أي : { فمن } جادلك { وحاجك } في عيسى عليه السلام وزعم أنه فوق منزلة العبودية ، بل رفعه فوق منزلته { من بعد ما جاءك من العلم } بأنه عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الأدلة الدالة على أنه عبد أنعم الله عليه ، دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني ، فلم يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ولا يستفيدها هو ، لأن الحق قد تبين ، فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله ، قصده اتباع هواه ، لا اتباع ما أنزل الله ، فهذا ليس فيه حيلة ، فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته وملاعنته ، فيدعون الله ويبتهلون إليه أن يجعل لعنته وعقوبته على الكاذب من الفريقين ، هو وأحب الناس إليه من الأولاد والأبناء والنساء ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فتولوا وأعرضوا ونكلوا ، وعلموا أنهم إن لاعنوه رجعوا إلى أهليهم وأولادهم فلم يجدوا أهلا ولا مالا وعوجلوا بالعقوبة ، فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلانه ، وهذا غاية الفساد والعناد ، فلهذا قال تعالى { فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين } فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة .
ثم قال تعالى - آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُبَاهِلَ مَنْ عَانَدَ الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيانِ : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } أي : نحضرهم في حال المباهلة { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } أي : نلتعن { فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } أي : منا أو منكم .
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران ، أن النصارى حين قدموا فجعلوا يُحَاجّون في عيسى ، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية ، فأنزل الله صَدْرَ هذه السورة رَدا عليهم ، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار وغيره .
قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره : وقَدم{[5095]} على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نَجْران ، ستون راكبا ، فيهم أربعة عَشرَ رجلا من أشرافهم يؤول إليهم أمرهم ، وهم : العاقب ، واسمه عبد المسيح ، والسيد ، وهو الأيْهَم ، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل ، وأويس الحارث{[5096]} وزيد ، وقيس ، ويزيد ، ونبيه ، وخويلد ، وعمرو ، وخالد ، وعبد الله ، وَيُحَنَّس .
وأمْرُ هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم ، وهم : العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم ، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، والسيد وكان عالمهم وصاحب رَحْلهم ومُجتمعهم ، وأبو حارثة بن علقمة وكان أسْقُفهم وحَبْرَهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل ، ولكنه تَنَصَّر ، فعظمته الروم وملوكها وشرفوه ، وبنوا له الكنائس وَمَوَّلُوه وأخْدَموه ، لما يعلمونه من صلابته في دينهم . وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأنه وصفته بما علمه من الكتب المتقدمة جيدا ، ولكن احتمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى [ من ]{[5097]} تعظيمه فيها ووجاهته عند أهلها .
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلوا عليه مَسْجِدَه حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرَات : جُبَب وأرْدية ، في جَمَال رجال بني الحارث بن كعب . قال : يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم . وقد حانت صلاتهم ، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دَعُوهم فصلّوا إلى المشرق .
قال : فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبد المسيح ، أو السيّد الأيهم ، وهم من النصرانية على دين الملك ، مع اختلاف أمرهم ، يقولون : هو الله ، ويقولون : هو ولد الله ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة . تعالى الله [ عن ذلك علوًا كبيرا ]{[5098]} وكذلك قول النصرانية ، فهم يحتجون في قولهم : " هو الله " بأنه كان يحيي الموتى ، ويُبْرئُ الأسقامَ ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا{[5099]} وذلك كله بأمر الله ، وليجعله آية للناس .
ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله ، يقولون : لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله .
ويحتجون في{[5100]} قولهم بأنه ثالث ثلاثة ، بقول الله تعالى : فعلنا ، وأمرنا ، وخلقنا ، وقضينا ؛ فيقولون : لو كان واحدًا ما قال إلا فعلتُ وقضيتُ وأمرتُ وخلقتُ ؛ ولكنه هو وعيسى ومَرْيَم وفي كل ذلك من{[5101]} قولهم قد نزل القرآن .
فلما كلمه الحَبْران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسْلِمَا " قالا قد أسلمنا . قال : " إنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا فأسْلِما " قالا بلى ، قد أسلمنا قبلك . قال : " كَذَبْتُمَا ، يمْنَعُكُمَا مِنَ الإسْلامِ دُعَاؤكُما{[5102]} لله ولدا ، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ وأكْلُكُمَا الخِنزيرَ " . قالا فمن أبوه يا محمد ؟ فَصَمَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما ، فأنزل الله في ذلك من قولهم ، واختلاف أمرهم ، صَدْرَ سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها .
