{ 27-28 } { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }
يقول تعالى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه ، أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت ، فلما جرى يوم الحديبية ما جرى ، ورجعوا من غير دخول لمكة ، كثر في ذلك الكلام منهم ، حتى إنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ فقال : " أخبرتكم أنه العام ؟ " قالوا : لا ، قال : " فإنكم ستأتونه وتطوفون به " قال الله هنا : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } أي : لا بد من وقوعها وصدقها ، ولا يقدح في ذلك تأخر تأويلها ، { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } أي : في هذه الحال المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام ، وأدائكم للنسك ، وتكميله بالحلق والتقصير ، وعدم الخوف ، { فَعَلِمَ } من المصلحة والمنافع { مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ } الدخول بتلك الصفة { فَتْحًا قَرِيبًا }
ولما كانت هذه الواقعة مما تشوشت بها قلوب بعض المؤمنين ، وخفيت عليهم حكمتها ، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها ، وهكذا سائر أحكامه الشرعية ، فإنها كلها ، هدى ورحمة .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُرِىَ في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة ، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر{[26964]} هذا العام ، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل ، وقع في نفوس بعض الصحابة من ذلك شيء ، حتى سأل عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، في ذلك ، فقال له فيما قال : أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه {[26965]} عامك هذا " قال : لا قال : " فإنك آتيه ومطوف به " . وبهذا أجاب الصديق ، رضي الله عنه ، أيضا حَذْو القُذَّة بالقُذَّة ؛ ولهذا قال تعالى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ } : [ و ] {[26966]} هذا لتحقيق الخبر وتوكيده ، وليس هذا من الاستثناء في شيء ، [ وقوله ]{[26967]} : { آمِنِينَ } أي : في حال دخولكم . وقوله : { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } ، حال مقدرة ؛ لأنهم في حال حرمهم{[26968]} لم يكونوا محلقين ومقصرين ، وإنما كان هذا في ثاني الحال ، كان منهم من حلق رأسه ومنهم من قصره ، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رحم الله المحلقين " ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : " رحم الله المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : " رحم الله المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : " والمقصرين " في الثالثة أو الرابعة{[26969]} .
وقوله : { لا تَخَافُونَ } : حال مؤكدة في المعنى ، فأثبت لهم الأمن حال الدخول ، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد لا يخافون من أحد . وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة فأقام بها ذا الحجة والمحرم ، وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحا ، وهي إقليم عظيم كثير النخل {[26970]} والزروع ، فاستخدم {[26971]} من فيها من اليهود عليها على الشطر ، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم ، ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة ، جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، وأبو موسى الأشعري وأصحابه ، ولم يغب منهم أحد ، قال ابن زيد : إلا أبا دجانة سِمَاك بن خَرَشَة ، كما هو مقرر في موضعه ثم رجع إلى المدينة ، فلما كان في ذي القعدة [ في ] {[26972]} سنة سبع خرج إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية ، فأحرم من ذي الحليفة ، وساق معه الهدي ، قيل : كان ستين بدنة ، فلبى وسار أصحابه يلبون . فلما كان قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه ، فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا ، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينه بينهم من وضع القتال عشر سنين ، وذهبوا فأخبروا أهل مكة ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج ، وسار إلى مكة بالسيف مغمدة في قربها ، كما شارطهم عليه . فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مِكْرَز بن حفص فقال : يا محمد ، ما عرفناك تنقض العهد . قال : " وما ذاك ؟ " قال{[26973]} : دخلت : علينا بالسلاح والقسي والرماح . فقال : " لم يكن ذلك ، وقد بعثنا به إلى يأجج " ، فقال : بهذا عرفناك ، بالبر والوفاء . وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و [ لا ] {[26974]} إلى أصحابه غيظا وحنقا ، وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فدخلها عليه الصلاة والسلام ، وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقودها ، وهو يقول :
باسم الذي لا دين إلا دينُه *** باسم الذي محمدٌ رسوله
