تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة اقرأ [ وهي ] مكية .

{ 1 - 19 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ }

هذه السورة أول السور القرآنية نزولًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فإنها نزلت عليه في مبادئ النبوة ، إذ كان لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان ، فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام بالرسالة ، وأمره أن يقرأ ، فامتنع ، وقال : { ما أنا بقارئ } فلم يزل به حتى قرأ . فأنزل الله عليه : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } عموم الخلق .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة اقرأ

وهي أول شيء نزل من القرآن .

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح . ثم حُبب إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه - وهو : التعبد - الليالي ذواتَ العدد ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد{[30233]} لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت : ما أنا بقارئ " . قال : " فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } حتى بلغ : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال : فرجع بها تَرجُف بَوادره{[30234]} حتى دخل على خديجة فقال : " زملوني زملوني " . فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع . فقال : يا خديجة ، ما لي : فأخبرها الخبر وقال : " قد خشيت علي " . فقالت له : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتصدُق الحديث ، وتحمل الكَلَّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى بن قُصي - وهو ابن عم خديجة ، أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل{[30235]} ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ - فقالت خديجة : أيّ ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . فقال ورقة : ابنَ أخي ، ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى{[30236]} ليتني{[30237]} فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أومخرجيَّ هُم ؟ " . فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به{[30238]} إلا عودي ، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا . [ ثم ] {[30239]} لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي ، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رؤوس شَوَاهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسولُ الله حقًا . فيسكن بذلك جأشه ، وتَقَرُّ نفسه فيرجع . فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل ، فقال له مثل ذلك .

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري{[30240]} وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى ، فمن أراده فهو هناك محرر ، ولله الحمد والمنة .

فأول شيء [ نزل ]{[30241]} من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات{[30242]} وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم . وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ، ذهني ولفظي ورسمي ، والرسمي يستلزمهما من غير عكس ، فلهذا قال : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وفي الأثر : قيدوا العلم بالكتابة{[30243]} . وفيه أيضا : " من عمل بما علم رزقه{[30244]} الله علم ما لم يكن [ يعلم ]{[30245]} .


[30233]:- (1) في م، أ: "فتزوده".
[30234]:- (2) في أ: "يرجف فؤاده".
[30235]:- (3) في م ،: "وكتب من الإنجيل بالعربية".
[30236]:- (4) في أ: "على عيسى".
[30237]:- (5) في م: "يا ليتني".
[30238]:- (6) في أ: "بمثل ما جئت به".
[30239]:- (7) زيادة من م، أ، والمسند.
[30240]:- (1) المسند (6/232) وصحيح البخاري برقم (3، 4، 4953، 6982، 4955، 3392) وصحيح مسلم برقم (160).
[30241]:- (2) زيادة من م، أ.
[30242]:- (3) في م: "المباركة".
[30243]:- (4) جاء عن عمر - رضي الله عنه - موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) وابن أبي شيبة في المصنف (9/49) والدارمي في السنن برقم (503). وعن أنس موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص368)، وجاء مرفوعا من حديث أنس، رواه الخطيب في تقييد العلم (ص 70) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص 368). ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) وابن عبد البر في جمع بيان العلم (1/73) والموقوف أصح.
[30244]:- (5) في م: "أورثه".
[30245]:- (6) زيادة من م، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ * الّذِى عَلّمَ بِالْقَلَمِ * عَلّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ * أَن رّآهُ اسْتَغْنَىَ * إِنّ إِلَىَ رَبّكَ الرّجْعَىَ } .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : اقْرأْ باسِمِ رَبّكَ محمدا صلى الله عليه وسلم يقول : اقرأ يا محمد بذكر ربك الّذِي خَلَقَ ، ثم بين الذي خلق فقال : خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ عَلَقٍ يعني : من الدم ، وقال : من علق والمراد به من علقة ، لأنه ذهب إلى الجمع ، كما يقال : شجرة وشجر ، وقصَبة وقَصَب ، وكذلك علقة وعَلَق . وإنما قال : من علق والإنسان في لفظ واحد ، لأنه في معنى جمع ، وإن كان في لفظ واحد ، فلذلك قيل : من عَلَق .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة القلم{[1]}

بسم الله الرحمن الرحيم سورة العلق وهي مكية بإجماع ، وهي أول ما نزل من كتاب الله تعالى ، نزل صدرها في غار حراء حسب ما ثبت في صحيح البخاري وغيره ، وروي من طريق جابر بن عبد الله أن أول ما نزل { يا أيها المدثر }{[2]} وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل{[3]} : إن أول ما نزل فاتحة الكتاب . والقول الأول أصح ، والترتيب في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك

