ثم وصف أولي الألباب بأنهم { يذكرون الله } في جميع أحوالهم : { قياما وقعودا وعلى جنوبهم } وهذا يشمل جميع أنواع الذكر بالقول والقلب ، ويدخل في ذلك الصلاة قائما ، فإن لم يستطع فقاعدا ، فإن لم يستطع فعلى جنب ، وأنهم { يتفكرون في خلق السماوات والأرض } أي : ليستدلوا بها على المقصود منها ، ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين ، فإذا تفكروا بها ، عرفوا أن الله لم يخلقها عبثا ، فيقولون : { ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك } عن كل ما لا يليق بجلالك ، بل خلقتها بالحق وللحق ، مشتملة على الحق .
{ فقنا عذاب النار } بأن تعصمنا من السيئات ، وتوفقنا للأعمال الصالحات ، لننال بذلك النجاة من النار .
ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } كما ثبت في صحيح البخاري عن عِمْران بن حُصَين ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صَلِّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لَم تستطع فَعَلَى جَنْبِكَ{[6362]} {[6363]} أي : لا يقطعون ذِكْره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : يفهمون ما فيهما من الحكَم الدالة على عظمة الخالق وقدرته ، وعلمه وحكمته ، واختياره ورحمته .
وقال الشيخ أبو سليمان الداراني : إني لأخرجُ من منزلي ، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عَلَي فيه نِعْمَة ، أوْ لِي فيه عِبْرَة . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب " التفكر{[6364]} والاعتبار " .
وعن الحسن البصري أنه قال : تَفَكُّر سَاعَة خير من قيام ليلة . وقال الفُضَيل : قال الحسن : الفكرة مِرْآة تريك حَسنَاتك وسيئاتك . وقال سفيان بن عيينة : الفكرة نور يدخل قلبك . وربما تمثل بهذا البيت :
إذا المرء كانت له فكْرَةٌ *** ففي كل شيء له عبرَة
وعن عيسى ، عليه السلام ، أنه قال : طُوبَى لمن كان قِيلُه تذكّرًا ، وصَمْته تَفكُّرًا ، ونَظَره عبرًا .
وقال لقمان الحكيم : إن طول الوحدة ألْهَمُ للفكرة ، وطولَ الفكْرة دليل على طَرْق باب الجنة .
وقال وهب بن مُنَبِّه : ما طالت فكرة امرِئ قط إلا فهم ، وما{[6365]} فهم امرؤ قط إلا علم ، وما علم امرؤ قط إلا عمل .
وقال عمر بن عبد العزيز : الكلام بذكر الله ، عز وجل ، حَسَن ، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة .
وقال مغيث الأسود : زوروا القبور كل يوم تفكركم ، وشاهدوا الموقف بقلوبكم ، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار ، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها ، وكان يبكي عند ذلك حتى يُرْفع صَريعا من بين أصحابه ، قد ذهب عقله .
وقال عبد الله بن المبارك : مَرَّ رجل برَاهبٍ عند مَقْبَرة ومَزْبَلَة ، فناداه فقال : يا راهب ، إن عندك كَنزين من كنوز الدنيا لك فيهما مُعْتَبَر ، كنز الرجال وكنز الأموال .
وعن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه ، يأتي الخَرِبة فيقف على بابها ، فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهْلُك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] .
وعن ابن عباس أنه قال : ركعتان مقتصدتان في تَفكُّر ، خير من قيام ليلة والقلب ساه{[6366]} .
وقال الحسن : يا ابن آدم ، كُلْ في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثه ، ودع ثلثه الآخر تتنفَّس للفكرة .
وقال بعض الحكماء : من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطَمَسَ مِنْ بَصَرِ قلبه بقدر تلك الغَفْلَة .
وقال بِشْر بن الحارث الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه .
وقال الحسن ، عن عامر بن عبد قيس قال : سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون : إن ضياء الإيمان ، أو نور الإيمان ، التفكر .
وعن عيسى ، عليه السلام ، أنه قال : يا ابن آدم الضعيف ، اتق الله حيثما كنت ، وكُنْ في الدنيا ضَيْفًا ، واتَّخِذِ المساجدَ بيتا ، وعَلِّم عينيك البكاء ، وجَسَدك الصَّبْر ، وقلبك الفِكْر ، ولا تهتم برزق غد .
وعن أمير المؤمنين عُمَرَ بن عبد العزيز ، رضي الله عنه ، أنه بكى يوما بين أصحابه ، فسُئل عن ذلك ، فقال : فَكَّرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها ، فاعتبرت منها بها ، ما تكاد شهواتها تَنْقَضي حتى تكدرها مرارتُها ، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادّكر .
وقال ابن أبي الدنيا : أنشدني الحُسَين بن عبد الرحمن :
نزهَة المؤمن الفكَرْ *** لذّة المؤمن العِبرْ
نحمدُ اللهَ وَحْدَه*** نحْنُ كل عَلَى خَطَرْ
رُبّ لاهٍ وعُمْرُه *** قد تَقَضّى وما شَعَرْ
رُبّ عيش قَدْ كَانَ فو *** ق المُنَى مُونقَ الزَهَرْ
في خَرير{[6367]} من العيُو *** ن وَظل من الشَّجَرْ
وسُرُور من النَّبا *** ت وَطيب منَ الثَمَرْ
غَيَّرَتْه وَأهْلَهُ{[6368]} *** سرعةُ الدّهْر بالغَيرْ
نَحْمَد الله وحده *** إنّ في ذا لمعتبر
إن في ذَا لَعبرةً *** للبيب إن اعْتَبَرْ
وقد ذمّ الله تعالى مَنْ لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته ، فقال : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ . وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 105 ، 106 ] ومدح عباده المؤمنين : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قائلين { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا } أي : ما خلقت هذا الخلق عَبَثًا ، بل بالحق لتجزي{[6369]} الذين أساؤوا بما عملوا ، وتجزي{[6370]} الذين أحسنوا بالحسنى . ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا : { سُبْحَانَكَ } أي : عَنْ أن تخلق شيئا باطلا { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي : يا من خَلَق الخلق بالحق والعدل يا من هو مُنزه عن النقائص والعيب والعبث ، قنا من{[6371]} عذاب النار بحولك وقوتك وَقيضْنَا لأعمال ترضى بها عنا ، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم ، وتجيرنا به من عذابك الأليم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.