وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا ومرجعا يرجع إليه المؤمنون ، ويلجأ إليه المهاجرون ، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر ، فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى الأنصار ، حتى انتشر الإسلام وقوي ، وجعل يزيد شيئا شيئا فشيئا ، وينمو قليلا قليلا ، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن ، والبلدان بالسيف والسنان .
الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وهذا لمحبتهم لله ولرسوله ، أحبوا أحبابه ، وأحبوا من نصر دينه .
{ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها ، وهذا يدل على سلامة صدورهم ، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها .
ويدل ذلك على أن المهاجرين ، أفضل من الأنصار ، لأن الله قدمهم بالذكر ، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم ، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة .
وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي : ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم ، وتميزوا بها على من سواهم ، الإيثار ، وهو أكمل أنواع الجود ، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها ، وبذلها للغير مع الحاجة إليها ، بل مع الضرورة والخصاصة ، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي ، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها ، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه ، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعا ، والإيثار عكس الأثرة ، فالإيثار محمود ، والأثرة مذمومة ، لأنها من خصال البخل والشح ، ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ووقاية شح النفس ، يشمل وقايتها الشح ، في جميع ما أمر به ، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه ، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله ، ففعلها طائعا منقادا ، منشرحا بها صدره ، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه ، وإن كان محبوبا للنفس ، تدعو إليه ، وتطلع إليه ، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، وبذلك يحصل الفلاح والفوز ، بخلاف من لم يوق شح نفسه ، بل ابتلي بالشح بالخير ، الذي هو أصل الشر ومادته ، فهذان{[1037]} الصنفان ، الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام ، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم ، وأدركوا به من قبلهم ، فصاروا أعيان المؤمنين ، وسادات المسلمين ، وقادات المتقين{[1038]} .
ثم قال تعالى مادحًا للأنصار ، ومبينًا فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حَسَدهم ، وإيثارهم مع الحاجة ، فقال : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } . أي : سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم .
قال عمر : وأوصي الخليفة [ من ] {[28553]} بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم كرامتهم . وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تَبوّءوا الدار والإيمان من قبل ، أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو{[28554]} عن مسيئهم . رواه البخاري هاهنا أيضًا{[28555]} .
وقوله : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } أي : مِنْ كَرَمهم وشرف أنفسهم ، يُحبّون المهاجرين{[28556]} ويواسونهم بأموالهم .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا حميد ، عن أنس قال : قال المهاجرون : يا رسول الله ، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير ، لقد كَفَونا المَؤنة ، وأشركونا في المهنأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ! قال : " لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم " {[28557]} .
لم أره في الكتب من هذا الوجه .
وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يُقطع لهم البحرين ، قالوا : لا إلا أن تُقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : " إما لا فاصبروا حتى تلقوني ، فإنه سيصيبكم [ بعدي ] {[28558]} أثرة " .
تفرد به البخاري من هذا الوجه{[28559]}
قال البخاري : حدثنا الحكم بن نافع ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل . قال : لا . فقالوا : تكفونا المؤنَةَ ونَشرككُم في الثمرة ؟ قالوا : سمعنا وأطعنا . تفرد به دون مسلم{[28560]} .
{ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف ، والتقديم في الذكر والرتبة .
قال : الحسن البصري : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } يعني : الحسد .
{ مِمَّا أُوتُوا } قال قتادة : يعني فيما أعطى إخوانهم . وكذا قال ابن زيد . ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أنس قال : كنا جُلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " . فطلع رجل من الأنصار تَنظُف{[28561]} لحيته من وضوئه ، قد تَعَلَّق{[28562]} نعليه بيده الشمال ، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى . فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته{[28563]} أيضًا ، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى{[28564]} فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال : إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا ، فإن رأيت أن تؤويني {[28565]} إليك حتى تمضي فعلتُ . قال : نعم . قال أنس : فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي{[28566]} فلم يره يقوم من الليل شيئًا ، غير أنه إذا تَعارّ تقلب على فراشه ، ذكر الله وكبر ، حتى يقوم لصلاة الفجر . قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا ، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله ، قلت : يا عبد الله ، لم يكن بيني وبين أبي غَضَب ولا هَجْر{[28567]} ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرَار{[28568]} يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " . فطلعت أنت الثلاث المرار{[28569]} فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملكَ فأقتدي به ، فلم أرك تعمل كثير{[28570]} عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ما هو إلا ما رأيت . فلما وليت دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجدُ في نفسي لأحد من المسلمين غِشّا ، ولا أحسدُ أحدًا على خير أعطاه الله إياه . قال عبد الله : هذه التي بلغت بك ، وهي التي لا تطاق{[28571]} .