خَلُّوا بني الكُفَّار عَنْ سَبِيله *** اليوم نضربكم على تَأْويله
كما ضربناكم على تنزيله *** ضربًا يزيلُ الهام عَن مَقِيله
ويُذْهِل الخليل عن خليله *** قد أنزل الرحمن في تنزيله
في صُحف تتلى على رسُوله *** بأن خير القَتْل في سبيله
قال يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر{[26975]} بن حزم قال : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء ، دخلها وعبد الله بن رواحة آخذ بخطام ناقته صلى الله عليه وسلم{[26976]} ، وهو يقول :
خلّوا بني الكفار عن سبيله *** إني شَهيدٌ أنه رَسُولُهُ
خلوا فكل {[26977]} الخير في رسوله *** يا رب إني مؤمن بقيله
نحن قتلناكم على تأويله *** كما قتلناكم على تنزيله
ضربًا يُزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك قال : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء ، مشى عبد الله بن رواحة بين يديه ، وفي رواية وابن رواحة آخذ بغرزه ، وهو يقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله*** قد نزل الرحمن في تنزيله
بأن خير القتل في سبيله*** يا رب إني مؤمن بقيله
نحن قتلناكم على تأويله*** كما قتلناكم على تنزيله
ضربًا يزيل الهام عن مقيله*** ويذهل الخليل عن خليله
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن الصباح ، حدثنا إسماعيل - يعني : ابن زكريا - عن عبد الله - يعني : ابن عثمان - عن أبي الطُّفَيْل{[26978]} ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مرّ الظهران في عمرته ، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشا [ تقول ] {[26979]} : ما يتباعثون من العَجَف . فقال أصحابه : لو انتحرنا من ظهرنا ، فأكلنا من لحمه ، وحَسَونا من مَرَقه ، أصبحنا غدا حين ندخل على القوم وبنا جَمَامَة . قال : " لا تفعلوا ، ولكن اجمعوا لي{[26980]} من أزوادكم " . فجمعوا له وبسطوا الأنطاع ، فأكلوا حتى تركوا وحثا كل واحد منهم في جرابه ، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد ، وقعدت قريش نحو الحجر ، فاضطبع بردائه ، ثم قال : " لا يرى{[26981]} القوم فيكم غميرة " فاستلم الركن ثم رَمَل ، حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود ، فقالت قريش : ما ترضون بالمشي أما إنكم لتنقُزُون نَقْزَ الظباء ، ففعل ذلك ثلاثة أشواط ، فكانت سُنَّة . قال أبو الطفيل : فأخبرني ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع{[26982]} .
وقال{[26983]} أحمد أيضا : حدثنا يونس ؛ حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، وقد وهنتهم حُمّى يثرب ، ولقوا منها سوءا ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ، ولقوا منها شرا ، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر ، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أصحابه ] {[26984]} أن يرملوا الأشواط الثلاثة ؛ ليرى المشركون جلدهم ، قال : فرملوا ثلاثة أشواط ، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون ، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم ، فقال المشركون : أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم ؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا .
أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد ، به{[26985]} وفي لفظ : قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة ، أي من ذي القعدة ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم .
قال البخاري : وزاد ابن سلمة - يعني حماد بن سلمة - عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامه الذي استأمن قال : " ارملوا " . ليري المشركون قوتهم ، والمشركون من قبل قعيقعان .
وحدثنا محمد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : إنما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة ، ليرى المشركون قوته {[26986]} .
ورواه في مواضع أخر ، ومسلم والنسائي ، من طرق ، عن سفيان بن عيينة ، به {[26987]} .
وقال أيضا : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، سمع ابن أبي أوفى يقول : لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم ؛ أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . انفرد به البخاري دون مسلم{[26988]} .
وقال{[26989]} البخاري أيضا : حدثنا محمد بن رافع ، حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا فليح ، وحدثني محمد بن الحسين بن إبراهيم ، حدثنا أبي حدثنا فليح بن سليمان ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا ، فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية ، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ، ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفا ، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا . فاعتمر من العام المقبل ، فدخلها كما كان صالحهم ، فلما أن قام بها ثلاثا ، أمروه أن يخرج فخرج .
وهو في صحيح مسلم أيضا{[26990]} .