في صحيح البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها ، قال : أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه التحنث{[11900]} في غار حراء ، فكان يخلو فيه فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ثم ينصرف حتى جاءه الملك وهو في غار حراء ، فقال له : { اقرأ } ، فقال : ما أنا بقارىء ، قال : فأخذني فغطني{[11901]} ثم كذلك ثلاث مرات ، فقال له في الثالثة : { اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق } إلى قوله { ما لم يعلم } ، قال : فرجع بها رسول ترجف بوادره{[11902]} الحديث بطوله ، ومعنى هذه الآية : { اقرأ } هذا القرآن { باسم ربك } ، أي ابدأ فعلك بذكر اسم ربك ، كما قال : { اركبوا فيها بسم الله }{[11903]} [ هود : 41 ] هذا وجه . ووجه آخر في كتاب الثعلبي أن المعنى : { اقرأ } في أول كل سورة ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم ، ووجه آخر أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو { باسم ربك الذي خلق } ، كأنه قال له : { اقرأ } هذا اللفظ ، ولما ذكر الرب وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أرباباً جاءه بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها ، وهي قوله تعالى : { الذي خلق } .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[3]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني.
[11900]:التحنث: التعبد، يقال: فلان يتحنث، أي يفعل فعلا يخرج به من الإثم والحرج.
[11901]:بمعنى : ضمني وعصرني عصرا شديدا.
[11902]:الذي في صحيح البخاري، "يرجف فؤاده". والحديث طويل، وبعض ألفاظه تختلف هنا عما في صحيح البخاري، وقد أخرجه عبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، وابن جرير، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه، والبيهقي من طريق ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وذكر ذلك الواحدي في أول كتابه "أسباب النزول".
[11903]:من الآية 41 من سورة هود.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

اشتهرت تسمية هذه السورة في عهد الصحابة والتابعين باسم { سورة اقرأ باسم ربك } فأخبرت عن السورة ب{ اقرأ باسم ربك } . وروي ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي رجاء العطاردي ومجاهد والزهري ، وبذلك عنونها الترمذي .

وسميت في المصاحف ومعظم التفاسير { سورة العلق } لوقوع لفظ { العلق } في أوائلها ، وكذلك سميت في بعض كتب التفسير .

وعنونها البخاري { اقرأ باسم ربك الذي خلق } .

وتسمى { سورة اقرأ } ، وسماها الكواشي في التخليص { سورة اقرأ والعلق } .

وعنونها ابن عطية وأبو بكر بن العربي { سورة القلم } وهذا اسم سميت به { سورة ن~ والقلم } ولكن الذين جعلوا اسم هذه السورة { سورة القلم } يسمون الأخرى { سورة ن~ } . ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم .

وهي مكية باتفاق .

وهي أول سورة نزلت في القرآن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة الواضحة ، ونزل أولها بغار حراء على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مجاور فيه في رمضان ليلة سبعة عشرة منه من سنة أربعين بعد الفيل إلى قوله { علم الإنسان ما لم يعلم } . ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن عائشة . وفيه حديث عن أبي موسى الأشعري وهو الذي قاله أكثر المفسرين من السلف والخلف .

وعن جابر أول سورة المدثر ، وتؤول بأن كلامه نص أن سورة المدثر أول سورة نزلت بعد فترة الوحي كما في الإتقان كما أن سورة الضحى نزلت بعد فترة الوحي الثانية .

وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة عشرون ، وفي عد أهل الشام ثمان عشرة ، وفي عد أهل الكوفة والبصرة تسع عشرة .

أغراضها

تلقين محمد صلى الله عليه وسلم الكلام القرآني وتلاوته إذ كان لا يعرف التلاوة من قبل .

والإيماء إلى أن علمه بذلك ميسر لأن الله الذي ألهم البشر العلم بالكتابة قادر على تعليم من يشاء ابتداء .

وإيماء إلى أن أمته ستصير إلى معرفة القراءة والكتابة والعلم .

وتوجيهه إلى النظر في خلق الله الموجودات وخاصة خلقه الإنسان خلقا عجيبا مستخرجا من علقة فذلك مبدأ النظر .

وتهديد من كذب النبي صلى الله عليه وسلم وتعرض ليصده عن الصلاة والدعوة إلى الهدى والتقوى .

وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عالم بأمر من يناوونه وأنه قامعهم وناصر رسوله .

وتثبيت الرسول على ما جاءه من الحق والصلاة والتقرب إلى الله .

وأن لا يعبأ بقوة أعداءه لأن قوة الله تقهرهم .

هذا أول ما أوحي به من القرآن إلى محمد صلى الله عليه وسلم لِما ثبت عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما سيأتي قريباً .

وافتتاح السورة بكلمة { اقرأ } إيذان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون قارئاً ، أي تالياً كتاباً بعد أن لم يكن قد تلا كتاباً قال تعالى : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب } [ العنكبوت : 48 ] ، أي من قبل نزول القرآن ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له اقرأ : " ما أنا بقارىء " .

وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن .

وقوله تعالى : { اقرأ } أمر بالقراءة ، والقراءة نطق بكلام معيَّن مكتوبٍ أو محفوظٍ على ظهر قلب .

