تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ }

أي : أجاب الله دعاءهم ، دعاء العبادة ، ودعاء الطلب ، وقال : إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى ، فالجميع سيلقون ثواب أعمالهم كاملا موفرا ، { بعضكم من بعض } أي : كلكم على حد سواء في الثواب والعقاب ، { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا } فجمعوا بين الإيمان والهجرة ، ومفارقة المحبوبات من الأوطان والأموال ، طلبا لمرضاة ربهم ، وجاهدوا في سبيل الله .

{ لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله } الذي يعطي عبده الثواب الجزيل على العمل القليل .

{ والله عنده حسن الثواب } مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فمن أراد ذلك ، فليطلبه من الله بطاعته والتقرب إليه ، بما يقدر عليه العبد .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

يقول تعالى : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } أي : فأجابهم ربهم ، كما قال الشاعر :

وداعٍ دعا : يَا مَن يجيب إلى النّدى *** فَلم يَسْتجبْه عنْد ذاك مجيب{[6378]}

قال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن سلمة ، رجل من آل أم سلمة ، قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، لا نَسْمَع اللهَ ذَكَر النساء في الهجرة بشيء ؟ فأنزل الله [ عز وجل ]{[6379]} { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } إلى آخر الآية . وقالت الأنصار : هي أول ظعينة قَدمت علينا .

وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عُيَيْنة ، ثم قال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه{[6380]} .

وقد روى ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، عن أم سَلَمة قالت : آخر آية أنزلت هذه الآية : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } إلى آخرها . رواه ابن مَرْدُويَه .

ومعنى الآية : أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا - مما تقدم ذكره - فاستجاب لهم ربهم - عقب ذلك بفاء التعقيب ، كما قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ البقرة : 186 ] .

وقوله : { أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } هذا تفسير للإجابة ، أي قال لهم مُجِيبًا{[6381]} لهم : أنه لا يضيع عمل عامل لديه ، بل يُوَفّي كل عامل بقسط عمله ، من ذكر أو أنثى .

وقوله : { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } أي : جميعكم في ثوابي سَواء { فَالَّذِينَ هَاجَرُوا } أي : تركوا دار الشِّرك وأتَوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران ، { وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } أي : ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم ؛ ولهذا قال : { وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي } أي : إنما كان ذنْبُهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده ، كما قال تعالى : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] . وقال تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] .

وقوله : { وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا } وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله ، فيُعْقَر جَواده ، ويعفَّر وجهه بدمه وترابه ، وقد ثبت في الصحيح أن رجلا قال : يا رسول الله ، أرأيت إن قُتلت في سبيل الله صابرا مُحْتَسبا مُقْبلا غير مُدبِر ، أيُكَفِّر الله عني خطاياي ؟ قال : " نعم " ثم قال : " كيف قلت ؟ " : فأعاد عليه{[6382]} ما قال ، فقال : " نعم ، إلا الدَّين ، قاله لي جبريل آنفًا " .

ولهذا قال تعالى : { لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب ، من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك ، مما لا عَيْنَ رَأتْ ، ولا أذن سَمِعت ، ولا خَطَر على قلب بَشَر .

وقوله : { ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أضافه إليه ونسبه إليه لِيدل على أنه عظيم ؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جَزيلا كثيرًا ، كما قال الشاعر :

إن يُعَذب يَكُن غَرامًا وإن يُعْ *** طِ جَزيلا فإنَّه لا يُبَالي

وقوله : { وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } أي : عنده حُسْن الجزاء لمن عمل صالحا .

قال ابن أبي حاتم : ذكر عن دُحَيم بن إبراهيم : حدثنا الوليد بن مسلم ، أخبرني حَرِيز{[6383]} بن عثمان : أن شداد بن أوس كان يقول : يا أيها الناس ، لا تَتهِموا الله في قضائه ، فإنه{[6384]} لا يبغي على مؤمن ، فإذا نزل بأحدكم شيء مما يُحِب فليحْمَد الله ، وإذا أنزل{[6385]} به شيء مما يكره فَليَصْبر وليحتسب ، فإن الله عنده حسن الثواب .


[6378]:البيت في تفسير الطبري (7/488) وهو لكعب بن سعد الغنوي.
[6379]:زيادة من أ.
[6380]:سنن سعيد بن منصور برقم (552) والمستدرك (2/300) ورواه عبد الرزاق في تفسيره (1/144) ومن طريقه ابن جرير في تفسيره (7/488) ولم يذكر قوله: "وقالت الأنصار إلى آخره" من طريق سفيان بنحوه.
[6381]:في جـ، ر، أ، و: "مخبرا".
[6382]:في أ، و: "قال: فأعاد عليه".
[6383]:في جـ، ر: "جرير".
[6384]:في أ: "فإن الله"، وفي و: "فالله".
[6385]:في جـ، ر، أ: "نزل".