ورواه النسائي في اليوم والليلة ، عن سُوَيد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن معمر به {[28572]} وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين ، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري ، عن رجل ، عن أنس{[28573]} . فالله أعلم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } يعني { مِمَّا أُوتُوا } المهاجرون . قال : وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم من الأنصار ، فعاتبهم الله في ذلك ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال : وقال رسول الله : " إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم " . فقالوا : أموالنا بيننا قطائع . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو غير ذلك ؟ " . قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : " هم قوم لا يعرفون العمل ، فتكفونهم وتقاسمونهم{[28574]} الثمر " . فقالوا : نعم يا رسول الله{[28575]}
وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } {[28576]} يعني : حاجة ، أي : يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك .
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ " . وهذا المقام أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } {[28577]} [ الإنسان : 8 ] . وقوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] .
فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به ، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به ، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه . ومن هذا المقام تصدق الصديق ، رضي الله عنه ، بجميع ماله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أبقيت لأهلك ؟ " . فقال : أبقيت لهم الله ورسوله . وهذا{[28578]} الماء الذي عُرض{[28579]} على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك ، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه ، وهو جريح مثقل أحوجَ ما يكون إلى الماء ، فرده الآخر إلى الثلث ، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم ، رضي الله عنهم وأرضاهم .
وقال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا فُضيل بن غَزوان ، حدثنا أبو حازم الأشجعي ، عن أبي هُرَيرة قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أصابني الجهدُ ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا رجل يُضَيّفُ هذا الليلة ، رحمه الله ؟ " . فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله . فذهب إلى أهله فقال لامرأته : ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا . فقالت : والله ما عندي إلا قوتُ الصبية . قال : فإذا أراد الصبيةُ العَشَاء فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج ونَطوي بطوننا الليلة . ففعلَت ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لقد عجب الله ، عز وجل - أو : ضحك - من فلان وفلانة " . وأنزل الله عز وجل : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } {[28580]} .
وكذا رواه البخاري في موضع آخر ، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق ، عن فضيل بن غزوان ، به نحوه{[28581]} . وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة ، رضي الله عنه .
وقوله : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح .
قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا داود بن قيس الفراء ، عن عُبَيد الله بن مِقْسَم ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظلّم ، فإن الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة ، واتقوا الشُحَّ ، فإن الشّحَّ أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سَفَكُوا دماءهم واستَحلُّوا محارمهم " .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه عن القَعْنَبِيّ ، عن داود بن قيس ، به{[28582]} .
وقال الأعمش وشعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن زهير بن الأقمر ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الظُّلْم ؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفُحْش ، فإن الله لا يحب الفحش ولا التَّفَحُّشَ ، وإياكم والشُّحَّ ؛ فإنه أهلكَ من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا " .
ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة ، والنسائي من طريق الأعمش ، كلاهما عن عمرو بن مُرّة ، به {[28583]} .
وقال الليث ، عن يزيد [ بن الهاد ]{[28584]} عن سُهَيل بن أبي صالح ، عن صفوان بن أبي يزيد ، عن القعقاع بن اللجلاج{[28585]} عن أبي هريرة ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا " {[28586]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أخبرنا ابن المبارك ، حدثنا المسعودي ، عن جامع بن شداد ، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد الله : وما ذاك ؟ قال : سمعت الله يقول : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح ، لا أكاد أن أخرج من يدي شيئًا ! فقال عبد الله : ليس ذلك{[28587]} بالشح الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا ، ولكن ذلك{[28588]} البخل ، وبئس الشيء البخل " {[28589]}
وقال سفيان الثوري ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الهياج الأسدي قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلا يقول : اللهم قني شح نفسي " . لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل " ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه ، رواه ابن جرير{[28590]}
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا إسماعيل ابن عَيّاش ، حدثنا مُجَمع بن جارية الأنصاري ، عن عمه يزيد بن جارية ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بَريء من الشح مَن أدى الزكاة ، وقَرَى الضيف ، وأعطى في النائبة " {[28591]} .
