ولهذا ، لما كانت هذه الأمة أكمل الأمم عقولا ، وأحسنهم أفكارا ، وأرقهم قلوبا ، وأزكاهم أنفسا ، اصطفاهم الله تعالى ، واصطفى لهم دين الإسلام ، وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب ، ولهذا قال : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } وهم هذه الأمة . { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } بالمعاصي ، [ التي ] هي دون الكفر . { وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } مقتصر على ما يجب عليه ، تارك للمحرم . { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } أي : سارع فيها واجتهد ، فسبق غيره ، وهو المؤدي للفرائض ، المكثر من النوافل ، التارك للمحرم والمكروه .
فكلهم اصطفاه اللّه تعالى ، لوراثة هذا الكتاب ، وإن تفاوتت مراتبهم ، وتميزت أحوالهم ، فلكل منهم قسط من وراثته ، حتى الظالم لنفسه ، فإن ما معه من أصل الإيمان ، وعلوم الإيمان ، وأعمال الإيمان ، من وراثة الكتاب ، لأن المراد بوراثة الكتاب ، وراثة علمه وعمله ، ودراسة ألفاظه ، واستخراج معانيه .
وقوله { بِإِذْنِ اللَّهِ } راجع إلى السابق إلى الخيرات ، لئلا يغتر بعمله ، بل ما سبق إلى الخيرات إلا بتوفيق اللّه تعالى ومعونته ، فينبغي له أن يشتغل بشكر اللّه تعالى على ما أنعم به عليه .
{ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } أي : وراثة الكتاب الجليل ، لمن اصطفى تعالى من عباده ، هو الفضل الكبير ، الذي جميع النعم بالنسبة إليه ، كالعدم ، فأجل النعم على الإطلاق ، وأكبر الفضل ، وراثة هذا الكتاب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم أورثنا الكتاب} قرآن محمد صلى الله عليه وسلم {الذين اصطفينا} اخترنا.
{من عبادنا} من هذه الأمة {فمنهم ظالم لنفسه} أصحاب الكبائر من أهل التوحيد.
{ومنهم سابق بالخيرات} الذين سبقوا إلى الأعمال الصالحة وتصديق الأنبياء.
{بإذن الله} بأمر الله عز وجل {ذلك هو الفضل الكبير} دخول الجنة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى الكتاب الذي ذكر الله في هذه الآية أنه أورثه الذين اصطفاهم من عباده، ومن المصطفون من عباده، والظالم لنفسه؛ فقال بعضهم: الكتاب: هو الكتب التي أنزلها الله من قبل الفُرقان، والمصطفون من عباده: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والظالم لنفسه: أهل الإجرام منهم... عن ابن عباس، قوله: "ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ "إلى قوله: "الفَضْلُ الكَبِيرُ "هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ورّثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب...
وقال آخرون: الكتاب الذي أورث هؤلاء القوم، هو شهادة أن لا إله إلاّ الله، والمصطفون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والظالم لنفسه منهم هو المنافق، وهو في النار والمقتصد، والسابق بالخيرات في الجنة... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب تأويل من قال: عنى بقوله: "ثُمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا" الكتب التي أُنزلت من قبل الفرقان.
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتلون غير كتابهم، ولا يعملون إلاّ بما فيه من الأحكام والشرائع؟ قيل: إن معنى ذلك على غير الذي ذهبت إليه، وإنما معناه: ثم أورثنا الإيمان بالكتاب الذين اصطفينا، فمنهم مؤمنون بكلّ كتاب أنزله الله من السماء قبل كتابهم وعاملون به، لأن كل كتاب أنزل من السماء قبل الفرقان، فإنه يأمر بالعمل بالفرقان عند نزوله، وباتباع من جاء به، وذلك عمل من أقرّ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، وعمل بما دعاه إليه بما في القرآن، وبما في غيره من الكتب التي أنزلت قبله.
وإنما قيل: عنى بقوله "ثُمّ أوْرَثْنا الكتابَ" الكتب التي ذكرنا لأن الله جلّ ثناؤه قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم "وَالّذِي أوْحَيْنَا إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الحَقّ مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ" ثم أتبع ذلك قوله "ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا" فكان معلوما، إذ كان معنى الميراث إنما هو انتقال معنى من قوم إلى آخرين، ولم تكن أمة على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم انتقل إليهم كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته، أن ذلك معناه. وإذ كان ذلك كذلك، فبيّنٌ أن المصطفين من عباده هم مؤمنو أمته، وأما الظالم لنفسه، فإنه لأن يكون من أهل الذنوب والمعاصي التي هي دون النفاق والشرك عندي أشبه بمعنى الآية من أن يكون المنافق أو الكافر، وذلك أن الله تعالى ذكره أتبع هذه الآية قوله: "جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها" فعمّ بدخول الجنة جميع الأصناف الثلاثة.
فإن قال قائل: فإن قوله "يَدْخُلُونَها" إنما عنى به المقتصد والسابق، قيل له: وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل؟ فإن قال: قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار، ولو لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد وجب أن لا يكون لأهل الإيمان وعيد، قيل: إنه ليس في الآية خبر أنهم لا يدخلون النار، وإنما فيها إخبار من الله تعالى ذكره أنهم يدخلون جنات عَدْن، وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التي أصابها في الدنيا، وظلمه نفسه فيها بالنار، أو بما شاء من عقابه، ثم يُدخله الجنة، فيكون ممن عمه خبر الله جلّ ثناؤه بقوله "جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخَلُونَها"...