ثم تَكَلَّم ابن إسحاق على التفسير{[5103]} إلى أن قال : فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله ، والفَصْلُ من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إنْ رَدّوا ذلك عليه ، دعاهم إلى ذلك ؛ فقالوا : يا أبا القاسم ، دَعْنَا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل{[5104]} فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ، ثم خَلَوْا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم ، فقالوا : يا عبدَ المسيح ، ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرَفْتم أن محمدًا لنبيٌّ مرسل ، ولقد جاءكم بالفَصْل من خَبَر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعَن قوم نبيًا قط فبقي كبيرهم ، ولا نبت صَغيرهم ، وإنه للاستئصال{[5105]} منكم إن فعلتم ، فإن كنتم [ قد ]{[5106]} أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعُوا الرجلَ وانصرفوا إلى بلادكم .
فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا ألا نلاعنك ، ونتركك على دينك ، ونرجعَ على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا ، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم{[5107]} عندنا رضًا .
قال محمد بن جعفر : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائْتُونِي الْعَشِيَّة أبعث معكم القوي الأمين " ، فَكان{[5108]} عمر بن الخطاب يقول : ما أحببت الإمارة قَطّ حُبّي إياها يومئذ ، رجاء أن أكون صاحبها ، فَرُحْتُ إلى الظهر مُهَجّرا ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهرَ سلَّم ، ثم نَظَر عن يمينه وعن يساره ، فجعلت أتطاول له ليراني ، فلم يَزَلْ يلتمس ببصره حتى رأى أبا عُبَيدة بن الجَرَّاح ، فدعاه : " اخْرُجْ معهم ، فَاقْضِ بينهم بِالْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ " . قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة ، رضي الله عنه{[5109]} .
وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن{[5110]} قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع بن خُدَيْج : أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه ، إلا أنه قال في الأشراف : كانوا اثني عشر . وذكر بقيته بأطول من هذا السياق ، وزيادات أخَر .
وقال البخاري : حدثنا عباس بن الحسين ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن صِلَة بن زُفَر ، عن حذيفة قال : جاء العاقبُ والسيدُ صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تَفْعَلْ ، فوالله إن{[5111]} كان نبيا فلاعناه لا نفلحُ نحنُ ولا عَقبنا من بعدنا . قالا إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا رجلا أمينًا ، ولا تبعث معنا إلا أمينا . فقال : " لأبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلا أمينًا{[5112]} حَقَّ أمِينٍ " ، فاستشرفَ لها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " قُمْ يَا أبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحٍِ " فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هَذَا أمِينُ هذه الأمَّةِ " .
[ و ]{[5113]} رواه البخاري أيضا ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة{[5114]} من طرق عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن صِلَة ، عن حذيفة ، بنحوه .
وقد رواه أحمد ، والنسائي ، وابن ماجة ، من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن صلَة عن ابن مسعود ، بنحوه{[5115]} .
وقال البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن خالد ، عن أبي قِلابة ، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل أُمَّةٍ أمينٌ وأمين هذه الأمَّة أبُو عبيدة بْنُ الْجَرَّاحِ " {[5116]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرَّقِّي أبو يزيد ، حدثنا فُرَات ، عن عبد الكريم ابن مالك الجزَري " عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال أبو جهل : إن رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطَأ على عنقه . قال : فقال : " لو فعلَ لأخَذته الملائكةُ عيانًا ، ولو أن اليهود تمنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرَجَعوا لا يجدون مالا ولا أهلا " {[5117]} .
وقد رواه الترمذي ، والنسائي ، من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن عبد الكريم ، به . وقال الترمذي : [ حديث ]{[5118]} حسن صحيح{[5119]} .
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصَّة وَفْد نَجْران مطولة جدًا ، ولنذكره فإن فيه فوائدَ كثيرة ، وفيه غرابة وفيه مناسبة لهذا المقام ، قال البيهقي :
حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل ، قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن سلمة بن عبدِ يَسُوع ، عن أبيه ، عن جده قال يونس - وكان نصرانيا فأسلم - : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان : " بِاسْم إلَهِ إِبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ ، مِنْ مُحَمَّدٍ الَّنِبيِّ رَسُولِ اللهِ إلَى أسْقف نَجْرانَ وأهْلِ نَجْرانَ سِلْم{[5120]} أَنْتُم ، فإنِّي أحْمَدُ إلَيْكُمْ إلَهَ إبْرَاهِيمَ وإِسْحَاقَ ويَعْقُوبَ . أَمَّا بَعْدُ ، فإنِّي أَدْعُوكُم إلَى عِبَادَةِ اللهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ ، وأدْعُوكُمْ إلَى وِلايَةِ اللهِ مِنْ وِلايَةِ الْعِبَادِ ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْجِزْيَةُ ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ{[5121]} آذَنْتُكُمْ بِحَرْبٍ والسَّلامُ " .
فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه فَظعَ به ، وذَعَره ذُعرًا شديدًا ، وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له : شُرَحْبيل بن وَداعة - وكان من هَمْدان ولم يكن أحد يُدْعَى إذا نزلت مُعْضلة قَبْلَه ، لا الأيهم ولا السِّيد ولا العاقب - فدفع الأسْقُفُ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شُرَحْبيل ، فقرأه ، فقال الأسقف : يا أبا مريمَ ، ما رأيك{[5122]} ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة ، فما يُؤْمنُ أن يكون هذا هو ذاك الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، ولو كان أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي ، وجَهِدتُ لك ، فقال له الأسقف : تَنَحَّ فاجلس . فَتَنَحَّى شرحبيل فجلس ناحية ، فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران ، يقال له : عبد الله بن شرحبيل ، وهو من ذي أصبح من حمْير ، فأقرأه الكتاب ، وسأله عن الرأي فيه ، فقال له مثل قول شرحبيل ، فقال له الأسقف : فاجلس ، فتَنَحى فجلس ناحية . وبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران ، يقال له : جبار بن فيض ، من بني الحارث بن كعب ، أحد بني الحماس ، فأقرأه الكتاب ، وسأله عن الرأي فيه ؟ فقال له مثل قول شُرَحبيل وعبد الله ، فأمره الأسقف فتنحى فجلس ناحية .
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعًا ، أمر الأسقف بالناقوس فضُرب به ، ورُفعت النيران والمسوح في الصوامع ، وكذلك كانوا يفعلون إذا فَزعوا بالنهار ، وإذا كان فزعُهم ليلا ضربوا بالناقوس ، ورفعت النيران في الصوامع ، فاجتمعوا{[5123]} حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله - وطولُ الوادي مَسِيرة يوم للراكب السريع ، وفيه ثلاث وسبعون قرية ، وعشرون ومائة ألف مقاتل . فقرأ عليهم كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألهم عن الرأي فيه ، فاجتمع رأيُ أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن ودَاعة الهمداني ، وعبد الله ابن شُرَحبيل الأصبحي ، وجبار بن فيض الحارثي ، فيأتونهم{[5124]} بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ، ولبسوا حُلَلا لهم يجرونها من حبرة ، وخواتيم الذهب ، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلموا عليه ، فلم يرد عليهم{[5125]} وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب . فانطلقوا يتبعون عثمان ابن عفان وعبد الرحمن بن عوف ، وكانا مَعْرفة لهم ، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس ، فقالوا : يا عثمان ويا عبد الرحمن ، إن نبيكم كتب إلينا بكتاب ، فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا ، فما الرأي منكما ، أترون أن نرجع ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب - وهو في القوم - : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال عَليّ لعثمان ولعبد الرحمن : أرى أن يضعوا حُللهم هذه وخواتيمهم ، ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودوا إليه . ففعلوا فسلموا ، فرد سلامهم ، ثم قال : " والَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ لَقَدْ أَتَوْنِي الْمرَّةَ الأولَى ، وإنَّ إبْلِيسَ لَمَعَهُم " ثم ساءلهم وساءلوه ، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا : ما تقول في عيسى ، فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى ، يسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه{[5126]} ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا عِنْدِي فِيهِ شيء يَوْمِي هَذَا ، فَأَقِيمُوا حَتَّى أُخْبِرَكُمْ بما{[5127]} يقول لي رَبِّي في عيسَى " . فأصبح الغد وقد أنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى ]{[5128]} الْكَاذِبِينَ } فأبوا أن يقروا بذلك ، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر ، أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خَمِيل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة ، وله يومئذ عدة نسوة ، فقال شرحبيل لصاحبيه : قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي{[5129]} وإني والله أرى أمرا ثقيلا والله لئن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا ، فكنا أول العرب طعن في عينيه{[5130]} ورد عليه أمره ، لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة ، وإنا لأدنى العرب منهم جوارا ، ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعَنَّاه لا يبقى على وجه الأرض منا شَعْر ولا ظُفُر إلا هلك . فقال{[5131]} له صاحباه : يا أبا مريم ، فما الرأي ؟ فقال : أرى{[5132]} أن أحكمه ، فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا . فقالا له : أنت وذاك . قال : فلقي{[5133]} شرحبيلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك . فقال : " وما هو ؟ " فقال : حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح ، فمهما حكمت فينا فهو جائز . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَعَلَّ وَرَاءكَ أحَدًا يَثْرِبُ عَلْيكَ ؟ " فقال شرحبيل : سل صاحبي . فسألهما فقالا ما يرد الوادي ولا يَصْدرُ إلا عن رأي شرحبيل : فَرَجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم ، حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب : " بِسْم الله الرحمنِ الرَّحِيم ، هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ النَّبِي رَسُولُ اللهِ لِنَجْرَانَ - إنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حُكْمَهُ - فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ وَكُلِّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَودَاءَ وَرَقِيقٍ فَاضِلٍ {[5134]} عَلَيْهِمْ ، وتَرْك ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ ، عَلَى أَلْفَي حُلَّةٍ ، فِي كُلِّ رَجَبٍ أَلْفُ حُلَّةٍ ، وفِي كُلِّ صَفَرٍ ألْفُ حُلَّةٍ " وذكر تمام الشروط وبقية السياق{[5135]} .