الأظهر أن { الذين } عطف على { المهاجرين } [ الحشر : 8 ] أي والذين تبوّؤا الدار . والذين تبوّؤا الدار هم الأنصار .
والدّار تطلق على البلاد ، وأصلُها مَوضع القبيلة من الأرض . وأطلقت على القرية قال تعالى في ذكر ثمود { فأصبحوا في دَارهم جاثمين } [ الأعراف : 78 ] ، أي في مدينتهم وهي حجر ثمود .
والتعريف هنا للعهد لأن المراد بالدار : يثرب ، والمعنى الذين هم أصحاب الدار . هذا توطئة لقوله : { يحبون من هاجر إليهم } .
والتبوُّء : اتخاذ المباءة وهي البُقعة التي يَبوء إليها صاحبها ، أي يرجع إليها بعد انتشاره في أعماله . وفي موقع قوله : { والإيمان } غموض إذ لا يصح أن يكون مفعولاً لفعل تبوَّءوا ، فتأوله المفسرون على وجهين : أحدهما أن يجعل الكلام استعارة مكنية بتشبيه الإِيمان بالمَنْزل وجعْل إثبات التَّبَوُّءِ تخييلاً فيكون فعل تبوأوا مستعملاً في حقيقته ومجازه .
وجمهور المفسرين جعلوا المعطوف عاملاً مقدراً يدلّ عليه الكلام ، تقديره : وأخلصوا الإِيمان على نحو قول الراجز الذي لا يعرف :
علفتها تبناً وماءً بارداً{[414]}
وقول عبد الله بن الزِّبَعْرَى :
يا ليت زوجَككِ قد غدا *** متقلداً سيفاً ورمحاً
أي وممسكاً رمحاً وهو الذي درج عليه في « الكشاف » . وقيل الواو للمعية . و { الإِيمانَ } مفعول معه .
وعندي أن هذا أحسن الوجوه ، وإن قلّ قائلوه . والجمهور يجعلون النصب على المفعول معه سماعياً فهو عندهم قليل الاستعمال فتجنبوا تخريج آيات القرآن عليه حتى ادعى ابن هشام في « مُغني اللبيب » أنه غير واقع في القرآن بيقين . وتأول قوله تعالى : { فأَجمِعُوا أمرَكم وشركاءَكم } [ يونس : 71 ] ، ذلك لأن جمهور البصريين يشترطون أن يكون العامل في المفعول معه هو العاملَ في الاسم الذي صاحَبَه ولا يرون واو المعية ناصبة المفعول معه خلافاً للكوفيين والأخفش فإن الواو عندهم بمعنى ( مع ) . وقال عبد القاهر : منصوب بالواو .
والحق عدم التزام أن يكون المفعول معه معمولاً للفعل ، ألا ترى صحة قول القائل : استوى الماء والخشبةَ . وقولهم : سرْتُ والنيلَ ، وهو يفيد الثناء عليهم بأن دار الهجرة دارُهم آووا إليها المهاجرين لأنها دار مؤمنين لا يماثلها يومئذٍ غيرها .
وبذلك يتضح أن متعلق { من قبلهم } فعل { تبوؤا } بمفرده ، وأن المجرور المتعلق به قيدٌ فِيه دون ما ذكر بعد الواو لأن الواو ليست واو عطف فلذلك لا تكون قائمة مقام الفعل السابق لأن واو المعية في معنى ظرف فلا يعلق بها مجرور .
وفي ذكر الدار ( وهي المدينة ) مع ذكر الإِيمان إيماء إلى فضيلة المدينة بحيث جعل تبوّءهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإِيمان ولعل هذا هو الذي عناه مالك رحمه الله فيما رواه عنه ابن وهب قال : سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق . فقال : إن المدينة تبوّئت بالإِيمان والهجرة وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ثم قرأ : { والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم } الآية .
وجملة { يحبون من هاجر إليهم } حال من الذين تَبَوَّؤُوا الدار ، وهذا ثناء عليهم بما تقرر في نفوسهم من أخوة الإِسلام إذ أحبوا المهاجرين ، وشأن القبائل أن يتحرجوا من الذين يهاجرون إلى ديارهم لمضايقتهم .
ومن آثار هذه المحبة ما ثبت في « الصحيح » من خبر سعد بن الربيع مع عبد الرحمان بن عوف إذ عرض سعد عليه أن يقاسمه ماله وأن يَنزل له عن إحدى زوجتيه ، وقد أسكنوا المهاجرين معهم في بيوتهم ومنحوهم من نخيلهم ، وحسبك الأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار .
