ولهذا ، لما كانت هذه الأمة أكمل الأمم عقولا ، وأحسنهم أفكارا ، وأرقهم قلوبا ، وأزكاهم أنفسا ، اصطفاهم الله تعالى ، واصطفى لهم دين الإسلام ، وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب ، ولهذا قال : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } وهم هذه الأمة . { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } بالمعاصي ، [ التي ] هي دون الكفر . { وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } مقتصر على ما يجب عليه ، تارك للمحرم . { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } أي : سارع فيها واجتهد ، فسبق غيره ، وهو المؤدي للفرائض ، المكثر من النوافل ، التارك للمحرم والمكروه .
فكلهم اصطفاه اللّه تعالى ، لوراثة هذا الكتاب ، وإن تفاوتت مراتبهم ، وتميزت أحوالهم ، فلكل منهم قسط من وراثته ، حتى الظالم لنفسه ، فإن ما معه من أصل الإيمان ، وعلوم الإيمان ، وأعمال الإيمان ، من وراثة الكتاب ، لأن المراد بوراثة الكتاب ، وراثة علمه وعمله ، ودراسة ألفاظه ، واستخراج معانيه .
وقوله { بِإِذْنِ اللَّهِ } راجع إلى السابق إلى الخيرات ، لئلا يغتر بعمله ، بل ما سبق إلى الخيرات إلا بتوفيق اللّه تعالى ومعونته ، فينبغي له أن يشتغل بشكر اللّه تعالى على ما أنعم به عليه .
{ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } أي : وراثة الكتاب الجليل ، لمن اصطفى تعالى من عباده ، هو الفضل الكبير ، الذي جميع النعم بالنسبة إليه ، كالعدم ، فأجل النعم على الإطلاق ، وأكبر الفضل ، وراثة هذا الكتاب .
الأولى- هذه الآية مشكلة ؛ لأنه قال جل وعز : " اصطفينا من عبادنا " ثم قال : " فمنهم ظالم لنفسه " وقد تكلم العلماء فيها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . قال النحاس : فإن أصح ما روي في ذلك ما روي عن ابن عباس " فمنهم ظالم لنفسه " قال : الكافر . رواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أيضا . وعن ابن عباس أيضا " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " قال : نجت فرقتان ، ويكون التقدير في العربية : فمنهم من عبادنا ظالم لنفسه ، أي كافر . وقال الحسن : أي فاسق . ويكون الضمير الذي في " يدخلونها " يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم . وعن عكرمة وقتادة والضحاك والفراء أن المقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقي على الإطلاق . قالوا : وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة " وكنتم أزواجا ثلاثة " {[13148]} [ الواقعة : 7 ] الآية . قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفي ظالم . ورواه مجاهد عن ابن عباس . قال مجاهد : " فمنهم ظالم لنفسه " أصحاب المشاهدة ، " ومنهم مقتصد " أصحاب الميمنة ، " ومنهم سابق بالخيرات " السابقون من الناس كلهم . وقيل : الضمير في " يدخلونها " يعود على الثلاثة الأصناف ، على ألا يكون الظالم ها هنا كافرا ولا فاسقا . وممن روي عنه هذا القول عمر وعثمان وأبو الدرداء ، وابن مسعود وعقبة بن عمرو ومنة ، والتقدير على هذا القول : أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر . و " المقتصد " قال محمد بن يزيد : هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها ؛ فيكون " جنات عدن يدخلونها " عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين ، وروي عن أبي سعيد الخدري . وقال كعب الأحبار : استوت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم . وقال أبو إسحاق السبيعي : أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج . وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : ( كلهم في الجنة ) . وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له ) . فعلى هذا القول يقدر مفعول الاصطفاء من قوله : " أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " مضافا حذف كما حذف المضاف في " واسأل القرية " {[13149]} [ يوسف : 82 ] أي اصطفينا دينهم فبقى اصطفيناهم ، فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله : " ولا أقول للذين تزدري أعينكم " {[13150]} [ هود : 31 ] أي تزدريهم ، فالاصطفاء إذا موجه إلى دينهم ، كما قال تعالى : " إن الله اصطفى لكم الدين " {[13151]} [ البقرة : 132 ] . قال النحاس : وقول ثالث : يكون الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته ، فيكون : " جنات عدن يدخلونها " للذين سبقوا بالخيرات لا غير . وهذا قول جماعة من أهل النظر ؛ لأن الضمير في حقيقة النظر بما يليه أولى .