وعنى بقوله: الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا": الذين اخترناهم لطاعتنا واجتبيناهم. وقوله: "فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ" يقول: فمن هؤلاء الذين اصطفينا من عبادنا، من يظلم نفسه بركوبه المآثم، واجترامه المعاصي، واقترافه الفواحش، "وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ" وهو غير المبالغ في طاعة ربه، وغير المجتهد فيما ألزمه من خدمة ربه، حتى يكون عمله في ذلك قصدا ، "وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ" وهو المبرز الذي قد تقدّم المجتهدين في خدمة ربه، وأداء ما لزمه من فرائضه، فسبقهم بصالح الأعمال، وهي الخيرات التي قال الله جلّ ثناؤه "بِإذْنِ اللّهِ" يقول: بتوفيق الله إياه لذلك.
وقوله: "ذَلكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ" يقول تعالى ذكره: سبوق هذا السابق من سبقه بالخيرات بإذن الله، وهو الفضل الكبير الذي فضل به من كان مقصّرا عن منزلته في طاعة الله من المقتصد والظالم لنفسه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وتفسير المقتصد ما قال بعضهم: هو الذي يخلط عملا صالحا بعمل سيء كقوله: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} [التوبة: 102] وقال بعضهم: هو الذي يقوم بأداء الفرائض والأركان، وأما غيره فلا...
{ذلك هو الفضل الكبير}: هذا الذي أورثناهم من الكتاب هو الفضل الكبير...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
وقيل: قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته وأخر السابق لئلا يعجب بعمله...
وقال محمد بن علي الترمذي: جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء؛ لأنّ الاصطفاء أوجب الإرث، لا الإرث أوجب الاصطفاء؛ لذلك قيل: صحح النسبة ثم اطمع في الميراث...
وقال أبو بكر الوراق: إنما رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس؛ لأنّ أحوال العبد ثلاث: معصية، وغفلة، ثم توبة وقربة. فإذا عصى دخل في حيّز الظالمين، وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة اتصل بالله ودخل في عداد السابقين...
واختلف المفسرون والمتأوّلون في معنى الظالم والمقتصد والسابق فأكثروا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{أَوْرَثْنَا}: أي أعطينا الكتاب -أي القرآن- الذين اصطفينا من عبادنا، وذكر الإعطاءَ بلفظِ الإِرثِ توسُّعاً، وفي الآية وجوهٌ من الإشارة:
فمنها أنه لمَّا ذكر هذا بلفظ الميراثِ؛ فالميراثُ يقتضى صحة النَّسَبِ على وجهٍ مخصوص، فَمَنْ لا سبَبَ له فلا نَسَبَ له، ولا ميراثَ له، ومحلُّ النَّسبِ ها هنا المعرفة، ومحلُّ السبب الطاعة، وإن قيل محلُّ النَّسبِ فَضْلُه، ومحل السبب فِعْلُك؛ فهو وَجْهٌ.
ويصحُّ أن يقال محلُّ النسبِ اختياره لك بدءاً ومحلُّ السببِ إحسانُه لك تالياً...
{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}... وقالوا: التقديم في الذكر لا يقتضي التقديم في الرتبة، ولهذا نظائر كثيرة.
ويقال قَرَنَ باسم الظالم قرينةً وهي قوله:"لنفس"، وقرن باسم السابق قرينةً وهي قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ فالظالمُ كانت له زَلَّة، والسابق كانت له صولة، فالظالم رَفَعَ زلَّتَه بقوله: لنفسه، والسابق كَسَرَ صولتَه بقوله: بإذن الله،كأنه قال: يا ظالمُ ارفعْ رأسَك، ظَلَمْتَ ولكن على نفسك، ويا سابقُ اخفض رأسَك؛ سَبَقْتَ -ولكن بإذن الله...
ويقال الظالمُ مَنْ غَلَبَتْ زَلاَّتُه، والمقتصدُ مَنْ استوت حالاته، والسابقُ مَنْ زادت حسناته. ويقال الظالمُ مَنْ زهد في دنياه، والمقتصدُ مَنْ رغب في عقباه، والسابقُ مَنْ آثر على الدارين مولاه...
{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} لأنه ذكر الظالم مع السابق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب}؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثنا من بعدك أي حكمنا بتوريثه. أو قال: أورثناه وهو يريد نورثه، لما عليه أخبار الله {الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} وهم أمّته من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة؛ لأنّ الله اصطفاهم على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسل الله، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله، ثم قسمهم إلى ظالم لنفسه مجرم وهو المرجأ لأمر الله. ومقتصد: هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وسابق من السابقين. والوجه الثاني: أنه قدم إرساله في كل أمّة رسولاً وأنهم كذبوا برسلهم وقد جاؤوهم بالبينات والزبر والكتاب المنير، ثم قال: إنّ الذين يتلون كتاب الله، فأثنى على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم واعترض بقوله: {والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق} ثم قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} أي من بعد أولئك المذكورين، يريد بالمصطفين من عباده: أهل الملة الحنيفية.
يحتمل أن يقال المراد من الكتاب هو جنس الكتاب كما في قوله تعالى: {جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} والمعنى على هذا: إنا أعطينا الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء ويدل عليه أن لفظ المصطفى على الأنبياء إطلاقه كثير، ولا كذلك على غيرهم؛ ولأن قوله: {من عبادنا} دل على أن العباد أكابر مكرمون بالإضافة إليه، ثم إن المصطفين منهم أشرف منهم ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالما، مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمي الشرك ظلما.