وقوله : { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } أريد بالوجدان الإِدراك العقلي ، وكنى بانتفاء وجدان الحاجة عن انتفاء وجودها لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم وهذا من باب قول الشاعر :
والحاجة في الأصل : اسم مَصدرِ الحَوْج وهو الاحتياج ، أي الافتقار إلى شيء ، وتطلق على الأمر المحتاج إليه من إطلاق المصدر على اسم المفعول ، وهي هنا مجاز في المأْرب والمرادِ ، وإطلاق الحاجة إلى المأرب مجاز مشهور ساوى الحقيقة كقوله تعالى : { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } [ غافر : 80 ] ، أي لتبلغوا في السفر عليها المأْرب الذي تسافرون لأجله ، وكقوله تعالى : { إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } [ يوسف : 68 ] أي مأربا مُهمّا وقول النابغة :
أيامَ تخبرني نُعْمٌ وأَخْبِرُها *** ما أكتُم الناسَ من حاجِي وإسراري
وعليه فتكون ( مِن ) في قوله : { مما أوتوا } ابتدائية ، أي مأرباً أو رغبة ناشئة من فَيْء أُعْطِيهُ المهاجرون . والصدور مراد بها النفوس جمع الصدر وهو الباطن الذي فيه الحواس الباطنة وذلك كإطلاق القلب على ذلك .
و ( ما أوتوا ) هو فيء بني النضير .
وضمير { صدورهم } عائد إلى { الذين تَبَوَّؤُا الدار } ، وضمير { أوتوا } عائد إلى { من هاجر إليهم } ، لأن من هاجر جماعة من المهاجرين فروعي في ضمير معنى ( مَنْ ) بدون لفظها . وهذان الضميران وإن كانا ضميري غيبة وكانا مقتربَين فالسامع يرد كل ضمير إلى معاده بحسب السياق مثل ( ما ) في قوله تعالى : { وعمروها أكثر مما عمروها } في سورة [ الروم : 9 ] . وقول عباس بن مرداس يذكر انتصار المسلمين مع قومه بني سُليم على هَوازن :
عُدنا ولولا نَحنُ أحدَق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جمَّعوا
( أي أحرز جيش هوازن ما جمّعه جيش المسلمين ) .
والمعنى : أنهم لا يخامر نفوسهم تشوف إلى أخذ شيء مما أوتيه المهاجرون من فيْء بني النضير .
ويجوز وجه آخر بأن يحمل لفظ حاجة على استعماله الحقيقي اسم مصدر الاحتياج فإن الحاجة بهذا المعنى يصح وقوعها في الصدور لأنها من الوجدانيات والانفعالات . ومعنى نفي وجدان الاحتياج في صدورهم أنهم لفرط حبهم للمهاجرين صاروا لا يخامر نفوسهم أنهم مفتقرون إلى شيء مما يُؤتاه المهاجرون ، أي فهم أغنياء عما يؤتاه المهاجرون فلا تستشرف نفوسهم إلى شيء مما يؤتاه المهاجرون بَلْهَ أن يتطلبوه .
وتكون ( مِن ) في قوله تعالى : { مما أوتوا } للتعليل ، أي حاجة لأجل ما أوتيه المهاجرون ، أو ابتدائية ، أي حاجة ناشئة عما أوتيه المهاجرون فيفيد انتفاء وجدان الحاجة في نفوسهم وانتفاء أسباب ذلك الوجدان ومناشئِه المعتادة في الناس تبعاً للمنافسة والغبطة ، وقد دل انتفاء أسباب الحاجة على متعلق حاجة المحذوف إذ التقدير : ولا يجدون في نفوسهم حاجة لشيء أوتيه المهاجرون .
والإيثار : ترجيح شيء على غيره بمكرمة أو منفعة .
والمعنى : يُؤثرونَ على أنفسهم في ذلك اختياراً منهم وهذا أعلى درجة مما أفاده قوله : { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } فلذلك عقب به ولم يُذكر مفعول { يُؤثِرونَ } لدلالة قوله : { مما أوتوا } عليه .
ومن إيثارهم المهاجرين ما روي في « الصحيح » أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الأنصار ليقطع لهم قطائع بنخل البحرين فقالوا : لا إلا أن تقطع لإِخواننا من المهاجرين مثلها .
