن كنت إياها فلقد أخبرتني باثنتين لا بد منهما ، إحداهما : أنك قد زنيت بمائة رجل . فقالت : لقد كان شيء من ذلك ، ولكن لا أدري ما عددهم ؟ فقال : هم مائة . والثانية : أنك تموتين بالعنكبوت . فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا ، ليحرزها من ذلك ، فبينا هم يوما إذا بالعنكبوت في السقف ، فأراها إياها ، فقالت : أهذه التي تحذرها علي ، والله لا يقتلها إلا أنا ، فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتا بإبهام رجلها فقتلتها ، فطار من سمها شيء{[7913]} فوقع بين ظفرها ولحمها ، فاسودت رجلها وكان في ذلك أجلها{[7914]} .

ونذكر هاهنا قصة صاحب الحَضْر ، وهو " الساطرون " لما احتال عليه " سابور " حتى حصره فيه ، وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين ، وقالت العرب في ذلك أشعارا منها :

وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ دج*** لة تُجْبَى إليه والخابورُ

شاده مَرْمَرا وجلله كلْ***سا فللطير في ذُرَاه وُكُور

لم تَهَبْهُ أيدي المنون فباد ال***مُلْكُ عنه فبابُه مَهْجور

ولما دخل على عثمان جعل يقول : اللهم اجمع أمة محمد ، ثم تمثل بقول الشاعر :

أرى الموتَ لا يُبقي عَزيزا ولم يَدَعْ*** لعاد ملاذَّا في البلاد ومَرْبَعا . . .

يُبَيَّتُ أهلُ الحِصْن والحصنُ مغلقٌ*** ويأتي الجبالَ في شَماريخها معا{[7915]}

وقوله : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } أي : خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو{[7916]} ذلك هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي { يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك . كما يقوله أبو العالية والسدي . { يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي : من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك . كما قال تعالى عن قوم فرعون : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : 131 ] وكما قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وِإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ]{[7917]} } الآية [ الحج : 11 ] . وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر ؛ ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقال{[7918]} السدي : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } قال : والحسنة الخصب ، تُنْتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم ، ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان قالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } والسيئة : الجدْب والضرر في أموالهم ، تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } يقولون : بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء ، فأنزل الله عز وجل : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فقوله { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البَرّ والفاجر ، والمؤمن والكافر .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي : الحسنة والسيئة . وكذا قال الحسن البصري .

ثم قال تعالى منكرًا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب . وقلة فهم وعلم ، وكثرة جهل وظلم : { فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا }

ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ }

قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا السَّكن بن سعيد ، حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا إسماعيل بن حماد ، عن مقاتل بن حَيَّان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس ، وقد ارتفعت أصواتهما ، فجلس أبو بكر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وجلس عمر قريبا من أبي بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم ارتفعت أصواتكما ؟ " فقال رجل : يا رسول الله ، قال أبو بكر : الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما قلت يا عمر ؟ " قال : قلت : الحسنات والسيئات من الله . تعالى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل ، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر ، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال : نختلف فيختلف أهل السماء{[7919]} وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض . فتحاكما إلى إسرافيل ، فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله " . ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال " احفظا قضائي بينكما ، لو أراد الله ألا يُعْصَى لم يخلق إبليس " .

قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيميّة : هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة{[7920]} .


[7906]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[7907]:رواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في المختصر لابن المنظور (8/26) من طريق أبي الزناد أن خالد لما حضرته الوفاة بكى وقال... فذكره.
[7908]:في ر، أ: "طرفة بن العبد".
[7909]:البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى، وهو في ديوانه (ص 30).
[7910]:في ر، أ: "ببلدها".
[7911]:زيادة من أ، والطبري.
[7912]:في أ: "وعن مقدمه".
[7913]:في ر: "وطار شيء من سمها".
[7914]:تفسير الطبري (8/552).
[7915]:في ر: "العلا".
[7916]:في ر: "وغير".
[7917]:زيادة من: ر، أ.
[7918]:في ر: "فقال" وفي أ: "قال".
[7919]:في ر: "السماوات".
[7920]:مسند البزار برقم (2496) وقال الهيثمي في المجمع (7/191) "شيخ البزار السكن بن سعيد لم أعرفه، وبقية رجال البزار ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر، وقال ابن حجر رحمه الله: "هذا خبر منكر وفي الإسناد ضعف".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا} (78)