وقال البخاري أيضا : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة ، فأبى أهل مكة أن يَدَعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا الكتاب كتبوا : " هذا ما قاضانا عليه محمد رسول الله " . قالوا : لا نقر بهذا ، ولو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئًا ، ولكن أنت محمد بن عبد الله . قال : " أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله " . ثم قال لعلي بن أبي طالب : " امح رسول الله " . قال : لا والله لا أمحوك أبدا . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب ، وليس يحسن يكتب ، فكتب : " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله : لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب ، وألا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه ، وألا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها " فلما دخلها ومضى الأجل ، أتوا عليا فقالوا : قل لصاحبك : اخرج عنا فقد مضى الأجل ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة تنادي : يا عم ، يا عم . فتناولها علي فأخذ بيدها ، وقال لفاطمة : دونك ابنة عمك فحملتها ، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر ، فقال عليّ : أنا أخذتها وهي ابنة عمي ، وقال جعفر : ابنة عمي وخالتها تحتي ، وقال زيد : ابنة أخي ، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها ، وقال : " الخالة بمنزلة الأم " ، وقال لعلي : " أنت مني وأنا منك " وقال لجعفر : " أشبهت خلقي وخلقي " وقال لزيد : " أنت أخونا ومولانا " قال علي : ألا تتزوج ابنة حمزة ؟ قال : " إنها ابنة أخي من الرضاعة " انفرد به من هذا الوجه{[26991]} .
وقوله : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } أي : فعلم الله تعالى من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم ، { فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ } أي : قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ، { فَتْحًا قَرِيبًا } : وهو الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين .
روي في تفسير هذه الآية ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه ، بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون . وقال مجاهد : أرى ذلك بالحديبية ، فأخبر الناس بهذه { الرؤيا } ، ووثق الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك ، وقد كان سبق في علم الله تعالى أن ذلك يكون . لكن ليس في تلك الجهة . وروي أن رؤياه إنما كانت أن ملكاً جاءه فقال له : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } ، وإنه بهذا أعلم الناس فلما قضى الله في الحديبية بأمر الصلح ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدر{[10428]} ، وقال المنافقون : وأين الرؤيا ؟ ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك ، فأنزل الله تعالى : { لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق } . و : { صدق } هذه تتعدى إلى مفعولين ، تقول صدقت زيداً الحديث . واللام في : { لتدخلن } لام القسم الذي تقتضيه { صدق } لأنها من قبيل تبين وتحقق ، ونحوها مما يعطي القسم .
واختلف الناس في معنى الاستثناء في هذه الآية ، فقال بعض المتأولين هو استثناء من الملك المخبر للنبي عليه السلام في نومه ، فذكر الله تعالى مقالته كما وقعت ، وقال آخرون هو أخذ من الله تعالى عباده بأدبه في استعماله في كل فعل يوجب وقوعه ، كان ذلك مما يكون ولا بد ، أو كان مما قد يكون وقد لا يكون ، وقال بعض العلماء : إنما استثنى من حيث كل واحد من الناس متى رد هذا الوعد إلى نفسه أمكن أن يتم الوعد فيه وأن لا يتم ، إذ قد يموت الإنسان أو يمرض أو يغيب ، وكل واحد في ذاته محتاج إلى الاستثناء ، فلذلك استثنى عز وجل في الجملة ، إذ فيهم ولا بد من يموت أو يمرض . وقال آخرون : استثنى لأجل قوله : { آمنين } لأجل إعلامه بالدخول ، فكأن الاستثناء مؤخر عن موضعه ، ولا فرق بين الاستثناء من أجل الأمن أو من أجل الدخول ، لأن الله تعالى قد أخبر بهما ووقت الثقة بالأمرين ، فالاستثناء من أيهما كان فهو استثناء من واجب . وقال قوم : { إن } بمعنى إذ فكأنه قال : إذ شاء الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن في معناه ، ولكن كون { إن } بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب ، وللناس بعد في هذه الاستثناء أقوال مخلطة غير هذه ، اختصرت ذكرها ، لأنها لا طائل فيها .
وقرأ ابن مسعود : «إن شاء الله لا تخافون » بدل { آمنين } .
ولما نزلت هذه الآية ، علم المسلمون أن تلك الرؤيا فيما يستأنفون من الزمن ، واطمأنت قلوبهم بذلك وسكنت ، وخرجت في العام المقبل ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ذي القعدة سنة سبع ، ودخلها ثلاثة أيام هو وأصحابه ، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { فعلم ما لم تعلموا } يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه ، وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين دفع الله تعالى{[10429]} بهم . وقوله تعالى : { من دون ذلك } ، أي من قبل ذلك وفيما يدنو إليكم .