فإن قال قائل كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده وأنه مصطفى إنه ظالم؟ مع أن الظالم يطلق على الكافر في كثير من المواضع، فنقول المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ويصحح هذا قول عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: « ظالمنا مغفور له» وقال آدم عليه السلام مع كونه مصطفى: {ربنا ظلمنا أنفسنا}، وأما الكافر فيضع قلبه الذي به اعتبار الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق، وأما قلب المؤمن فمطمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكر في آلاء الله ولا يضع فيه غير محبة الله، وفي المراتب الثلاث أقوال كثيرة:
أحدها: الظالم هو الراجح السيئات والمقتصد هو الذي تساوت سيئاته وحسناته والسابق هو الذي ترجحت حسناته.
ثانيها: الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه، والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه والسابق من باطنه خير.
ثالثها: الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه، والمقتصد هو الموحد الذي يمنع جوارحه من المخالفة بالتكليف، والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد عن التوحيد.
خامسها: الظالم التالي للقرآن غير العالم به والعامل بموجبه، والمقتصد التالي العالم، والسابق التالي العالم العامل.
تاسعها: الظالم المصر على المعصية، والمقتصد هو النادم والتائب، والسابق هو المقبول التوبة.
والمختار هو أن الظالم من خالف فترك أوامر الله وارتكب مناهيه فإنه واضع للشيء في غير موضعه، والمقتصد هو المجتهد في ترك المخالفة وإن لم يوفق لذلك وندر منه ذنب وصدر عنه إثم فإنه اقتصد واجتهد وقصد الحق، والسابق هو الذي لم يخالف بتوفيق الله، ويدل عليه قوله تعالى: {بإذن الله} أي اجتهد ووفق لما اجتهد فيه وفيما اجتهد فهو سابق بالخير يقع في قلبه فيسبق إليه قبل تسويل النفس. والمقتصد يقع في قلبه فتردده النفس، والظالم تغلبه النفس، ونقول بعبارة أخرى من غلبته النفس الأمارة وأمرته فأطاعها ظالم، ومن جاهد نفسه فغلب تارة وغلب أخرى فهو المقتصد، ومن قهر نفسه فهو السابق.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا أنس بن عياض الليثي أبو ضَمْرة، عن موسى بن عقبة، عن [علي] بن عبد الله الأزدي، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}، فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم برحمته، فهم الذين يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}
... وإذا تقرر هذا فإن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة من هذه الأمة، فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة، وأولى الناس بهذه الرحمة، فإنهم كما قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا عاصم بن رجاء بن حَيْوَة، عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء -وهو بدمشق- فقال: ما أقدمك أيْ أخي؟ قال: حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أما قدمت لتجارة؟ قال: لا. قال: أما قدمت لحاجة؟ قال: لا؟ قال: أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: نعم. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم مَنْ في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر".
وأخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث كثير بن قيس -ومنهم من يقول: قيس بن كثير- عن أبي الدرداء. وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرواة فيه في شرح "كتاب العلم "من "صحيح البخاري"، ولله الحمد والمنة.
وقد تقدم في أول" سورة طه "حديث ثعلبة بن الحكم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء: إني لم أضع علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد [أن] أغفر لكم، على ما كان منكم، ولا أبالي»...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ثم أورثنا} أي ملكنا بعظمتنا ملكاً تاماً وأعطينا عطاء لا رجوع فيه، وعبر في غير هذه الأمة بقوله {ورثوا الكتاب} [الأعراف: 169] فانظر فوق ما بين العبارتين تعرف الفرق بين المقامين، ويجوز أن يكون التقدير بعد ما أوحينا إليك: وأورثناكه ثم أورثناه، ولكنه أظهر دلالة على الوصف تنبيهاً على تناهي جمعه للكتب الماضية وإعلاماً بأن "من "في {أوحينا إليك من} للبيان فقال: {الكتاب} أي القرآن باتفاق المفسرين، قاله الأصفهاني -الجامع لكل كتاب أنزلنا، فهو أم لكل خير، وقال ابن عباس كما نقله ابن الجوزي: إن الله أورث أمة محمد كل كتاب أنزله.
{الذين اصطفينا} أي فعلنا في اختيارهم فعل من يجتهد في ذلك.
{من عبادنا} أي أخلصناهم لنا وهم بنو إسماعيل ومن تبعهم، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمعنى الإيراث أنه نزع تلك الكتب من الأمم السالفة وأعطاها لهذه الأمة على الوجه الذي رضيه لها، وهذا الإيراث للمجموع لا يقتضي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن بل يشمل من يحفظ منه جزءاً ولو أنه الفاتحة فقط، فإن الصحابة رضوان الله تعالى أجمعين لم يكن كل واحد منهم يحفظ جميع القرآن ونحن على القطع بأنهم مصطفون.