وتقدم في قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللَّه من الشيطان الرجيم } في سورة النحل ( 98 ) .

والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال ، فالمطلوب بقوله : { اقرأ } أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال ، أي أن يقول مَا سَيُمْلَى عليه ، والقرينة على أنه أمر بقراءة في المستقبل القريب أنه لم يتقدم إملاء كلام عليه محفوظ فتطلب منه قراءته ، ولا سُلمت إليه صحيفة فتطلب منه قراءتها ، فهو كما يقول المُعلم للتلميذ : اكتب ، فيتأهب لكتابة ما سيمليه عليه .

وفي حديث « الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها قولها فيه : « حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال : فقلت : ما أنا بقارىء فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرْسَلَني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارىء فأخذني فغطّني الثانيةَ حتى بلغ مني الجَهد ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد ، ثم أرسلني فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى { ما لم يعلم } .

فهذا الحديث روته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولها قال : " فقلت : ما أنا بقارىء " . وجميع ما ذكرته فيه مما روته عنه لا محالة وقد قالت فيه : « فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فُؤاده » أي فرجع بالآيات التي أُمليَتْ عليه ، أي رجع متلبساً بها ، أي بوعيها .

وهو يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى ما أوحي إليه . وقرأه حينئذٍ ويزيد ذلك إيضاحاً قولها في الحديث : « فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك » ، أي اسمع القول الذي أوحي إليه وهذا ينبىء بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قيل له بعد الغطة الثالثة : { اقرأ باسم ربك } الآيات الخمس قد قرأها ساعتئذٍ كما أمره الله ورجع من غار حراء إلى بيته يقرؤها وعلى هذا الوجه يكون قول المَلك له في المرات الثلاث { اقرأ } إعادة للفّظ المنزل من الله إعادة تكرير للاستئناس بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل .

ولم يُذكر لِفعل { اقرأ } مفعول ، إما لأنه نزل منزلة اللازم وأن المقصود أوجد القراءة ، وإما لظهور المقروء من المقام ، وتقديره : اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن .

وقوله { باسم ربك } فيه وجوه :

أولها : أن يكون افتتاح كلام بعد جملة { اقرأ } وهو أول المقروء ، أي قل : باسم الله ، فتكون الباء للاستعانة فيجوز تعلقه بمحذوف تقديره : ابتدىء ويجوز أن يتعلق ب { اقرأ } الثاني فيكون تقديمه على معموله للاهتمام بشأن اسم الله . ومعنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة ، وإقحامُ كلمة ( اسم ) لأن الاستعانة بذكر اسمه تعالى لا بذاته كما تقدم في الكلام على البسملة ، وهذا الوجه يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { باسم الله } حين تلقَّى هذه الجملة .

الثاني : أن تكون الباء للمصاحبة ويكون المجرور في موضع الحال من ضمير { اقرأ } الثاني مقدَّماً على عامله للاختصاص ، أي اقرأ ما سيوحَى إليك مصاحباً قراءتَك ( اسمَ ربك ) . فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله ، ويكون هذا إثباتاً لوحدانية الله بالإلهية وإبطالاً للنداء باسم الأصنام الذي كان يفعله المشركون يقولون : باسم اللاتِ ، باسم العزى ، كما تقدم في البسملة . فهذا أول ما جاء من قواعد الإسلام قد افتتح به أول الوَحي .

الثالث : أن تكون الباء بمعنى ( على ) كقوله تعالى : { من إن تأمنه بقنطار } [ آل عمران : 75 ] ، أي على قنطار . والمعنى : اقرأ على اسم ربك ، أي على إذنه ، أي أن المَلَك جاءك على اسم ربك ، أي مرسلاً من ربك ، فذكر ( اسْم ) على هذا متعين .

وعدل عن اسم الله العَلم إلى صفة { ربك } لما يؤذن وصف الرب من الرأفة بالمربوب والعناية به ، مع ما يتأتى بذكره من إضافته إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إضافة مؤذنة بأنه المنفرد بربوبيته عنده رداً على الذين جعلوا لأنفسهم أرباباً من دون الله فكانت هذه الآية أصلاً للتوحيد في الإسلام .

وجيء في وصف الربّ بطريق الموصول { الذي خلق } ولأن في ذلك استدلالاً على انفراد الله بالإلهية لأن هذا القرآن سيُتلى على المشركين لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى علة الخبر ، وإذا كانت علة الإقبال على ذكر اسم الرب هي أنه خالق دل ذلك على بطلان الإقبال على ذكر غيره الذي ليس بخالق ، فالمشركون كانوا يقبلون على اسم اللات واسم العزى ، وكونُ الله هو الخالق يعترفون به قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] فلما كان المقام مقام ابتداء كتاب الإسلام دين التوحيد كان مقتضياً لذكر أدلّ الأوصاف على وحدانيته .