واختلف الناس في الفتح القريب ، فقال كثير من الصحابة : هو بيعة الرضوان وروي عن مجاهد وابن إسحاق . أنه الصلح بالحديبية . وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : «نعم » وقال ابن زيد : الفتح القريب : خيبر حسبما تقدم من ذكر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتحها . وقال قوم : الفتح القريب : فتح مكة ، وهذا ضعيف ، لأن فتح مكة لم يكن من دون دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك بعام ، لأن الفتح كان سنة ثمان من الهجرة ويحسن أن يكون الفتح هنا اسم جنس يعم كل ما وقع مما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ظهور وفتح عليه . وقد حكى مكي في ترتيب أعوام هذه الأخبار عن قطرب قولاً خطأ جعل فيه الفتح سنة عشر ، وجعل حج أبي بكر قبل الفتح ، وذلك كله تخليط وخوض فيما لم يتقنه معرفة .
استئناف بياني ناشىء عن قوله : { فأنزل اللَّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [ الفتح : 26 ] ودحض ما خامر نفوس فريق من الفشل أو الشك أو التحير وتبيين ما أنعم الله به على أهل بيعة الرضوان من ثواب الدنيا والآخرة إلى كشف شبهة عرضت للقوم في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا قبل خروجه إلى الحديبية ، أو وهو في الحديبية : كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وحَلَقوا وقصَّروا . هكذا كانت الرؤيا مُجملة ليس فيها وقوع حجّ ولا عمرة ، والحلاق والتقصير مناسب لكليهما .
وقصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه فاستبشروا بها وعبَّروها أنهم داخلون إلى مكة بعمرتهم التي خرجوا لأجلها ، فلما جرى الصلح وتأهب الناس إلى القفول أثار بعض المنافقين ذكر الرؤيا فقالوا : فأين الرؤيا فوالله ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا وقصرنا ؟ فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه : إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل وأنزل الله تعالى هذه الآية . والمعنى أن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وأن الله أوحى إليه بها وأنها وإن لم تقع في تلك القضية فستحقق بعد ذلك وكأنَّ الحكمة في إراءة الله رسوله صلى الله عليه وسلم لك الرؤيا أيامئذٍ وفي إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بها : أن الله أدخل بذلك على قلوبهم الثقة بقوتهم وتربية الجراءة على المشركين في ديارهم فتسلم قلوبهم من ماء الجبن فإن الأمراض النفسية إذا اعترت النفوس لا تلبث أن تترك فيها بقايا الداء زماناً كما تبقى آثار المرض في العضو المريض بعد النقاهة زماناً حتى ترجع إلى العضو قوته الأولى بعد مدة مناسبة .
وتوكيد الخبر بحرف ( قد ) لإبطال شبهة المنافقين الذين قالوا : فأين الرؤيا ؟
ومعنى { صدق اللَّه رسوله الرؤيا } أنه أراه رؤيا صادقة لأن رؤيا الأنبياء وحي فآلت إلى معنى الخبر فوصفت بالصدق لذلك . وهذا تطْمين لهم بأن ذلك سيكون لا محالة وهو في حين نزول الآية لمَّا يحصل بقرينة قوله : { إن شاء اللَّه } .
وتعدية { صدق } إلى منصوب ثان بعد مفعوله من النصب على نزع الخافض المسمّى بالحذف والإيصال ، أي حذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور بالعمل فيه النصب . وأصل الكلام : صدق الله رسوله في الرؤيا كقوله تعالى : { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] .
والباء في { بالحق } للملابسة وهو ظرف مستقر وقع صفة لمصدر محذوف ، أي صدقاً ملابسا الحق ، أو وقوع حالا صفة لمصدر محذوف ، أي صدقا ملابساً وقع حالاً من الرؤيا .
والحق : الغرض الصحيح والحكمة ، أي كانت رؤيا صادقة وكانت مَجْعُولة محكمة وهي ما قدمناه آنفاً .
وجملة { لتدخلن المسجد الحرام } إلى آخرها يجوز أن يكون بياناً لجملة { صدق اللَّه } لأن معنى { لتدخلن } تحقيق دخول المسجد الحرام في المستقبل فيعلم منه أن الرؤيا إخبار بدخول لم يعين زمنه فهي صادقة فيما يتحقق في المستقبل . وهذا تنبيه للذين لم يتفطنوا لذلك فجزموا بأن رؤيا دخول المسجد تقتضي دخولهم إليه أيامئذٍ وما ذلك بمفهوم من الرؤيا وكان حقهم أن يعلموا أنها وعد لم يعين إبان موعوده وقد فهم ذلك أبو بكر إذ قال لهم : إن المنام لم يكن موقتاً بوقت وأنه سيدخل . وقد جاء في سورة يوسف ( 100 ) { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } وليست هذه الجملة بياناً للرؤيا لأن صيغة القسم لا تلائم ذلك .