والغرض أن وفودهم{[5136]} كان في سنة تسع ؛ لأن الزهري قال : كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح ، وهي قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون ]َ{[5137]} } [ التوبة : 29 ] .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن داود المكي ، حدثنا بشر بن مهران ، أخبرنا محمد بن دينار ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن جابر قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب ، فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه{[5138]} الغداة . قال : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما فَأَبَيَا أن يجيئا{[5139]} وأقَرَّا بالخراج ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي بَعَثَني بالْحَقِّ لَوْ قَالا لا لأمْطَرَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي{[5140]} نارًا " قال جابر : فيهم نزلت { نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } قال جابر : { وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعليّ بن أبي طالب { وَأَبْنَاءَنَا } {[5141]} الحسن والحسين { وَنِسَاءَنَا } فاطمة .
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه ، عن علي بن عيسى ، عن أحمد بن محمد الأزهري{[5142]} عن علي بن حُجْر ، عن علي بن مُسْهِر ، عن داود بن أبي هند ، به بمعناه . ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه{[5143]} .
هكذا قال : وقد رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن المغيرة {[5144]} عن الشعبي مرسلا وهذا أصح{[5145]} وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك .
{ فمن حاجك } من النصارى . { فيه } في عيسى . { من بعد ما جاءك من العلم } أي من البينات الموجبة للعلم . { فقل تعالوا } هلموا بالرأي والعزم . { ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } أي يدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحمل عليها ، وإنما قدمهم على الأنفس لأن الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم . { ثم نبتهل } أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا . والبهلة بالضم والفتح اللعنة وأصله الترك من قولهم بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار . { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } عطف فيه بيان روي { أنهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى ننظر ، فلما تخالوا قالوا للعاقب -وكان ذا رأيهم- ما ترى فقال : والله لقد عرفتم نبوته ، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا ، فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي رضي الله عنه خلفها وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمنوا ، فقال أسقفهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ، فأذعنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوا له الجزية ألفي حلة حمراء وثلاثين درعا من حديد ، فقال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسي بيده لو تباهلوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ) . وهو دليل على نبوته وفضل من أتى بهم من أهل بيته .
تفريع على قوله : { الحق من ربك فلا تكن من الممترين } لما فيه من إيماء إلى أنّ وفد نجران ممترون في هذا الذي بَيّن الله لهم في هذه الآيات : أي فإن استمرّوا على محاجتهم إياك مكابرةً في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة والملاعنة . ذلك أنّ تصْميمَهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محْضة بعد ما جاءك من العلم وبينتَ لهم ، فلم يبق أوضحُ مما حاجَجْتهم به فعلمت أنهم إنما يحاجونك عن مكابرة ، وقلة يقين ، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة هنا .
و { تعالوا } اسم فعل لطلب القدوم ، وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى إذا قَصد العلوّ ، فكأنّهم أرادوا به في الأصل أمراً بالصعود إلى مكان عالٍ تشريفاً للمدعُو ، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور ، وأجريت عليه أحوال اسم الفعل فهو مبني على فتح آخره وأما قول أبي فراس الحمداني :
أيَا جَارَتَا مَا أنْصَفَ الدهرُ بيننا *** تَعَالِي أقَاسِمْكِ الهُمُومَ تَعَالِي
ومعنى { تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } ائتوا وادعوا أبناءكم ونحن ندعو أبناءنا إلى آخره ، والمقصود هو قوله : { ثم نبتهل } إلى آخره .
والابتهال مشتق من البَهْل وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقاً لأنّ الداعي باللعن يجتهد في دعائه والمراد في الآية المعنى الأول .
ومعنى { فنجعل لعنت الله } فنَدْعُ بإيقاع اللعنة على الكاذبين . وهذا الدعاء إلى المباهلة إلجاءٌ لهم إلى أن يعترفوا بالحق أو يَكفُوا . روى المفسرون وأهل السيرة أنّ وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة قال لهم العاقب : نلاعنه فوالله لئن كان نبيئاً فلاعننا لا نفلح أبداً ولا عقبنا من بعدنا فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة كما سيأتي .