وجملة : { أينما تكونوا } الخ مسوقة لإشعارهم بأنّ الجبن هو الذي حملهم على طلب التأخير إلى أمد قريب ، لأنّهم توهّموا أنّ مواقع القتال تدني الموتَ من الناس . ويحتمل أن يكون القول قد تمّ ، وأنّ جملة { أينما تكونوا } توجّه إليهم بالخطاب من الله تعالى ، أو توجّه لجميع الأمّة بالخطاب ، فتكون على كلا الأمرين معترضة بين أجزاء الكلام . و ( أينما ) شرط يستغرق الأمكنة ( ولو ) في قوله : { ولو كنتم في بروج } وصلية وقد تقدّم تفصيل معناها واستعمالها عند قوله : في سورة آل عمران ( 91 ) : { فلن يقبل من أحدهم مِلء الأرض ذهباً ولو افتدى به } والبروج جمعُ برج ، وهو البناء القويّ والحصْن . والمشيّدة : المبنيّة بالشِّيد ، وهو الجصّ ، وتطلق على المرفوعة العالية ، لأنّهم إذا أطالوا البناء بنوهُ بالجصّ ، فالوصف به مراد به المعنى الكنائي . وقد يطلق البروج على منازل كواكب السماء كقوله تعالى : { تبارك الذي جعل في السماء بروجاً } [ الفرقان : 61 ] وقوله : { والسماء ذات البروج } [ البروج : 1 ] . وعن مالك أنّه قال : البروج هنا بروج الكواكب ، أي ولو بلغتم السماء . وعليه يكون وصف { مشيدة } مجازاً في الارتفاع ، وهو بصير مجازاً في الارتفاع ، وهو بعيد .

يتعيّن على المختار ممّا روي في تعيين الفريق الذين ذكروا في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفّوا أيديكم } من أنّهم فريق من المؤمنين المهاجرين أن يكون ضمير الجمع في قوله : { وإن تصبهم حسنة } عائداً إلى المنافقين لأنّهم معلومون من المقام ، ولسِبْققِ ذكرهم في قوله : { وإنّ منكم لَمَنْ ليَبُطَئّن } [ النساء : 72 ] وتكون الجملة معطوفة عطف قصّة على قصّة ، فإنّ ما حكي في هذه الآية لا يليق إلاّ بالمنافقين ، ويكون الغرض انتقل من التحريض على القتال إلى وصف الذين لا يستجيبون إلى القتال لأنّهم لا يؤمنون بما يبلّغهم النبي صلى الله عليه وسلم من وعد الله بنصر المؤمنين . وأمّا على رواية السدّي فيحتمل أنّ هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام حديثاً من قبائل العرب كانوا على شفا الشكّ فإذا حلّ بهم سوء أو بؤس تطَيِّروا بالإسلام فقالوا : هذه الحالة السوأى من شُؤم الإسلام . وقد قيل : إنّ بعض الأعراب كان إذا أسلم وهاجر إلى المدينة فنمَت أنّعَامه ورفهت حاله حمِد الإسلام ، وإذا أصابه مرض أو موتان في أنعامه تطيَرّ بالإسلام فارتدّ عنه ، ومنه حديث الأعرابي الذي أصابته الحمّى في المدينة فاستقال من النبي بيعته وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه : « المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها » . والقول المراد في قوله : { يقولوا هذه من عند الله } { يقولوا هذه من عندك } هو قول نفسي ، لأنّهم لم يكونوا يجترئون على أن يقولوا ذلك علناً لِرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يظهرون الإيمان به .