ولما كان اكثر الناس لا ينفك عن تقصير كثير لما جبل الإنسان عليه من النقصان، فكان من فيه ذلك يخرج نفسه من هذا القسم، قال معرفاً له بمقداره مؤنساً له بما فتح له من أنواره مستجلباً له إلى حضرة قدسه ومعدن أسراره مقسماً أهل هذا القسم وهم أهل الفهم إلى ثلاثة أقسام مقدماً الأدنى لأنهم الأكثر ولئلا يحصل اليأس، ويصدع القلوب خوف البأس: {فمنهم} أي فتسبب عن إيراثنا لهم أن كان منهم كما هو مشاهد {ظالم لنفسه} أي بالتفريط والتهاون في توفية الحق لما يقتضيه حاله من العمل غير متوق للكبائر، وهذا القسم هم أكثر الوراث وهم المرجئون لأمر الله.
ولما كان ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة، نبه على ذلك بصيغة الافتعال فقال: {ومنهم مقتصد} أي متوسط في العمل غير باذل لجميع الجهد إلا أنه مجتنب للكبائر فهو مكفر عنه الصغائر، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
{ومنهم سابق بالخيرات} أي العبادات وجميع أنواع القربات، موف للمقام الذي أقيم به حقه كلما ازداد قرباً ازداد عملاً، لا يكون سابقاً إلا وهو هكذا، وهم السابقون الأولون من المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
ولما كان هذا ليس في قوة العبد في مجاري العادات، ولا يؤخذ بالكسب والاجتهادات أشار إلى عظمته بقوله: {بإذن الله}
{ذلك} أي السبق أو إيراث الكتاب {هو} مشيراً بأداة البعد مخصصاً بضمير الفصل {الفضل الكبير}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا هو الكتاب في ذاته، وقد أورثه الله لهذه الأمة المسلمة، اصطفاها لهذه الوراثة وهي كلمات جديرة بأن توحي لهذه الأمة بكرامتها على الله؛ كما توحي إليها بضخامة التبعة الناشئة عن هذا الاصطفاء وعن تلك الوراثة، وهي تبعة ضخمة ذات تكاليف، فهل تسمع الأمة المصطفاة وتستجيب؟ إن الله سبحانه قد أكرم هذه الأمة بالاصطفاء للوراثة؛ ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن أساء: (فمنهم ظالم لنفسه. ومنهم مقتصد. ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله).. فالفريق الأول -ولعله ذكر أولاً لأنه الأكثر عدداً- (ظالم لنفسه) تربى سيئاته في العمل على حسناته. والفريق الثاني وسط (مقتصد) تتعادل سيئاته وحسناته. والفريق الثالث (سابق بالخيرات بإذن الله)، تربى حسناته على سيئاته.. ولكن فضل الله شمل الثلاثة جميعاً. فكلهم انتهى إلى الجنة وإلى النعيم الموصوف في الآيات التالية. على تفاوت في الدرجات...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... لما أريد تعميم البشارة مع بيان أنهم مراتب فيما بُشروا به جيء بالتفريع في قوله:
{فمنهم ظالم لنفسه} إلى آخره، فهو تفصيل لمراتب المصطفَيْن لتشمل البشارة جميع أصنافهم ولا يظن أن الظالم لنفسه محروم منها، فمناط الاصطفاء هو الإِيمان والإِسلام وهو الانقياد بالقول والاستسلام.
وقدم في التفصيل ذكر الظالم لنفسه لدفع توهم حرمانه من الجنة وتعجيلاً لمسرَّته، والظالمون لأنفسهم هم الذين يجرُّون أنفسهم إلى ارتكاب المعصية، فإن معصية المرء ربَّه ظلم لنفسه؛ لأنه يورطها في العقوبة المعينة للمعاصي على تفصيلها؛ وذلك ظلم للنفس لأنه اعتداء عليها إذ قصر بها عن شيء من الخيرات قليل أو كثير، وورطها فيما تجد جزاء ذميماً عليه قال تعالى حكاية عن آدم وحواء حين خالفا ما نُهِيا عنه من أكل الشجرة {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23]
السابق أصله: الواصل إلى غاية معينة قبلَ غيره من الماشين إليها، وهو هنا مجاز لإِحراز الفضل لأن السابق يحرز السَبق (بفتح الباء)، أو مجاز في بذل العناية لنوال رضى الله، وعلى الاعتبارين في المجاز فهو مكنّى عن الإِكثار من الخير لأن السبْق يستلزم إسراع الخطوات، والإِسراع إكثار، وفي هذا السبق تفاوت أيضاً كخيل الحلبة، وفي ذكر الخيرات في القسم الآخر دلالة على أنها مرادة في القسمين الأولين فيؤول إلى معنى ظالم لنفسه في الخيرات ومقتصد في الخيرات أيضاً،وفيما رأيتَ من تفسير هذه المراتب الثلاث في الآية المأخوذِ من كلام الأئمة، مع ضميمةٍ لا بد منها، تستغني عن التيه في مهامه أقوال كثيرة في تفسيرها تجاوزت الأربعين قولاً. {الفضل}: الزيادة في الخير، و {الكبيرُ} مراد به ذو العظم المعنوي وهو الشرف وهو فضل الخروج من الكفر إلى الإِيمان والإِسلام، وهذا الفضل مراتب في الشرف كما أشار إليه تقسيم أصحابه إلى: ظالم، ومقتصد، وسابق.
وضمير الفصل لتأكيد القصر الحاصل من تعريف الجزأين، وهو حقيقي لأن الفضل الكبير منحصر في المشار إليه بذلك؛ لأن كل فضل هو غير كبير إلا ذلك الفضل.
ووجه هذا الانحصار أن هذا الاصطفاء وإيراث الكتاب جمع فضيلة الدنيا وفضل الآخرة قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97.