وإما إيثار الواحد منهم على غيره منهم فما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : « أتى رجل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد . فأرسل في نسائه فلم يجد عندهنّ شيئاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألاَ رجل يُضيف هذا الليلةَ رحمه الله ، فقام رجل من الأنصار ( هو أبو طلحة ) فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب إلى أهله فقال لامرأته : هذا ضيف رسول الله لا تدَّخريه شيئاً ، فقالت : والله ما عندي إلا قُوتُ الصِبية . قال : فإذا أراد الصبية العَشاء فنوِّميهم وتعالَي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة . فإذا دخل الضيف فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج تُري أنككِ تصلحينه فأطفئيه وأَرِيه أنَّا نأكل . فقعدوا وأكل الضيف .
وذكرت قصص من هذا القبيل في التفاسير ، قيل : نزلت هذه الآية في قصة أبي طلحة وقيل غير ذلك .
وجملة { ولو كان بهم خصاصة } في موضع الحال .
و { لو } وصلية وهي التي تدل على مجرد تعليق جوابها بشرط يفيد حالة لا يُظنّ حصول الجواب عند حصولها . والتقدير : لو كان بهم خصاصة لآثروا على أنفسهم فيُعلم أن إيثارهم في الأحوال التي دون ذلك بالأحرى دون إفادة الامتناع . وقد بينا ذلك عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة [ آل عمران : 91 ] .
وتذكير فعل { كان } لأجل كون تأنيث الخصاصة ليس حقيقياً ، ولأنه فُصل بين { كان } واسمها بالمجرور . والباء للملابسة .
وجملة { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } تذييل ، والواو اعتراضية ، فإن التذييل من قبيل الاعتراض في آخر الكلام على الرأي الصحيح . وتذييل الكلام بذكر فضل من يوقون شح أنفسهم بعد قوله : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } يشير إلى أن إيثارهم على أنفسهم حتى في حالة الخصاصة هو سلامة من شح الأنفس فكأنه قيل لسلامتهم من شح الأنفس { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } .
والشح بضم الشين وكسرها : غريزة في النفس بمَنْع ما هو لها ، وهو قريب من معنى البخل . وقال الطيبي : الفرق بين الشح والبخل عسير جداً وقد أشار في « الكشاف » إلى الفرق بينهما بما يقتضي أن البخل أثر الشح وهو أن يمنع أحد ما يراد منه بَذْلُه وقد قال تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح } [ النساء : 128 ] أي جعل الشح حاضراً معها لا يفارقها ، وأضيف في هذه الآية إلى النفس لذلك فهو غريزة لا تسلم منها نفس .
وفي الحديث في بيان أفضل الصدقة « أن تصَّدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمُل الغِنى » ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار فإذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه . قال وقد أحسن وصفه من قال ، لم أقف على قائله :
يمارس نفساً بين جَنْبَيْه كَزَّةً *** إذا هَمَّ بالمعروف قالت له مهلاً
فمن وقي شح نفسه ، أي وُقي من أن يكون الشح المذموم خُلقاً له ، لأنه إذا وُقي هذا الخُلقَ سلِم من كل مواقع ذمه . فإن وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وُقيه .
واسم الإِشارة لتعظيم هذا الصنف من الناس .
وصيغة القصر المؤداة بضمير الفصل للمبالغة لكثرة الفلاح الذي يترتب على وقاية شح النفس حتى كأن جنس المفلح مقصور على ذلك المُوقَى .
ومن المفسرين من جعل { والذين تبوؤا الدار } ابتداء كلام للثناء على الأنصار بمناسبة الثناء على المهاجرين وهؤلاء لم يجعلوا للأنصار حظاً في ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى وقصروا قوله : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } [ الحشر : 7 ] على قرى خاصة هي : قريظة . وفَدَك ، وخيبر . والنفع ، وعُرينة ، ووادي القُرى ، ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه فيئَها قال للأنصار : " إن شئتم قاسمتم المهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذا " ؟ فقالوا : بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة ، فنزلت آيةُ { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } الآية [ الحشر : 7 ] .
ومنهم من قصر هذه الآية على فَيء بني النضير وكل ذلك خروج عن مهيع انتظام آي هذه السورة بعضها مع بعض وتفكيك لنظم الكلام وتناسبه مع وهن الأخبار التي رووها في ذلك فلا ينبغي التعويل عليه . وعلى هذا التفسير يكون عطف { والذين تبوؤا الدار } عطفَ جملةٍ على جملة ، واسم الموصول مبتدأ وجملة { يحبون من هاجر إليهم } خبراً عن المبتدأ .