والأحسن أن تكون جملة { لتدخلن المسجد الحرام } استئنافاً بيانياً عن جملة { صدق اللَّه رسوله } أي سيكون ذلك في المستقبل لا محالة فينبغي الوقف عند قوله : { بالحق } ليظهر معنى الاستئناف .
وقوله : { إن شاء اللَّه } من شأنه أن يذيل به الخبر المستقبل إذا كان حصوله متراخياً ، ألا ترى أن الذي يقال له : افعل كذا ، فيقول : أفعل إن شاء الله ، لا يفهم من كلامه أنه يفعل في الحال أو في المستقبل القريب بل يفعله بعد زمن ولكن مع تحقيق أنه يفعله .
ولذلك تأولوا قوله تعالى في سورة يوسف ( 99 ) { وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين أنّ إن شاء اللَّه } للدخول مع تقدير الأمن لأنه قال ذلك حين قد دخلوا مصر . أما ما في هذه الآية فهو من كلام الله فلا يناسبه هذا المحمل . وليس المقصود منه التنصل من التزام الوعد ، وهذا من استعمالات كلمة { إن شاء اللَّه } . فليس هو مثل استعمالها في اليمين فإنها حينئذٍ للثُّنْيا لأنها في موضع قولهم : إلا أن يشاء الله ، لأن معنى : إلا أن يشاء الله : عدم الفعل ، وأما إن شاء الله ، التي تقع موقع : إلا أن يشاء الله ، فمعناه إن شاء الله الفعلَ .
والموعود به صادق بدخولهم مكة بالعمرة سنة سبع وهي عمرة القضية ، فإنهم دخلوا المسجد الحرام آمنين وحَلق بعضهم وقصّر بعض غير خائفين إذ كان بينهم وبين المشركين عهد ، وذلك أقرب دخول بعد هذا الوعد ، وصادق بدخولهم المسجد الحرام عام حجة الوداع ، وعدمُ الخوف فيه أظهر . وأما دخولهم مكة يوم الفتح فلم يكونوا فيه محرمين . قال مالك في « الموطأ » بعد أن ساق حديث قتل ابن خطل يومَ الفتح ( ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ محرماً والله أعلم ) .
و { محلقين رؤوسكم } حال من ضمير { آمنين } وعطف عليه { ومقصرين } والتحليق والتقصير كناية عن التمكن من إتمام الحج والعمرة وذلك من استمرار الأمن على أن هذه الحالة حكت ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤياه ، أي يحلق من رام الحلق ويقصر من رام التقصير ، أي لا يعجلهم الخوف عن الحلق فيقتصروا على التقصير .
وجملة { لا تخافون } في موضع الحال فيجوز أن تكون مؤكدة ل { آمنين } تأكيداً بالمرادف للدلالة على أن الأمن كامل محقق ، ويجوز أن تكون حالاً مؤسسة على أن { آمنين } معمول لفعل { تدخلُنّ } وأن { لا تخافون } معمول ل { ءامنين } ، أي آمنين أمن مَن لا يخاف ، أي لا تخافون غدراً . وذلك إيماء إلى أنهم يكونون أشد قوة من عدوّهم الذي أمنهم ، وهذا يُومِىءُ إلى حكمة تأخير دخولهم مكة إلى عام قابل حيث يزدادون قوة واستعداداً وهو أظهر في دخولهم عام حجة الوداع .
والفاء في قوله : { فعلم ما لم تعلموا } لتفريع الأخبار لا لتفريع المخبر به لأن علم الله سابق على دخولهم وعلى الرؤيا المؤذنة بدخولهم كما تقدم في قوله : { فعلم ما في قلوبهم } [ الفتح : 18 ] .
وفي إيثار فعل { جعل } في هذا التركيب دون أن يقول : فتح لكم من دون ذلك فتحاً قريباً أو نحوه إفادة أن هذا الفتح أمره عجيب ما كان ليحصل مثله لولا أن الله كونه . وصيغة الماضي في { جعل } لتنزيل المستقبل المحقق منزلة الماضي ، أو لأن { جعل } بمعنى قدر . ودون هنا بمعنى غير ، ومِن ( م ) ابتدائية أو بيانية . والمعنى : فجعل فتحاً قريباً لكم زيادة على ما وعدكم من دخول مكة آمنين . وهذا الفتح أوله هو فتح خيبر الذي وقع قبل عمرة القضية وهذا القريب من وقت الصلح .