الكتاب هو القرآن، إذن: هذا الميراث كان بعد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل على أن المرحلة التي بعد رسول الله مرحلة ميراث للكتاب وللمنهج؛ يرثه العلماء عن رسول الله؛ لذلك جاء في الحديث:"إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان هو المبلِّغ والمعلِّم حال حياته، أما بعد وفاته فقد وَكَل الله هذه المهمة إلى العلماء. ومعنى {أَوْرَثْنَا} [فاطر: 32] يعني: طلبنا منهم أنْ يفعلوا فيه فَعْل الوارث في المال؛ لأن الوارث للمال يُوجِّهه وجهةَ النفع العام، وهذه هي وِجْهة الرسالة أيضاً.
لذلك قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] فنحن ورثة محمد، ومَنْ علم مِنَّا حكماً فعليه أنْ يبلغه. فالرسول شهيد على مَنْ بلَّغهم، كذلك أمته سيكونون شهداء على الناس الذين يُبلِّغونهم.
ومعنى {اصْطَفَيْنَا} أي: اخترنا وفضَّلنا على سائر الأمة، ثم يُقسِّم الحق سبحانه هؤلاء إلى ثلاثة أصناف: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [فاطر: 32] ظلمها بالتقصير في حَقِّ هذا الكتاب الذي ورثه، فلم يعمل به كما ينبغي أنْ يعمل، بل قد يرتكب كبيرة والعياذ بالله.
وهذا الصنف ظلم نفسه؛ لأنه حرمها الثواب؛ فكُلُّ تكليف يطلب منك العمل اليسير ويعطيك عليه الجزاء الوفير، فحين تُقصِّر في اليسير من العمل فإنك لا شكَّ ظالمٌ لنفسك.
{وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} يعني: يعمل به في بعض الأوقات، فيخلط عملاً صالحاً بآخر سيء.
{وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ}.
اللهم اجعلنا منهم إنْ شاء الله، وكلمة (سابق) تدل على أن هناك سباقاً ومنافسة: أيّ المتسابقين يصل أولاً إلى الغاية الموضوعة للسباق، وأهل هذا الصنف يتسابقون في الخيرات.
وقوله تعالى: {اصْطَفَيْنَا} دلتْ على أن كلمة التوحيد لها ثمن، والإيمان برسول الله له ثمن، والعمل بما جاء به رسول الله له ثمن، وإنْ كان من بين هؤلاء المصطفين مَنْ يظلم نفسه بالتقصير بل وارتكاب المعاصي، وهو مع هذا كله من المصطفين؛ لأنه قال لا إله إلا الله، والحق سبحانه لا يُسوِّي بين مَنْ قال هذه الكلمة ومَنْ جحدها "لا إله إلا الله حِصْني، مَنْ قالها دخل حصني".
لذلك ذكر الحق سبحانه لهؤلاء المؤمنين الذين وَرِثوا الكتاب وصفين: {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فوصفهم بالاصطفاء، والعبودية له سبحانه.
إذن: نزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم وورثتْ أمته الكتاب من بعده، فهي امتداد لرسالته؛ لذلك أَمِن الله على هذه الأمة على أنْ تحمل منهج الله إلى الناس كافة إلى أن تقوم الساعة، في حين لم يأْمَن غيرنا.
وقد تكفل الحق سبحانه بحفظ هذا الكتاب، ولم يكِلْ حفظه إلى أحد كما حدث في الكتب السابقة على القرآن...
فإنْ قُلْتَ: كيف يكون الظالمُ نفسَه من المصطفين، وهو مرتكب للذنوب وربما للكبائر؟ نقول: بمجرد أن يقول العبد أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهو مُصْطفىً، اصطفاه الله على الكفار بهذه الكلمة، وإنْ حدثت منه المعصية بعد ذلك.
والحق سبحانه وتعالى حين يذكر الذنب ويُجرِّمه ويضع له عقوبة، فهذا إذْنٌ بأنه سيقع، فمثلاً جرَّم الله السرقة ووضع لها حَدّاً، وجرَّم الزنا ووضع له حداً، فكأن مثل هذه الأمور تحدث في مجتمع المسلمين، أما الكذب مثلاً فلم يضع له حَدّاً ولا عقوبة...
فكأن المؤمن يُتوقَّع منه الزنا والسرقة، ولا يُتوقَّع منه الكذب، فهو أبعد الصفات عن المؤمن، لماذا؟ قالوا: لأن الكذب يخالف الواقع ويقلب الحقائق، والمؤمن لا يكذب؛ لأنه ينطق بلا إله إلا الله، فإنْ كان كذاباً ما يدريني أنه صدق في هذه الكلمة، فكأن الكذب يهدم الإيمان من أساسه؛ لذلك لم يجعل الله له عقوبة؛ لأنه لا يُتصوَّر من المؤمن.
والمقتصد: هو الذي تساوتْ حسناته وسيئاته، وخلط عملاً صالحاً بآخر سيء، وفي موضع آخر يقول تعالى فى حق هذا الصنف:
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 102]...
{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} نعم، الحق سبحانه يعاملنا بالفضل الكبير، ويعطينا مُثُلاً ليحبِّبنا في الدين، فالحسنة عنده بعشر أمثالها، أو يزيدها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بمثلها.
ومَنْ غلبت حسناته سيئاته يُرْجَى له الجنة، ومَنْ غلبت سيئاته حسناته فهو مُرْجأ لأمر الله، إنْ شاء عذبه بعدله ومآله إلى الجنة، وإنْ شاء غفر له بفضله، فإنْ بادر بالتوبة النصوح وأخلص بدَّل الله سيئاته حسنات...