وهذه المباهلة لعلّها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الحجة عليهم .
وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء : لأنه لمّا ظهرت مكابرتهم في الحق وحبّ الدنيا ، عُلم أنّ من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحبّ إليه من الحق كما قال شعيب { أرَهْطِيَ أعَزُّ علَيكم من الله } وأنه يخشى سوء العيش ، وفقدان الأهل ، ولا يخشى عذاب الآخرة .
والظاهر أنّ المراد بضمير المتكلم المشارَك أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين ، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللاّئي كُنَّ معهم .
والنساء : الأزواج لا محالة ، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا وَرَد غير مضاف ، قال تعالى : { يا نساء النبيء لستُنّ كأحدٍ من النساء } [ الأحزاب : 32 ] وقال : { ونساء المؤمنين } وقال النابغة :
حِذارَا على أنْ لاَ تُنَالَ مَقَادَتِي *** ولاَ نِسْوَتِي حَتى يَمُتْن حَرائرا
والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا وإياكم ، وأما الأبناء فيحتمل أنّ المراد شبانهم ، ويحتمل أنه يشمل الصبيان ، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة .
والابتهال افتعال من البهل ، وهو اللعن ، يقال : بهله الله بمعنى لعنه واللعنة بَهلة وبُهلة بالضم والفتح ثم استعمل الابتهال مجازاً مشهوراً في مطلق الدعاء قال الأعشى :
لا تقعدنَّ وقد أكَّلّتَها حطباً . . . تعوذ من شرّها يوماً وتبتهل
وهو المراد هنا بدليل أنّه فرّع عليه قوله : { فنجعل لعنت الله على الكاذبين } .
وهذه دعوة إنصاف لا يدعو لها إلاّ واثق بأنه على الحق . وهذه المباهلة لم تقع لأنّ نصارى نجران لم يستجيبوا إليها . وقد روى أبو نعيم في الدلائل أنّ النبي هيأ علياً وفاطمةً وحَسَناً وحُسَيناً ليصحبهم معه للمباهلة . ولم يذكروا فيه إحضار نسائه ولا إحضار بعض المسلمين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فمن حاجك فيه}: فمن خاصمك في عيسى، {من بعد ما جاءك من العلم}: يعني من البيان من أمر عيسى، يعني ما ذكر في هذه الآيات، {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل}: نخلص الدعاء إلى الله عز وجل، {فنجعل لعنة الله على الكاذبين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{فَمَنْ حاجّكَ فِيهِ}: فمن جادلك يا محمد في المسيح عيسى ابن مريم، والهاء في قوله: {فِيهِ} عائدة على ذكر عيسى، وجائز أن تكون عائدة على الحقّ الذي قال تعالى ذكره: {الحَقّ مِنْ رَبّكَ}. {مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ}: من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بينته لك في عيسى أنه عبد الله. {فَقُلْ تَعَالَوْا}: هلموا فلندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم. {ثم نَبْتَهِلْ} يقول: ثم نلتعن، يقال في الكلام: ما له بَهَلَهَ الله! أي لعنه الله، وما له عليه بُهْلَة الله! يريد اللعن. {فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ}: منا ومنكم في آية عيسى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
دعاهم إلى الدعاء باللعنة على الكاذبين، فامتنعوا عن ذلك خوفا منهم لخوف اللعنة، فدل امتناعهم عن ذلك أنهم عرفوا كذبهم، لكنهم تعاموا، وكابروا، فلم يقروا بالحق. وفي الدعاء إلى المباهلة دلالة ظهور التعنت والعناء، وفي تخلفهم عن ذلك دليل علمهم بتعنتهم وخوفهم مما قد وعدوا بالنزول عليهم، لزموا مع ذلك ما كانوا عليه من السفه والعناد، ليعلم أن الحيل عمن اعتاد المعاندة منقطعة. ومعلوم أن الدعاء إلى المباهلة لا يكون في أول أحوال الدعوة، وإنما يكون بتوفير الحجة وقطع الشبهة، ففي ذلك بيان أنه كانت ثم محاجات حتى بلغ الأمر على ذلك: أمر القتال أنه لم يوضع في أول أحوال الإرسال، وفي الحال التي للقول وللحق وجه القبول من طريق النصف والعقل، وإنما يكون عند ظهور معاندتهم وكثرة سفههم حتى هموا بالقتال، وأكثروا الأذى، وأكرهوا قوما على الكفر، وأخرجوا رسول رب العالمين من بين أظهرهم بما راموا قتله، وطردوا أصحابه من بلادهم حتى تحصنوا بالغيران، فأذن الله عند ذلك بالقتال وفتح الفتوح لتكون آيته في كل وجوه الآيات ظاهرة، وحجته بينة، وفي ذلك جواز محاجة الكفرة والتوحيد والرسالة، لكن على ما قال الله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 135]... وفي ذلك تعليم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن ذلك باللطف والرفق، يري المقصود به ليقرر به عنده الحجة، ويزيل عنه الشبهة من الوجه الذي يحتمله عقله، ويبلغه فهمه، فإن رآه يتعامى في ذلك يوعده، ويخوفه بالذي في ذاك من الوعيد. فإذا رأيته يكابر عرفت شؤم طبعه وسوء عنصره، فتداويه