قلت : القول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله ؛ لأن الكافر والمنافق لم يصطفوا بحمد الله ، ولا اصطفى دينهم . وهذا قول ستة من الصحابة ، وحسبك . وسنزيده بيانا وإيضاحا في باقي الآية .
الثانية- قوله تعالى : " ثم أورثنا الكتاب " أي أعطينا . والميراث ، عطاء حقيقة أو مجازا ؛ فإنه يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر . و " الكتاب " ها هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده ، وكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى القرآن ، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة ، فكأنه ورث أمة محمد عليه السلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا . " اصطفينا " أي اخترنا . واشتقاقه من الصفو ، وهو الخلوص من شوائب الكدر . وأصله اصتفونا ، فأبدلت التاء طاء والواو ياء . " من عبادنا " قيل المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس وغيره . وكان اللفظ يحتمل جميع المؤمنين من كل أمة ، إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وورث سليمان يرثوه . وقيل : المصطفون الأنبياء ، توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخر ، قال الله تعالى : " وورث سليمان داود " {[13152]} [ النمل : 16 ] ، وقال : " يرثني ويرث من آل يعقوب " {[13153]} [ مريم : 6 ] فإذا جاز أن تكون النبوة موروثة فكذلك الكتاب . " فمنهم ظالم لنفسه " من وقع في صغيرة . قال ابن عطية : وهذا قول مردود من غير ما وجه . قال الضحاك : معنى " فمنهم ظالم لنفسه " أي من ذريتهم ظالم لنفسه وهو المشرك . الحسن : من أممهم ، على ما تقدم ذكره من الخلاف في الظالم . والآية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد اختلفت عبارات أرباب القلوب في الظالم والمقتصد والسابق ، فقال سهل بن عبد الله : السابق العالم ، والمقتصد المعلم ، والظالم الجاهل . وقال ذو النون المصري : الظالم الذاكر الله بلسانه فقط ، والمقتصد الذاكر بقلبه ، والسابق الذي لا ينساه . وقال الأنطاكي : الظالم صاحب الأقوال ، والمقتصد صاحب الأفعال ، والسابق صاحب الأحوال . وقال ابن عطاء : الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا ، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى ، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق . وقيل : الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار ، والمقتصد الذي يعبد الله طمعا في الجنة ، والسابق الذي يعبد الله لوجهه لا لسبب . وقيل : الظالم الزاهد في الدنيا ، لأنه ظلم نفسه فترك لها حظا وهي المعرفة والمحبة ، والمقتصد العارف ، والسابق المحب . وقيل : الظالم الذي يجزع عند البلاء ، والمقتصد الصابر على البلاء ، والسابق المتلذذ بالبلاء . وقيل : الظالم الذي يعبد الله على الغفلة والعادة ، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق الذي يعبده على الهيبة . وقيل : الظالم الذي أعطي فمنع ، والمقتصد الذي أعطي فبذل ، والسابق الذي يمنع فشكر وآثر . يروى أن عابدين التقيا فقال : كيف حال إخوانكم بالبصرة ؟ قال : بخير ، إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا . فقال{[13154]} : هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ ! عبادنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا . وقيل : الظالم من استغنى بماله ، والمقتصد من استغنى بدينه ، والسابق من استغنى بربه . وقيل : الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به ، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به ، والسابق القارئ للقرآن العامل به والعالم به . وقيل : السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن ، والمقتصد الذي يدخل المسجد وقد أذن ، والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة ؛ لأنه ظلم نفسه الأجر فلم يحصل لها ما حصله غيره . وقال بعض أهل المسجد في هذا : بل السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين ، والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة لم يفرط في الوقت ، والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة ، فهو أولى بالظلم . وقيل : الظالم الذي يحب نفسه ، والمقتصد الذي يحب دينه ، والسابق الذي يحب ربه . وقيل : الظالم الذي ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد الذي ينتصف وينصف ، والسابق الذي ينصف ولا ينصف . وقالت عائشة رضي الله عنها : السابق الذي أسلم قبل الهجرة ، والمقتصد من أسلم بعد الهجرة ، والظالم من لم يسلم إلا بالسيف ؛ وهم كلهم مغفور لهم .
