تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُواْ غُزّٗى لَّوۡ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ حَسۡرَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (156)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ }

ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يشابهوا الكافرين ، الذين لا يؤمنون بربهم ، ولا بقضائه وقدره ، من المنافقين وغيرهم .

ينهاهم عن مشابهتهم في كل شيء ، وفي هذا الأمر الخاص وهو أنهم يقولون لإخوانهم في الدين أو في النسب : { إذا ضربوا في الأرض } أي : سافروا للتجارة { أو كانوا غزى } أي : غزاة ، ثم جرى عليهم قتل أو موت ، يعارضون القدر ويقولون : { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } وهذا كذب منهم ، فقد قال تعالى : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } ولكن هذا التكذيب لم يفدهم ، إلا أن الله يجعل هذا القول ، وهذه العقيدة حسرة في قلوبهم ، فتزداد مصيبتهم ، وأما المؤمنون بالله فإنهم يعلمون أن ذلك بقدر الله ، فيؤمنون ويسلمون ، فيهدي الله قلوبهم ويثبتها ، ويخفف بذلك عنهم المصيبة .

قال الله ردا عليهم : { والله يحيي ويميت } أي : هو المنفرد{[167]}  بذلك ، فلا يغني حذر عن قدر .

{ والله بما تعملون بصير } فيجازيكم بأعمالكم وتكذيبكم .


[167]:- في ب: المتفرد.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُواْ غُزّٗى لَّوۡ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ حَسۡرَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (156)

121

ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة ، وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر ، مناديا الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء . ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات :

( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ، وقالوا لإخوانهم - إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى - : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . والله يحيي ويميت . والله بما تعملون بصير . ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ) . .

وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة ، أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة ، والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام ؛ ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات . . وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد ، مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم ، واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة - نتيجة لخروجهم - ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة . ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات ، ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه .

إن قول الكافرين : ( لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) . . ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها ، للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها : سراؤها وضراؤها . . إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله ، متعرف إلى مشيئة الله ، مطمئن إلى قدر الله . إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه . ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع ، ولا يتلقى السراء بالزهو ، ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك ؛ ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا ، أو ليستجلب كذا ، بعد وقوع الأمر وانتهائه ! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة ، كله قبل الإقدام والحركة ؛ فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير - في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج ، فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم ؛ موقنا أنه وقع وفقا لقدر الله وتدبيره وحكمته ؛ وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع ؛ ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله ! . . توازن بين العمل والتسليم ، وبين الإيجابية والتوكل ، يستقيم عليه الخطو ، ويستريح عليه الضمير . . فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة ، فهو أبدا مستطار ، أبدا في قلق ! أبدا في " لو " و " لولا " و " يا ليت " و " وا أسفاه " !

والله - في تربيته للجماعة المسلمة ، وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها - يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا . أولئك الذين تصيبهم الحسرات ، كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق ، أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد :

( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) . .

يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون ، ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري . فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية ، بسبب انقطاعهم عن الله ، وعن قدره الجاري في الحياة .

( ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ) . .

فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا ، أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا . . إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل ، يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج ! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل ، ونداء المضجع ، وقدر الله ، وسنته في الموت والحياة ، ما تحسروا . ولتلقوا الابتلاء صابرين ، ولفاءوا إلى الله راضين :

( والله يحيي ويميت ) . .

فبيده إعطاء الحياة ، وبيده استرداد ما أعطى ، في الموعد المضروب والأجل المرسوم ، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم ، أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة . وعنده الجزاء ، وعنده العروض ، عن خبرة وعن علم وعن بصر :

( والله بما تعملون بصير . . ) . .

/خ179

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُواْ غُزّٗى لَّوۡ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ حَسۡرَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (156)

تحذير من العود إلى مخالجة عقائد المشركين ، وبيان لسوء عاقبة تلك العقائد في الدنيا أيضاً . والكلام استئناف . والإقبال على المؤمنين بالخطاب تلطّف بهم جميعاً بعد تقريع فريق منهم الَّذين تولّوا يوم التقى الجمعان . واللام في قولهم : { لإخوانهم } ليست لام تعدية فعل القول بل هي لام العلّة كقوله تعالى : { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } لأنّ الإخوان ليسوا متكلّماً معهم بل هم الَّذين ماتوا وقُتلوا ، والمراد بالإخوان الأقارب في النسب ، أي من الخزرج المؤمنين ، لأنّ الشهداء من المؤمنين .

و ( إذ ) هنا ظرف للماضي بدليل فعليّ ( قالوا وضَربوا ) ، وقد حذف فعل دلّ عليه قوله : { ما ماتوا } تقديره : فماتوا في سفرهم أو قتلوا في الغزو .

والضرب في الأرض هو السفر ، فالضرب مستعمل في السير لأنّ أصل الضّرب هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به ، فالسير ضرب في الأرض بالأرجل ، فأطلق على السفر للتجارة في قوله تعالى : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللَّه } [ المزمل : 20 ] ، وعلى مطلق السفر كما هنا ، وعلى السفر للغزو كما في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } [ النساء : 94 ] وقوله : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } [ النساء : 101 ] والظاهر أنّ المراد هنا السفر في مصالح المسلمين لأنّ ذلك هو الَّذي يلومهم عليه الكفار ، وقيل : أريد بالضرب في الأرض التجارة .

وعليه يكون قرنه مع القتل في الغزو لكونهما كذلك في عقيدة الكفار .

و { غُزًّى } جمع غاز . وفُعَّل قليل في جمع فَاعل الناقص . وهو مع ذلك فصيح . ونظيره عُفَّى في قول امرىء القيس :

لَهَا قُلُب عُفَّى الحِيَاضضِ أُجُونُ

وقوله : { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } علّة ل ( قَالوا ) باعتبار ما يتضمّنه من اعتقاد ذلك مع الإعلان به توجيهاً للنَّهي عن التشبيه بهم أي فإنَّكم إن اعتقدتم اعتقادهم لحِقَكم أثره كما لحقهم ، فالإشارة بقوله : ( ذلك ) إلى القول الدال على الاعتقاد ، وعلى هذا الوجه فالتعليل خارج عن التشبيه . وقيل : اللام لام العاقبة ، أي : لا تكونوا كالَّذين قالوا فترتّب على قولهم أن كان ذلك حسرة في قلوبهم ، فيكون قوله : { ليجعل } على هذا الوجه من صلة ( الّذين ) ، ومن جملة الأحوال المشبّه بها ، فيعلم أنّ النّهي عن التّشبّه بهم فيها لما فيها من الضرّ .

والحَسرة : شدّة الأسف أي الحُزن ، وكانَ هذا حسرة عليهم لأنَّهم توهّموا أنّ مصابهم نشأ عن تضييعهم الحزم ، وأنَّهم لو كانوا سلكوا غير ما سلكوه لنجوا فلا يزالون متلهّفين على مافتهم . والمؤمن يبذل جهده فإذا خَابَ سَلَّم لْحكم القدر .

وقوله : { والله بما تعملون بصير } تحذير لهم من أن يضمروا العود إلى ما نهوا عنه .