أو هو قول يقولونه بين إخوانهم من المنافقين ، يقولون : هذه من عند محمد ، فيكون الإتيان بكاف الخطاب من قبيل حكاية كلامهم بحاصل معناه على حسب مقام الحاكي والمحكي له ، وهو وجه مطروق في حكاية كلام الغائب عن المخاطب إذا حكى كلامه لذلك المخاطب . ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى : { ما قلتُ لهم إلاّ ما أمرتني به أنْ أعبُدوا الله ربّي وربّكم } [ المائدة : 117 ] . والمأمور به هو : أن اعبدوا الله ربكَ وربَّهم . وورد أنّ قائل ذلك هم اليهود ، فالضمير عائد على غير مذكور في الكلام السابق ، لأنّ المعنيّ به معروفون في وقت نزول الآية ، وقديماً قيل لأسلافهم { وإن تُصبهم سّيئة يطيَّروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] . والمراد بالحسنة والسّيئة هنا ما تعارفه العرب من قبل اصطلاح الشريعة أعني الكائنةَ الملائمة والكائنةَ المنافرة ، كقولهم : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] وقوله : { ربّنا آتنا في الدنيا حسنة } [ البقرة : 201 ] ، وتعلّقُ فعل الإصابة بهما دليل على ذلك ، أمّا الحسنة والسَّيئة بالاصطلاح الشرعي ، أعني الفعل المثاب عليه والفعل المعاقب عليه ، فلا محمل لهما هنا إذ لا يكونان إصابتين ، ولا تعرف إصابتهما لأنّهما اعتباران شرعيان . وقيل : كان اليهود يقولون : « لمّا جاء محمد المدينة قلَّت الثمار ، وغلت الأسعار » . فجعلوا كون الرسول بالمدينة هو المؤثّر في حدوث السّيئات ، وأنّه لولاه لكانت الحوادث كلّها جارية على ما يلائمهم ، ولذلك جيء في حكاية كلامهم بما يدلّ على أنّهم أرادوا هذا المعنى ، وهو كلمة ( عند ) في الموضعين : { هذه من عند الله } { هذه من عندك } ؛ إذ العندية هنا عندية التأثير التامّ بدليل التسوية في التعبير ، فإذا كان ما جاء من عند الله معناه من تقديره وتأثير قدرته ، فكذلك مساويه وهو ما جاء من عند الرسول . وفي « البخاري » عن ابن عباس في قوله تعالى : { ومن الناس من يَعبد الله على حرف } كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً ونُتجت خيلهُ قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيلهُ قال : هذا دين سوء ، وهذا يقتضي أنْ فعل ذلك من مهاجرة العرب : يقولونه إذا أرادوا الارتداد وهم أهل جفاء وغلظة ، فلعلّ فيهم من شافه الرسول بمثل قولهم : { هذه من عندك } . ومعنى { من عند الله } في اعتقادهم أنّه الذي ساقها إليهم وأتحفهم بها لما هو معتاده من الإكرام لهم ، وخاصّة إذا كان قائل ذلك اليهود . ومعنى { من عندك } أي من شؤم قدومك ، لأنّ الله لا يعاملهم إلاّ بالكرامة ، ولكنّه صار يتخوّلهم بالإساءة لقصد أذى المسلمين فتلحَق الإساءة اليهودَ من جرّاء المسلمين على حدّ { واتّقوا فتنة } [ الأنفال : 25 ] الآية .

وقد علَّمه الله أن يجيب بأنّ كلاً من عند الله ، لأنّه لا معنى لكون شيء من عند الله إلاّ أنّه الذي قدّر ذلك وهيَّأ أسبابه ، إذ لا يدفعهم إلى الحسنات مباشرةً . وإن كان كذلك فكما أنّ الحسنة من عنده ، فكذلك السيّئة بهذا المعنى بقطع النظر عمّا أرادُه بالإحسان والإساءة ، والتفرقة بينهما من هذه الجهة لا تصدر إلاّ عن عقل غير منضبط التفكير ، لأنّهم جعلوا بعض الحوادث من الله وبعضها من غير الله فلذلك قال : { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } أي يكادون أن لا يفقهوا حديثاً ، أي أن لا يفقهوا كلام من يكلّمهم ، وهذ مدلول فعل ( كادَ ) إذا وقع في سياق النفي ، كما تقدّم في قوله : { وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] .

والإصابة : حصول حال أو ذات ، في ذات يقال : أصابه مرض ، وأصابته نعمة ، وأصابه سَهْم ، وهي ، مشقّة من اسم الصَّوْب الذي هو المطر ، ولذلك كان ما يتصرّف من الإصابة مشعراً بحصوللٍ مفاجىء أو قاهر .