قلت : ذكر هذه الأقوال وزيادة عليها الثعلبي في تفسيره . وبالجملة فهم طرفان وواسطة ، وهو المقتصد الملازم للقصد وهو ترك الميل ، ومنه قول جابر بن حُنَي التغلبي :
نعاطي الملوك السّلم ما قصدوا لنا *** وليس علينا قتلُهم بمحرّم
أي نعاطيهم الصلح ما ركبوا بنا القصد ، أي ما لم يجوروا ، وليس قتلهم بمحرم علينا إن جاروا ؛ فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين ، فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق بالخيرات . " ذلك هو الفضل الكبير " يعني إتياننا الكتاب لهم . وقيل : ذلك الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير . وقيل : وعد الجنة لهؤلاء الثلاث فضل كبير .
الثالثة- وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل : التقدير في الذكر لا يقتضي تشريفا ، كقوله تعالى : " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " {[13155]} [ الحشر : 20 ] . وقيل : قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم ، والسابقين أقل من القليل . ذكره الزمخشري ولم يذكره غيره . وقيل : قدم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه ، إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه . واتكل المقتصد على حسن ظنه ، والسابق على طاعته . وقيل : قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله ، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله . وقال جعفر بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنه : قدم الظالم ليدبر أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه ، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثم عناية ، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله ، وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " . وقال محمد بن علي الترمذي : جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء ؛ لأن الاصطفاء يوجب الإرث ، لا الإرث يوجب الاصطفاء ، ولذلك قيل في الحكمة : صحح النسبة ثم ادَّع في الميراث . وقيل : أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب ، كما قدم الصوامع والبيع في سورة الحج " {[13156]} على المساجد ، لتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب ، وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله . وقيل : إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى ، كقوله تعالى : " لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم " {[13157]} الأعراف : 167 ] ، وقوله : " يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " {[13158]} [ الشورى : 49 ] ، وقوله : " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " [ الحشر : 20 ]
وغاية هذا الجود أنت وإنما *** يوافى إلى الغايات في آخر الأمر
{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا } : يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم والتوريث عبارة عن أن الله أعطاهم الكتاب بعد غيرهم من الأمم .
{ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } قال عمر وابن مسعود وابن عباس وكعب وعائشة وأكثر المفسرين هذه الأصناف الثلاثة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالظالم لنفسه العاصي والسابق التقي والمقتصد بينهما وقال الحسن : السابق من رجحت حسناته على سيئاته ، والظالم لنفسه من رجحت سيئاته والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته وجميعهم يدخلون الجنة وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له ) وقيل : الظالم الكافر والمقتصد المؤمن العاصي والسابق التقي فالضمير في منهم على هذا يعود على العباد وأما على القول الأول فيعود على { الذين اصطفينا } وهو أرجح وأصح لوروده في الحديث ، وجلالة القائلين به ، فإن قيل : لم قدم الظالم ووسط المقتصد وأخر السابق ؟ فالجواب : أنه قدم الظالم لنفسه رفقا به لئلا ييئس وأخر السابق لئلا يعجب بنفسه ، وقال الزمخشري : قدم الظالم لكثرة الظالمين وأخر السابق لقلة السابقين .