يعاملنا ربنا بالفضل بدليل أنه أدخل الظالم لنفسه، وأدخل المقتصد في ساحة المصطفين من عباده.
ثم يوضح لنا الحق سبحانه هذا الفضل الكبير فيقول:
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ...}.
الأولى- هذه الآية مشكلة ؛ لأنه قال جل وعز : " اصطفينا من عبادنا " ثم قال : " فمنهم ظالم لنفسه " وقد تكلم العلماء فيها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . قال النحاس : فإن أصح ما روي في ذلك ما روي عن ابن عباس " فمنهم ظالم لنفسه " قال : الكافر . رواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أيضا . وعن ابن عباس أيضا " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " قال : نجت فرقتان ، ويكون التقدير في العربية : فمنهم من عبادنا ظالم لنفسه ، أي كافر . وقال الحسن : أي فاسق . ويكون الضمير الذي في " يدخلونها " يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم . وعن عكرمة وقتادة والضحاك والفراء أن المقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقي على الإطلاق . قالوا : وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة " وكنتم أزواجا ثلاثة " {[13148]} [ الواقعة : 7 ] الآية . قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفي ظالم . ورواه مجاهد عن ابن عباس . قال مجاهد : " فمنهم ظالم لنفسه " أصحاب المشاهدة ، " ومنهم مقتصد " أصحاب الميمنة ، " ومنهم سابق بالخيرات " السابقون من الناس كلهم . وقيل : الضمير في " يدخلونها " يعود على الثلاثة الأصناف ، على ألا يكون الظالم ها هنا كافرا ولا فاسقا . وممن روي عنه هذا القول عمر وعثمان وأبو الدرداء ، وابن مسعود وعقبة بن عمرو ومنة ، والتقدير على هذا القول : أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر . و " المقتصد " قال محمد بن يزيد : هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها ؛ فيكون " جنات عدن يدخلونها " عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين ، وروي عن أبي سعيد الخدري . وقال كعب الأحبار : استوت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم . وقال أبو إسحاق السبيعي : أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج . وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : ( كلهم في الجنة ) . وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له ) . فعلى هذا القول يقدر مفعول الاصطفاء من قوله : " أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " مضافا حذف كما حذف المضاف في " واسأل القرية " {[13149]} [ يوسف : 82 ] أي اصطفينا دينهم فبقى اصطفيناهم ، فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله : " ولا أقول للذين تزدري أعينكم " {[13150]} [ هود : 31 ] أي تزدريهم ، فالاصطفاء إذا موجه إلى دينهم ، كما قال تعالى : " إن الله اصطفى لكم الدين " {[13151]} [ البقرة : 132 ] . قال النحاس : وقول ثالث : يكون الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته ، فيكون : " جنات عدن يدخلونها " للذين سبقوا بالخيرات لا غير . وهذا قول جماعة من أهل النظر ؛ لأن الضمير في حقيقة النظر بما يليه أولى .
قلت : القول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله ؛ لأن الكافر والمنافق لم يصطفوا بحمد الله ، ولا اصطفى دينهم . وهذا قول ستة من الصحابة ، وحسبك . وسنزيده بيانا وإيضاحا في باقي الآية .
الثانية- قوله تعالى : " ثم أورثنا الكتاب " أي أعطينا . والميراث ، عطاء حقيقة أو مجازا ؛ فإنه يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر . و " الكتاب " ها هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده ، وكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى القرآن ، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة ، فكأنه ورث أمة محمد عليه السلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا . " اصطفينا " أي اخترنا . واشتقاقه من الصفو ، وهو الخلوص من شوائب الكدر . وأصله اصتفونا ، فأبدلت التاء طاء والواو ياء . " من عبادنا " قيل المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس وغيره . وكان اللفظ يحتمل جميع المؤمنين من كل أمة ، إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وورث سليمان يرثوه . وقيل : المصطفون الأنبياء ، توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخر ، قال الله تعالى : " وورث سليمان داود " {[13152]} [ النمل : 16 ] ، وقال : " يرثني ويرث من آل يعقوب " {[13153]} [ مريم : 6 ] فإذا جاز أن تكون النبوة موروثة فكذلك الكتاب . " فمنهم ظالم لنفسه " من وقع في صغيرة . قال ابن عطية : وهذا قول مردود من غير ما وجه . قال الضحاك : معنى " فمنهم ظالم لنفسه " أي من ذريتهم ظالم لنفسه وهو المشرك . الحسن : من أممهم ، على ما تقدم ذكره من الخلاف في الظالم . والآية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد اختلفت عبارات أرباب القلوب في الظالم والمقتصد والسابق ، فقال سهل بن عبد الله : السابق العالم ، والمقتصد المعلم ، والظالم الجاهل . وقال ذو النون المصري : الظالم الذاكر الله بلسانه فقط ، والمقتصد الذاكر بقلبه ، والسابق الذي لا ينساه . وقال الأنطاكي : الظالم صاحب الأقوال ، والمقتصد صاحب الأفعال ، والسابق صاحب الأحوال . وقال ابن عطاء : الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا ، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى ، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق . وقيل : الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار ، والمقتصد الذي يعبد الله طمعا في الجنة ، والسابق الذي يعبد الله لوجهه لا لسبب . وقيل : الظالم الزاهد في الدنيا ، لأنه ظلم نفسه فترك لها حظا وهي المعرفة والمحبة ، والمقتصد العارف ، والسابق المحب . وقيل : الظالم الذي يجزع عند البلاء ، والمقتصد الصابر على البلاء ، والسابق المتلذذ بالبلاء . وقيل : الظالم الذي يعبد الله على الغفلة والعادة ، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق الذي يعبده على الهيبة . وقيل : الظالم الذي أعطي فمنع ، والمقتصد الذي أعطي فبذل ، والسابق الذي يمنع فشكر وآثر . يروى أن عابدين التقيا فقال : كيف حال إخوانكم بالبصرة ؟ قال : بخير ، إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا . فقال{[13154]} : هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ ! عبادنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا . وقيل : الظالم من استغنى بماله ، والمقتصد من استغنى بدينه ، والسابق من استغنى بربه . وقيل : الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به ، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به ، والسابق القارئ للقرآن العامل به والعالم به . وقيل : السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن ، والمقتصد الذي يدخل المسجد وقد أذن ، والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة ؛ لأنه ظلم نفسه الأجر فلم يحصل لها ما حصله غيره . وقال بعض أهل المسجد في هذا : بل السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين ، والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة لم يفرط في الوقت ، والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة ، فهو أولى بالظلم . وقيل : الظالم الذي يحب نفسه ، والمقتصد الذي يحب دينه ، والسابق الذي يحب ربه . وقيل : الظالم الذي ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد الذي ينتصف وينصف ، والسابق الذي ينصف ولا ينصف . وقالت عائشة رضي الله عنها : السابق الذي أسلم قبل الهجرة ، والمقتصد من أسلم بعد الهجرة ، والظالم من لم يسلم إلا بالسيف ؛ وهم كلهم مغفور لهم .
قلت : ذكر هذه الأقوال وزيادة عليها الثعلبي في تفسيره . وبالجملة فهم طرفان وواسطة ، وهو المقتصد الملازم للقصد وهو ترك الميل ، ومنه قول جابر بن حُنَي التغلبي :
نعاطي الملوك السّلم ما قصدوا لنا *** وليس علينا قتلُهم بمحرّم
أي نعاطيهم الصلح ما ركبوا بنا القصد ، أي ما لم يجوروا ، وليس قتلهم بمحرم علينا إن جاروا ؛ فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين ، فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق بالخيرات . " ذلك هو الفضل الكبير " يعني إتياننا الكتاب لهم . وقيل : ذلك الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير . وقيل : وعد الجنة لهؤلاء الثلاث فضل كبير .
الثالثة- وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل : التقدير في الذكر لا يقتضي تشريفا ، كقوله تعالى : " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " {[13155]} [ الحشر : 20 ] . وقيل : قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم ، والسابقين أقل من القليل . ذكره الزمخشري ولم يذكره غيره . وقيل : قدم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه ، إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه . واتكل المقتصد على حسن ظنه ، والسابق على طاعته . وقيل : قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله ، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله . وقال جعفر بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنه : قدم الظالم ليدبر أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه ، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثم عناية ، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله ، وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " . وقال محمد بن علي الترمذي : جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء ؛ لأن الاصطفاء يوجب الإرث ، لا الإرث يوجب الاصطفاء ، ولذلك قيل في الحكمة : صحح النسبة ثم ادَّع في الميراث . وقيل : أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب ، كما قدم الصوامع والبيع في سورة الحج " {[13156]} على المساجد ، لتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب ، وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله . وقيل : إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى ، كقوله تعالى : " لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم " {[13157]} الأعراف : 167 ] ، وقوله : " يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " {[13158]} [ الشورى : 49 ] ، وقوله : " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " [ الحشر : 20 ]
وغاية هذا الجود أنت وإنما *** يوافى إلى الغايات في آخر الأمر
ولما كان معنى الوصفين : فنحن نيسر لتلاوة كتابنا من يكون قابلاً للعلم الذي هو عمود الخشية بما تعلمه منه بخبرنا وبصرنا ، وكان الذي ضم إلى التلاوة الفهم في الذروة العليا من العلم ، قال عطفاً على هذا الذي أرشد السياق إلى تقديره مشيراً بأداة العبد إلى علو رتبة أهل هذا القسم ، وهم هذه الأمة الأمية على اختلاف مراتب إرثهم مع تراخي إرثهم عمن قبلهم ، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء الحال لها في نزع شيء من قوم وإثباته لآخرين : { ثم أورثنا } أي ملكنا بعظمتنا ملكاً تاماً وأعطينا عطاء لا رجوع فيه ، وعبر في غير هذه الأمة بقوله
{ ورثوا الكتاب }[ الأعراف : 169 ] فانظر فوق ما بين العبارتين تعرف الفرق بين المقامين ، ويجوز أن يكون التقدير بعد ما أوحينا إليك : وأورثناكه ثم أورثناه ، ولكنه أظهر دلالة على الوصف تنبيهاً على تناهي جمعه للكتب الماضية وإعلاماً بأن " من " في { أوحينا إليك من } للبيان فقال : { الكتاب } أي القرآن باتفاق المفسرين ، قاله الأصفهاني - الجامع لكل كتاب أنزلنا ، فهو أم لكل خير ، وقال ابن عباس كما نقله ابن الجوزي : إن الله أورث أمة محمد كل كتاب أنزله { الذين اصطفينا } أي فعلنا في اختيارهم فعل من يجتهد في ذلك { من عبادنا } أي أخلصناهم لنا وهم بنو إسماعيل ومن تبعهم ، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم - نقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ونقل عن ابن جرير أنه قال : الإرث : انتقال شيء من قوم إلى قوم ، فثم هنا للترتيب ، لأن إيتاء هذه الأمة متراخ عن إيتاء الأمم ونقله إليهم بعد إبطال تلك الأديان ، ونسخ تلك الكتب إلا ما وافق القرآن ، فمعنى الإيراث أنه نزع تلك الكتب من الأمم السالفة وأعطاها لهذه الأمة على الوجه الذي رضيه لها ، وهذا الإيراث للمجموع لا يقتضي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن بل يشمل من يحفظ منه جزءاً ولو أنه الفاتحة فقط ، فإن الصحابة رضوان الله تعالى أجمعين لم يكن كل واحد منهم يحفظ جميع القرآن ونحن على القطع بأنهم مصطفون .