بما جاء به التعليم من الضرب والحبس، فإن نفع ذلك، وإلا فكف شره عن غيره وتطهير الأرض، فإنه النهاية في القمع، والغاية في ما يحق من معاملة السفهاء، والله أعلم. لكنه على منازل لا يحتمل انتهاء كل أنواع المآثم إلى هذه الغاية، بل فيها ما كان أعظمها دون هذا بكثير، والله أعلم. لذلك يلزم تعرف مقادير الآثام أولا ليعرف بها ما يحتمل كل إثم من العقوبة فيه والزجر به، ولا قوة إلا بالله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بعدما ظَهَرْتَ على صدق ما يُقال لك، وتَحقَّقْتَ بقلبك معرفة ما خاطبناك، فلا تحتشم من حملهم على المباهلة، وثقْ بأن لك القهر والنصرة، وأَنَّا توليناك، وفي كنف قُرْبنا آويناك،...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
والابتهال: الاجتهاد في دعاء اللعنة...واللعنة: الإبعاد والطرد عن الرحمة بطريق العقوبة،...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل. ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق. وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها. وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {تعالوا} تفاعلوا من العلو، وهي كلمة قصد بها أولاً تحسين الأدب مع المدعو ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه وللبهيمة ونحو ذلك.. ودعاء النساء [والأبناء] للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين، وظاهر الأمر أن النبي عليه السلام جاءهم بما يخصه، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أتاهم سبحانه وتعالى من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام بالفصل في البيان الذي ليس بعده إلا العناد، فبين أولاً ما تفضل فيه عيسى عليه الصلاة والسلام من أطوار الخلق الموجبة للحاجة المنافية للإلهية، ثم فضح بتمثيله بآدم عليه الصلاة والسلام شبهتَهم، ألزمهم على تقديره بالفيصل الأعظم للمعاند الموجب للعذاب المستأصل أهل الفساد فقال سبحانه وتعالى: {فمن} أي فتسبب عما آتيناك به من الحق في أمره أنا نقول لك: من {حآجك فيه} أي خاصمك بإيراد حجة، أي كلام يجعله في عداد ما يقصد.
ولما كان الملوم إنما هو من بلغته هذه الآيات وعرف معناها دون من حاج في الزمان الذي هو بعد نزولها دون اطلاعه عليها قال: {من} أي مبتدئاً المحاجة من، ويجوز أن يكون الإتيان بمن لئلا يفهم أن المباهلة تختص بمن استغرق زمان البعد بالمجادلة {بعدما جآءك من العلم} أي الذي أنزلناْه إليك وقصصناه عليك في أمره {فقل تعالوا} أي أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر نعرف فيه علو المحق وسفول المبطل {ندع أبنآءنا وأبناءكم} أي الذين هم أعز ما عند الإنسان لكونهم بعضه {ونساءنا ونساءكم} أي اللاتي هن أولى ما يدافع عنه أولو الهمم العوالي {وأنفسنا وأنفسكم} فقدم ما يدافع عنه ذوو الأحساب ويفدونه بنفوسهم، وقدم منه الأعز الألصق بالأكباد وختم بالمدافع، وهذا الترتيب على سبيل الترقي إذا اعتبرت أنه قدم الفرع ثم الأصل وبدأ بالأدنى وختم بالأعلى، وفائدة الجمع الإشارة إلى القطع بالوثوق بالكون على الحق. ثم ذكر ما له هذا الجمع مشيراً بحرف التراخي إلى خطر الأمر وأنه مما ينبغي الاهتمام به والتروي له وإمعان النظر فيه لوخامة العاقبة وسوء المنقلب للكاذب فقال: {ثم نبتهل} أي نتضرع -قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما نقله الإمام أبو حيان في نهره. وقال الحرالي: الابتهال طلب البهل، والبهل أصل معناه التخلي والضراعة في مهم مقصود- انتهى. {فنجعل لعنت الله} أي الملك الذي له العظمة كلها فهو يجير ولا يجار عليه، أي إبعاده وطرده {على الكاذبين} و قال ابن الزبير بعد ما تقدم من كلامه: ثم لما أتبعت قصة آدم عليه الصلاة والسلام -يعني في البقرة- بذكر بني إسرائيل لوقوفهم من تلك القصص على ما لم تكن العرب تعرفه، وأنذروا وحذروا؛ أتبعت قصة عيسى عليه الصلاة والسلام -يعني هنا- بذكر الحواريين وأمر النصارى إلى آية المباهلة -انتهى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل} لهم قولا يظهر علمك الحق وارتيابهم الباطل {تعالوا ندع أبناءنا وأبناءك ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل} يقال ابتهل الرجل دعا وتضرع، والقوم تلاعنوا. وفسر الابتهال هنا بقوله: {فنجعل لعنت الله على الكاذبين} وتسمى هذه الآية آية المباهلة، وقد ورد من عدة طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا نصارى نجران للمباهلة فأبوا. أخرج البخاري ومسلم:" أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا ولا عقبنا من بعدنا. فقال له نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا فقال: قم يا أبا عبيدة فلما قام قال: هذا أمين هذه الأمة".
وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس "إن ثمانية من نصارى نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب والسيد فأنزل الله تعالى: {قل تعالوا}. فقالوا أخرنا ثلاثة أيام فذهبوا إلى قريظة والنضير وبني قينقاع فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه وقالوا: هو النبي الذي نجده في التوراة. فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حلة في صفر وألف في رجب ودراهم "وروي في الصلح غير ذلك. ومنها صالحوه على الجزية.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما عليهم السلام والرضوان وخرج بهم وقال: "إن أنا دعوت فأمِّنوا أنتم" وفي رواية لمسلم والترمذي وغيرهما عن سعد قال: "لما نزلت هذه الآية {قل تعالوا} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال: اللهم هؤلاء أهلي" وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه {قل تعالوا ندع أبناءنا} قال فجاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده. والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين.
قال الأستاذ الإمام: الروايات متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة نساءنا على علي وفاطمة وكلمة أنفسنا على علي فقط ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف. وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة. ولكن واضيعها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة "نساءنا" لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم. وأبعد من ذلك ان يراد بأنفسنا علي عليه الرضوان. ثم إن وفد النجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم. وكل ما يفهم من الآية أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم ومماراتهم فيما يقولون وزلزالهم فيما يعتقدون وكونهم على غير بينة ولا يقين. وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه وإبعاده من رحمته؟ وأي جراءة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا؟
قال: أما كون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى عليه السلام فحسبنا في بيانه قوله تعالى: {من بعد ما جاءك من العلم} فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين وفي قوله: {ندع أبناءنا وأبناءكم} إلخ وجهان أحدهما أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمين ندعو أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وأنتم كذلك ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس وإنما الإشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص.
أقول: وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية وهو مبني على اعتبار المرأة كالرجل في الأمور العامة إلا ما استثني منها ككونها لا تباشر الحرب بنفسها بل يكون حظها من الجهاد خدمة المحاربين كمداواة الجرحى. وقد علمنا ما تقدم أن الحكمة في الدعوة إلى المباهلة هي إظهار الثقة بالاعتقاد واليقين فيه، فلو لم يعلم الله أن المؤمنات على يقين في اعتقادهن كالمؤمنين لما أشركهن معهم في هذا الحكم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{من بعد ما جاءك من العلم} بأنه عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الأدلة الدالة على أنه عبد أنعم الله عليه، دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني، فلم يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ولا يستفيدها هو، لأن الحق قد تبين، فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله، قصده اتباع هواه، لا اتباع ما أنزل الله، فهذا ليس فيه حيلة، فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته وملاعنته،...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذه المباهلة لعلّها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الحجة عليهم. وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء: لأنه لمّا ظهرت مكابرتهم في الحق وحبّ الدنيا، عُلم أنّ من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحبّ إليه من الحق كما قال شعيب {أرَهْطِيَ أعَزُّ علَيكم من الله} وأنه يخشى سوء العيش، وفقدان الأهل، ولا يخشى عذاب الآخرة. والظاهر أنّ المراد بضمير المتكلم المشارَك أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللاّئي كُنَّ معهم. والنساء: الأزواج لا محالة، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا وَرَد غير مضاف، قال تعالى: {يا نساء النبيء لستُنّ كأحدٍ من النساء} [الأحزاب: 32] وقال: {ونساء المؤمنين}... والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا وإياكم، وأما الأبناء فيحتمل أنّ المراد شبانهم، ويحتمل أنه يشمل الصبيان، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
المحاجة: تبادل الحجة،سواء أكانت الحجة قوية ام كانت حجة داحضة عند ربهم،... والمعنى على الأول يشير إلى ان المباهلة بين أهل الحق مجتمعين،وأهل الباطل مجتمعين،ثم يتجهون جميعا على رب العالمين؛ لأن الأمر يهم الجميع،فإما ان يذعن احد الفريقين للآخر،وإما انه يطرد من رحمة الله تعالى.وعلى الثاني يشير إلى ان المباهلة بين النبي وأسرته،وكبراء الفريق الآخر وأسرهم،... وفي الآيات الكريمة إشارة إلى عدة معان نفسية واجتماعية:
أولها:أن المجادل المماري لا تزيده الحجة القوية اقتناعا،ولا تحمله على الإذعان،إنما يحمله على الإذعان التوجيه النفسي،بأن يدرس مقدار اقتناعه هو بما يقول،وفي الابتهال وسط لجاجة أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه دعوة لهم إلى ان يفتشوا قلوبهم ويعرفوا مقدار إيمانهم بما يقولون،ومقدار الحق فيما يعدلون؛ ولذلك خروا صاغرين،ولم يستطيعوا جدالا.