ولما كان اكثر الناس لا ينفك عن تقصير كثير لما جبل الإنسان عليه من النقصان ، فكان من فيه ذلك يخرج نفسه من هذا القسم ، قال معرفاً له بمقداره مؤنساً له بما فتح له من أنواره مستجلباً له إلى حضرة قدسه ومعدن أسراره مقسماً أهل هذا القسم وهم أهل الفهم إلى ثلاثة أقسام مقدماً الأدنى لأنهم الأكثر ولئلا يحصل اليأس ، ويصدع القلوب خوف البأس : { فمنهم } أي فتسبب عن إيراثنا لهم أن كان منهم كما هو مشاهد { ظالم لنفسه } أي بالتفريط والتهاون في توفية الحق لما يقتضيه حاله من العمل غير متوق للكبائر ، وهذا القسم هم أكثر الوراث وهم المرجئون لأمر الله .
ولما كان ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة ، نبه على ذلك بصيغة الافتعال فقال : { ومنهم مقتصد } أي متوسط في العمل غير باذل لجميع الجهد إلا أنه مجتنب للكبائر فهو مكفر عنه الصغائر ، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً { ومنهم سابق بالخيرات } أي العبادات وجميع أنواع القربات ، موف للمقام الذي أقيم به حقه كلما ازداد قرباً ازداد عملاً ، لا يكون سابقاً إلا وهو هكذا ، وهم السابقون الأولون من المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، ويؤيد هذا قول الحسن : السابق من رجحت حسناته ، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته ، والظالم من رجحت سيئاته . وختم بالسابقين لأنهم الخلاصة ، وليكونوا أقرب إلى الجنات ، كما قدم الصوامع في سورة الحج لتكون أقرب إلى الهدم وآخر المساجد لتقارب الذكر ، وقدم في التوبة السابقين عقيب أهل القربات من الأعراب وأخر المرجئين وعقبهم بأهل مسجد الضرار ، وقدم سبحانه في الأحزاب المسلمين ورقى الخطاب درجة درجة إلى الذاكرين الله كثيراً ، فهو سبحانه تارة يبدأ بالأدنى وتارة بالأعلى بحسب ما يقتضيه الحال كما هو مذكور في هذا الكتاب في محاله ، وهذا على تقدير عود الضمير في { منهم } على { الذين } لا على { العباد } وهو مع تأيده بالمشاهدة وإن السياق لأن أهل العلم هم التالون لكتاب الله مؤيد بأحاديث لا تقصر - وإن كانت ضعيفة - عن الصلاحية لتقوية ذلك ، فمنها ما رواه البغوي بسنده عن ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية على المنبر وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له " وبسنده عن أبي الدرداء رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : " أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة " - ثم قرأ { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } . وروي بغير إسناد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلهم من هذه الأمة " وقال ابن الجوزي بعد أن ذكر حديث عمر رضي الله عنه بغير سند : وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال : " كلهم في الجنة "
وروى حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الحافظ ابن عساكر في الكنى من تأريخ دمشق في ترجمة أخي زياد أو أبي زياد . وأما على عود الضمير على العباد فقال ابن عباس رضي الله عنهما : السابق المؤمن المخلص ، والمقتصد المرائي ، والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها ، وقال قتادة : الظالم أصحاب المشأمة ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والسابقون المقربون .
ولما كان هذا ليس في قوة العبد في مجاري العادات ، ولا يؤخذ بالكسب والاجتهادات ، أشار إلى عظمته بقوله : { بإذن الله } أي بتمكين من له القدرة التامة والعظمة العامة والفعل بالاختيار وجميع صفات الكمال وتسهيله وتيسره لئلا يأمن أحد مكره تعالى ، قال الرازي في اللوامع : ثم من السابقين من يبلغ محل القربة فيستغرق في وحدانيته ، وهو الفرد الذي اهتز في ذكره - انتهى . ثم زاد عظمة هذا الأمر بياناً ، فقال مؤكداً تكذيباً لظنون الجاهلين لأن السابق كلما علا مقامه في السبق قل حظه من الدنيا ، فرأى الجاهلون أنه مضيع لنفسه : { ذلك } أي السبق أو إيراث الكتاب { هو } مشيراً بأداة البعد مخصصاً بضمير الفصل { الفضل الكبير * } .