وثانيها:أن الدعوة بالتي هي أحسن توجب على الداعي ألا يفرط في المجادلة،كما كان يقول الإمام مالك:بين الحق ولا تجادل فيه،فإن كل مجادلة توجب على الفريق الآخر ان يلتزم موقفه.
ثالثها:انه يجب ان تعلم الذرية والنساء شئون الدين؛ ولذلك كانوا مشتركين في تلك المنزلة بين الحق والباطل وهذه المعركة النفسية الفاصلة بين إيمان المؤمنين،وانحراف المنحرفين.
ورابعها:التعاون الفكري والنفسي بين المؤمنين؛ فإن تلك المباهلة كانت بين اهل الإيمان متعاونين على دعوة الحق،وأهل الباطل مدعوين إلى التعاون عليه فيها عن كانوا مؤمنين به،فلم يحيروا جوابا...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم...).
بعد الآيات التي استدلّ فيها على بطلان القول بألوهية عيسى بن مريم، يأمر الله نبيّه بالمباهلة إذا جاءه من يجادله من بعد ما جاء من العلم والمعرفة. وأمره أن يقول لهم: إنّي سأدعو أبنائي، وأنتم ادعوا أبناءكم، وأدعو نسائي، وأنتم ادعوا نساءكم، وأدعو نفسي، وتدعون أنتم أنفسكم، وعندئذ ندعو الله أن ينزل لعنته على الكاذب منّا (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين).
ولا حاجة للقول بأنّ القصد من المباهلة لم يكن إحضار جمع من الناس للّعن، ثمّ ليتفرّقوا كلٌ إلى سبيله، لأنّ عملاً كهذا لن يكون له أيّ تأثير، بل كان المنتظر أن يكون لهذا الدعاء واللعن أثر مشهود عياناً فيحيق بالكاذب عذاب فوري.
وبعبارة أخرى: فإنّ المباهلة وإن لم يكن في الآية ما يشير إلى تأثيرها كانت بمثابة «السهم الأخير» بعد أن لم ينفع المنطق والاستدلال، فإنّ الدعاء وحده لم يكن المقصود بها، بل كان المقصود منها هو «أثرها الخارجي».
المباهلة دليل قاطع على أحقية نبي الإسلام:
لعلّ قضية المباهلة بهذا الشكل لم تكن معروفة عند العرب، بل كانت أُسلوباً يبيّن صدق النبيّ وإيمانه بشكل قاطع. إذ كيف يمكن لمن لا يؤمن كلّ الإيمان بعلاقته بالله أن يدخل هذا الميدان، فيطلب من معارضيه أن يتقدّموا معه إلى الله يدعونه أن ينزل لعناته على الكاذب، وأن يروا سرعة ما يحلّ بالكاذب من عقاب؟! لاشكّ أنّ دخول هذا الميدان خطر جدّاً، لأن المبتهل إذا لم يجد استجابة لدعائه ولم يظهر أيّ أثر لعقاب الله على معارضيه، فلن تكون النتيجة سوى فضيحة المبتهل. فكيف يمكن لإنسان عاقل ومدرك أن يخطو مثل هذه الخطوة دون أن يكون مطمئناً إلى أنّ النتيجة في صالحه؟ لهذا قيل إنّ دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المباهلة تعتبر واحداً من الأدلّة على صدق دعوته وإيمانه الراسخ بها، بصرف النظر عن النتائج التي كانت ستكشف عنها المباهلة.